قطر والإمارات والكويت تدين قرار إسرائيل احتلال قطاع غزة    المملكة ترحب بإعلان التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان    خطط أرامكو السعودية التوسعية في النفط والغاز والتكرير تعزز زيادة تدفقاتها النقدية    الفيحاء يتعاقد مع "الخيبري"لمدة 3 سنوات    وزير الخارجية يتحرك دبلوماسياً لوقف الانتهاكات في غزة    برشلونة يعيد شارة القيادة لتير شتيغن    بيع صقرين ب 180 ألف ريال في الليلة الأولى لمنصة المزاد الدولي لمزارع إنتاج الصقور    جمعية فضاء العالية للتنمية الشبابية تختتم برنامج ماهرون الصيفي    ضبط 4 باكستانيين وهندي في الشرقية لترويجهم (32) كجم «لشبو»    السعودية توزّع 847 قسيمة غذائية في عدة محافظات بالأردن    فيصل بن فرحان ووزير خارجية ألمانيا يبحثان التطورات الأخيرة في قطاع غزة    صقارون دوليون يثمنون تسهيلات نادي الصقور في نقل واستضافة الصقور    كأس العالم للرياضات الإلكترونية 2025 .. ختام ربع نهائي بطولة Rainbow Six Siege X    النصر يتحرك لضم جناح منتخب فرنسا    البرازيل «تستنكر» ضغوط أميركا على القاضي المكلف بقضية بولسونارو    مواهب الذكاء الصناعي تضع المملكة ضمن أفضل 20 دولة    "القرني" يختتم دورة تدريب المدربين    أمير جازان يرعى ملتقى أبحاث السرطان 2025 بجامعة جازان    الشيخ أسامة خياط: يدعو لغرس قيم البر والتقوى في الأسرة والمجتمع    الشيخ عبدالباري الثبيتي: سورة قريش تُجسّد أعظم النعم .. الطعام والأمان    المصالح الوطنية السعودية    الخلاف يزداد بين برشلونة وحارسه شتيغن    النفط يتكبد خسارة أسبوعية حادة    سفير جمهورية مالطا لدي المملكة يزور قرية جازان التراثية    الربيعة: تطبيق "نسك" متاح مجانًا دون استهلاك بيانات الإنترنت    أنواع فيتامين D وجرعاته الصحيحة    النصر يكسب ودية "رايو آفي" البرتغالي برباعية    %83 من القراء هجروا المجلات    ضبط مواطن لارتكابه مخالفة رعي في "محمية الإمام تركي الملكية"    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على انخفاض    بمشاركة نخبة الرياضيين وحضور أمير عسير ومساعد وزير الرياضة:"حكايا الشباب"يختتم فعالياته في أبها    «المساحة الجيولوجية»: رصد زلزال في الإمارات بقوة 3.4 درجات    (عشان نصور،،،،،،!)    أمير جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأعيان الدرب    سبعة آلاف خطوة تعزز الصحة    بهدف تطوير الخدمات الرقمية وتعزيز جودة الحياة.. أمانة منطقة عسير توقّع مذكرة تفاهم مع "بلدي" بحضور وزير البلديات والإسكان    نائب وزير الحرس الوطني يطلع على برامج الإرشاد والتوجيه لتعزيز الوعي الديني والفكري    أمير منطقة جازان ونائبه يلتقيان مشايخ وأهالي محافظة الدرب    رئيس وزراء موريتانيا يغادر المدينة المنورة    أمير جازان يستقبل سفير جمهورية مالطا لدى المملكة    العطش يلتحق بالجوع في غزة وتحذيرات من توسيع إسرائيل عملياتها    موسكو تدرس تقديم تنازلات لترمب بشأن أوكرانيا    ديوان المظالم يفتح باب التقديم على التدريب التعاوني لطلبة الجامعات والمعاهد السعودية    المجلس الاستشاري لمركز صحي المرابي يناقش احتياجات الأهالي مع تجمع جازان الصحي لتعزيز الخدمات الطبية    2 مليون دولار لتأمين «ابتسامة» نجمة هوليود    طهران تعدم متهماً بالتجسس لصالح إسرائيل    استهداف (أبو سلة) بطائرات مسيّرة.. اشتباكات بين الجيش اللبناني ومطلوبين في بعلبك    احتفال الفرا وعمران    البدير في ماليزيا لتعزيز رسالة التسامح والاعتدال    الأرصاد: أمطار متفرقة حتى منتصف أغسطس    أم ومعلمة تقتحمان مدرسة لسرقة «امتحانات»    فتح باب التقديم لدعم المشاريع السينمائية    إنجاز طبي في الأحساء.. زراعة منظم ضربات قلب لاسلكي لمريض    فريق سفراء الإعلام والتطوع" يزور مركز هيئة التراث بجازان    الأمير فهد بن سلطان يطلع على نتائج القبول بجامعة تبوك.    مركزي جازان ينجح في إزالة ثلاث عقد في الغدة الدرقية الحميدة بالتردد الحراري دون تدخل جراحي    محافظ تيماء يستقبل مدير عام فرع الرئاسة العامة لهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة تبوك    نائب أمير الرياض يؤدي الصلاة على والدة جواهر بنت مساعد    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معالي الشيخ صالح الحصين -رحمه الله-
الرجل الذي عظم الشريعة ولم يبهره بريق الحضارة صالح بن عبدالله بن حميد
نشر في الجزيرة يوم 19 - 05 - 2013

الحمد لله وحده والصَّلاة والسَّلام على من لا نبي بعده.. وبعد:
فإن الحديث عن الكبار من أهل العلم والفكر ينقطع به صرير الأقلام وتنفد به مداد المحابر، وما ذاك إلا لسمو القدر، وعمق الحكمة، ورصد المواقف والمعارف. والعطاء العلمي
والمتابعة الفكريَّة لمثل هؤلاء يحتاج لهمّة تستوعب تلك المواقف وتعيش معها وتستلهم الدروس من فصولها، كما تبرز الواقع والظروف التي عاشوا فيها، وكشف أدواتهم التي صنعوا بها أمجادهم.
ومعالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله وأنزله عالي الجنّان- جبل أشم وطود شامخ، عرفه عارفوه قائمًا بقيم، وزاهدًا بعلم، ومفكرًا بنضج، وموازنًا بشجاعة، عمله يسبق قوله. وسلوكه يتقدم توجيهه.
تعلّق به وسم المعالي منذ نعومة أظفاره فكانت المعالي ترقبه وما رقبها، أتته وهي راغمة لم يخط سوداء في بيضاء ليسود، ولم يشرئب للغرب ليُسوّد في الشرق، وظف حرفه بِحِرْفَة من غير انحراف، أخذ بخطام دنياه يقودها لا تقوده، أحبَّ المعرفة وزفها لواقعه بقيم دينه ومقاصد شرع ربه.
لن أتكلم عن سيرته الذاتية في علمه وفضله وورعه وزهده منقطع النظير، فقد كتب في ذلك إخوة أفاضل وأحسنوا، وبعضهم كتب عن مواقفه الشخصيَّة معه -رحمه الله- وهي مواقف كريمة فيها العبر والدروس والشهادة وهي مادة ثرية.
ولكني رأيت ألا يكون الكتابة عن رجل في مثل قامة معالي الشيخ صالح بن عبدالرحمن الحصين -رحمه الله- قصصًا وأحداثًا، ورصدًا للسيرة والمسيرة وأن كان هذا جميلاً وممتعًا ومفيدًا وثريًّا، بل حاولت أن تكون كلمات تنشر وعيًا وتبث أملاً للأجيال وصنَّاع التاريخ، فَيُشْرِق من الحدث حديثًا، ومن القصَّة درسًا وعبرةً، لأن في حياة هذا الرَّجل وفي سيرته من الثَّراء والعطاء ما تقوم به الحجة على الأجيال وناشدي الخبرات والمجربين.
معالي الشيخ -رحمه الله- خطا خَطْوهَ في العلم وتحصيله في محاضن علميَّة مُتعدِّدة وفي بلاد متنوّعة، فاخذ العلم نهمًا لا همًا، وسعى إلى التنوّع في المعرفة التي قادها وقيّدها بأصول الشرع وكلِّياته، فتعلم الشريعة ودرسها، ونظر في القانون وحصَّله فاجتمع لديه أصل ووسيلة، فحكم الوسيلة بالغاية، ولم يجعل الوسيلة تعود على الغاية بالابطال أو الإخلال، لقناعته بسيادة الشرع وعلّوه، علمًا وعملاً، وهذا بدوره رسخ عنده -رحمه الله- ثقة عالية بكلِّيات الشريعة وأصولها فأدرك مقاصدها في كثير من الجوانب في الاقتصاد والفلسفة الماليَّة وفصول السياسة الشرعيَّة وتأمَّل التاريخ وسنن الله فيه، فبهذا وذاك أسس بنيانه العقلي والعاطفي والمنطقي على قواعد متينة تصنَّع النجاح وتوظفه من خلال مهام عمله الحكومي، ومشاركته الأهلية، وبذله التطوعي، وتفسيره للظواهر السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
ومجامع الحكمة والحنكة لا تكون إلا بتوفيق من الله للعبد بأن يستعمله في طاعته لينشر شرعه وينفع خلقه.
تواصل معاليه -رحمه الله- مع الغرب فكرًا وحضارةً تواصلاً مشهودًا معدودًا في رواق الإيمان العميق والوسطية في التعاطي التي تعتز بالثوابت وتزاوج بين المُتغيِّرات وفق مقاصد ربانية تؤمن بالعدل وتنتج الاعتدال. يدرك ذلك من سبر سيرته وتأمَّل مكتوبه وملفوظه عندما يتكلَّم عن الغرب ونظرته للحياة وكيف يتعامل -رحمه الله- مع نظريات الغرب وممارساته من صناعة الأحداث أو توظيفها، فلا غرابة في هذا النَّظر الثاقب والعزَّة الشامخة؛ فهو لم يسبقه انبهار وانجذاب بظاهر حياتهم الدُّنْيَا ولا بمظاهر تقدمهم، فقد كان يتحرَّك في تلك الحضارة بعينين: عين القدر المشفقة وعين الشرع الموازنة بوضع الأمور في نصابها، ومن نظر في مقالات معاليه تبيّن له ذلك بجلاء بمثل: (تجربتي في الحوار مع الآخر)، وكتابه الماتع: (التسامح والعدوانية بين الإسلام والغرب) وطرحه المتميز: (جهود الغرب في تحجيم البذل التطوعي الإسلامي لماذا؟) و(العلاقات الدوليَّة بين منهج الإسلام ومنهج الحضارة المعاصرة).
كان معالي الشيخ -رحمه الله- من أوائل من وطئت قدماه أرض أوروبا في حقبة كانت محط النَّظر ومقام الإعجاب من بعض أبناء العرب والمسلمين، ولكن معالي الشيخ -رحمه الله- كان ينظر إليها بِكلِّ ثقة، ينتقي النافع، ويكمِّل الناقص، ويكشف القصور بإحلال القيم والمبادئ الشرعيَّة في الحقِّوق والواجبات ليرسم للغربي والمستغرب عالميَّة الشريعة وشمولها وقيادتها لإصلاح الزَّمَان وإعمار المكان لما فيها من نصوص حاكمة، وكلِّيات ضابطة، واجتهادات محكمة، تعطي كل ذي حقٍّ حقَّه، وفق مناطاتها وأنماطها ووسائلها ومقاصدها.
وحينما يضعف بعض الكتَّاب والمفكِّرين أمام هجمة الغرب على الإسلام والمسلمين لاتهامهم بالعنف والأصولية والعدوانية والتعصب والإرهاب، وحينما يستسلم بعض أبناء العرب والمسلمين أمام هذه الهجمات أو يقف بعضهم مدافعين بضعف أو مبررين بيد مرتعشة وناظرين بفكر مهتز وبصر زائغ يقف هذا الجبل الشامخ والمفكر العميق وقبل ذلك وبعده المتدين الصلب والمؤمن القوي -أحسبه كذلك والله حسيبه- يقف ليتكلَّم بالبرهان وبلغة العلم وبلسان الحجة ويسعدني غاية السعادة أن تكون هذه الكلمة نقولات ومقتبسات من يراعه الشامخ وكلماته السامقة.
ولبيان عمق فكره وقوة حجته: -رحمه الله- فإليك مختصر بعض نظراته في أمور ثلاثة:
أولاً: حول الأصولية والتعصب والعدوانية:
يقول أحسن الله إليه: إن الكتّاب الغربيين والسياسيين والقائمين على وسائل الإعلام في الغرب يصرون على تثبيت صورة الإسلام على أنَّه ثقافة عدوانية تجعل من المسلمين مصدرًا للعنف والإرهاب. ولإيضاح تصور الإسلام في قضية التسامح والعدوانية يشير -رحمه الله- إلى أنَّه لم يكن هناك مفر من المقارنة بالقافة المعاصرة وبالذات الثَّقافة الغربيَّة، موضحًا أنَّه حيث تجري هذه المقارنة فلا بد من الفصل بين الإسلام كما في حقيقته وبين المسلمين على اختلاف عصورهم وأقطارهم، ليس ذلك فقط لأن الإسلام واحد وتصورات وسلوكيات المسلمين مختلفة مُتعدِّدة بل لأنَّه لا أحد يدَّعي أن حياة المسلمين في الوقت الحاضر تجري مطابقة للاسم تصوُّرًا ومنهجًا للحياة.
لا يوجد كتاب دين أو تربية في أيِّ ثقافة غير الإسلام يعطي مساحة للمعاني المذكورة حول التسامح مثلما أعطاها الإسلام.. فالتسامح بمعنى عدم العدوان قيمة مطلقة فريضة على كلٍّ مسلم إِذْ يعني ذلك العدل، والعدل مطلوب من كل واحد لِكُلِّ أحد في كلِّ حال.
اليونسكو في تحديدها للتسامح حدَّدته بِشَكلٍّ قريبٍ من التصور الإسلامي ولذلك فإنَّ فكرة الإسلام عن التسامح كانت واضحة للمنصفين من مفكري الغرب مستشهدًا في ذلك -رفع الله مقامه -بما ذهبت إليه المستشرقة الإيطالية لاورا فيشيا فاجلييري من أنَّه ليس من المبالغة التأكيد على أن الإسلام لم يكتف بالدعوة إلى التسامح الديني بل جعل ذلك جزءًا من قانونه الممارس دائمًا.
إن سماحة الإسلام ويسره اقترنت بحكم ما تقتضيه طبيعة الأمور بسمته العامَّة الوسطية والاعتدال والبعد عن الغلوّ والتطرف والتشدُّد والإسراف ولذلك لم يكن غريبًا أن يتكرَّر في القرآن الثناء على الوسطية والاعتدال والنعي على تجاوز الحدّ وما يَتولَّد عنه من تعصب وبغي وعدوان وأن يتكرَّر ذلك في أكثر من ثمانين موضعًا يعبّر فيها عن تجاوز الحدّ والخروج عن الوسطية والاعتدال بألفاظ الغلوّ والإسراف والطُّغيان والاعتداء.
التسامح طبع سلوك المسلمين بقدر التزامهم لمنهج الإسلام في كلِّ العصور وفي كلِّ الأقطار هو ما يفسر أن انحراف بعض المسلمين عن منهج الاعتدال والتوازن شكّل أول إخفاق للمسلمين في تاريخ الإسلام وكان عاملاً مهمًا في خلق ما واجهه المسلمون من مشكلات فيما بعد وعلى مدى الزمن.
من مؤشرات التسامح في الإسلام إلغاء الطبقية والتمييز العنصري، والتاريخ يكشف في مختلف العصور ومختلف الأماكن عن وجود ظاهرتين في العالم الإسلامي وهما إلغاء الطبقية في المجتمع ومنح الأديان واتباعها الحُرِّية في الاعتقاد والعبادة والتمتع بالحقوق المدنية بصورة لا تمنحها أيّ دولة حديثة للأقليات الموجودة بها.
وقد انتبه عدد من كتاب الغرب لهذه القيمة الإِنسانيَّة «التسامح» من قيم الإسلام وأشادوا بها ومن ذلك ما ذهب به المستشرق البريطاني جيب من أن لدى الإسلام تقليدًا رائعًا من التعاون والتَّفاهم بين مختلف الأعراق ولا يوجد مجتمع آخر كالإسلام كان له مثل سجله في النجاح في أن يوجد المساواة في المركز الاجتماعي والفرص في العمل والنجاح بين مثل هذا العدد والتنوّع من الأجناس البشرية.
في الدَّوْلة الحديثة تسود فكرة مبدأ السيادة ولذا فليس من الممكن أن تمنح الدَّوْلة الحديثة الأقليات فيها ما منحه الإسلام في عصوره المختلفة من حريات وحقوق للأقليات الخاضعة لسلطان المسلمين التي تعتنق أديانًا وثقافات مخالفة وإن كان ذلك لا يعني القول: إن مثل هذه الدول تعادي التعدُّدية غير أن قبول الإسلام ديانة وتاريخًا منح الأقليات الإثنية التي تكون تحت سلطان تلك الحريات والحقوق إنما يعد دليلاً منطقيًا على طبيعة الإسلام في صلته بالتسامح أو التعصب ومدى قابليَّته للتعددية ومدى قدرته على التَّعايش مع الأفكار والثّقافات المخالفة.
قد تمتعت الأقليات في ظلِّ سلطان الإسلام بالحرِّية الكاملة في ممارسة دينها وعباداتها وفي استمرارها في استخدام لغتها وعاداتها وطرق تربية أبنائها كما بقيت لها الحُرِّية في الاستقلال بقوانينها وقضائها واستثنت من القانون الجنائي العام الإسلامي.
وعلى صعيد العلاقات الدوليَّة: إن المبدأ الذي يرتكز عليه منهج الحضارة الغربيَّة في العلاقات الدوليَّة لا يختلف عن المبدأ الذي يحكم سلوك قاطع الطَّريق أو عصابات الجريمة المنظمة، بل سلوك الحيوانات في الغابة، مؤكِّدًا أن منهج الإسلام في العلاقات الدوليَّة يختلف عن منهج الحضارة المعاصرة اختلافًا كليًّا، إِذْ يرفض الإسلام من البداية أن تبنَّى العلاقات الدوليَّة على المصلحة الوطنيَّة أو القُوَّة ويفرض أن تبنَّى على العدل والقُوَّة الإلزامية للاتفاقية في ضوء ما هو معروف أن الاتفاقات بين الدول هي المصدر الرئيس للقانون الدولي.
ثانيًا: العمل التطوعي:
وفي موقفه من العمل التطوعي وإفرازات أحداث الحادي عشر من سبتمبر تراه بعينه الباصرة ورؤيته الثاقبة يقرر أن من أهم آثار «أن يكون البذل التطوعي مكوِّنًا مهمًا من مكوِّنات شخصيَّة المسلم» أن الحضارة الإسلامية قامت على أساس «البذل التطوعي» وقد أكْسَبَها ذلك خصائصها التي انفردت بها عن الحضارات الأخرى ومن أهمها:
أ‌- أنّها حضارة شعبية بمعنى أنّها ليست كغيرها من الحضارات من صنع الأباطرة والملوك أو القوى العسكريَّة والسياسيَّة وإنما كانت تقوم كلية -تقريبًا- على «البذل التطوعي» من جمهور المسلمين.
ب‌- أنّها حضارة إِنسانيَّة لأن الدافع لمنجزاتها دائمًا قصد البر والتَّقوى سواء في مواجهة الإِنسان أو الحيوان أو البيئة.
ج- أنّها نتيجة للأمرين كانت دائمًا تستعصي على الظروف المتغيّرة من أن تكون عاملاً لانهيارها، فالتقلُّبات السياسيَّة، والحروب واكتساح الغزاة للعالم الإسلامي من الصليبين والتتار، هذه العوامل لم يترتَّب عليها انهيار الحضارة، بل ظلَّت باقية مستمرة العطاء.
في عقيدة المسلم، أن أيّ جهد يبذل للنفع العام مع الإخلاص هو في سبيل الله، وأن الصد عن سبيل الله بأيِّ وجه يستحقُّ ما وصفه الله به في القرآن، وتوعد عليه، ففي سورتي الفجر والماعون نعى على من لا يحض ّ على طعام المسكين فكيف بمن يعوق إطعامه، لقد أوضح القرآن الكريم أن منع الإِنسان من العبادة الخاصَّة النَّفع به من أشنع الظلم، فكيف بمنع العبادة التي يتعدى نفعها إلى الغير. وعندما يغفل أهل البلد عن هذا الجانب فلا يقدر قدره، فقد يغفلون أيضًا عن آثار هذا الوضع المدمر على أمن المجتمع واستقراره وسلامته، ليس الأمر قاصرًا على تعويق مواجهة الحاجات الأساسيَّة للبشر من طعام وغذاء وإيواء وتعليم وتهيئة للعيش الكريم، بل حرمان النَّاس -ولا سيما شبابهم- الذين تملأ قلوبهم ومخيلاتهم الأشواق إلى المثل العليا والإرضاء النفسي بالبذل للغير، حرمانهم من المجالات النَّافعة السَّلِيمَة فيدفعهم الإحساس بالفراغ Existential Vacuum والحرمان من البذل للغير والحاجة النفسية الملحة لمثله إلى مجالات قد لا تكون نافعة ولا سليمة.
مغزى ما تقدم أن البذل التطوعي في سبيل النَّفع العام في جانب الإِنسان المسلم ليس فقط وسيلة للإرضاء النفسي ومِنْ ثمَّ تلبية لحاجة طبيعيَّة للإِنسان السوي، بل هو عبادة وشوق على رضا الله وتلبية لنداء ملح من الضَّمير والوجدان.
هذا يعني أن أيّ تحديد لفرصة الإِنسان المسلم في ممارسة البذل التطوعي للنفع العام لن يكون فقط مُجرَّد انتهاك للحرِّية الشخصيَّة والمدنية، بل انتهاك لحق الإِنسان في حرية العبادة وحرية الضمير.
المقصود من إيراد ما سبق هو التقييم الصحيح لجهود الغرب الجادة في تحجيم البذل التطوعي في العالم الإسلامي ومن أبرز مظاهر ذلك جهوده في تحجيم النَّشاط الخيري لبلدان الخليج في الخارج، ونشاط الغرب الدعائي المحموم في هذا المجال:
أ‌- فور غياب «الشيوعية» عدو الرأسماليَّة «الأحمر» رشح الغرب «الإسلام» عدوًا بديلاً وسماه العدو الأخضر (كان أول تصريح معلن بذلك الترشيح قد صدر عن الأمين العام لحلف الأطلسي) ومنذ ذلك الوقت بدأت التهيئة لحرب باردة بديلة «الرأسماليَّة الغربيَّة» في مواجهة «الإسلام» وبرز من وقت مبكر من مظاهر هذه الحرب قرن الإسلام ب»الأصولية» و»العنف» ففي النصف الأول من العقد الأخير للقرن المنصرم كانت أوروبا كلّّها تشاهد فيلم «الإرهاب في سبيل الله» وكانت أمريكا تشاهد الفيلم الوثائقي «الجهاد في أمريكا».
ب‌- ومن الحقائق أن التَّخْطِيط الغربي الذي كانت إجراءاته تنشط على قدم وساق لتنصير مجتمعات إسلاميَّة معينة، قد واجه معوقًا جديًّا لانتشار التنصير من قبل بعض المؤسسات الخيريَّة الخليجيَّة، فكان من الطّبيعي أن تتصدى القوى الامبريالية لإضعاف هذا المعوق أو إزالته.
ثالثًا: احتفاؤه بأقوال المنصفين:
ويعجبه -رحمه الله- أن يستشهد بكلام من منصفي الغرب وعقلائهم وفلاسفتهم ومفكريهم قصدًا منه أن يخاطبهم أو يخاطب من يسير في ركابهم بما يكون أقرب للإقناع لِمَنْ يريد الحق وينشد الحقيقة.
وهذه قبسات من بعض استشهاداته حول اعتراف هؤلاء المفكِّرين بالحاجة إلى الإسلام وقيمه مهما بهرت الإنجازات الحضارية والمكتسبات والمخترعات الجديدة.
فمما نقله واستشهد به قول محمد أسد: «ولا تظهر إشارة إلى أن البشرية في حالتها الحاضرة قد تجاوزت الإسلام، فلم تتمكن من إنتاج نظام أخلاقي خير مما تضَّمنه الإسلام، ولم تتمكن من وضع فكرة الاخوة البشرية على أساس عمليّ كما فعل الإسلام في معنى الأمة.. ولم تتمكن من إعلاء كرامة الإِنسان وشعوره بالأمن ورجائه الأخرويّ -أخيرًا وليس آخرًا- سعادته».
«في كلِّ هذه الأشياء فإن الإنجازات الحديثة للبشرية أقصر بوضوح عمَّا حقَّقه الإسلام فأين المسوّغ -إذًا -لمقولة: إن الإسلام قد انتهى زمنه؟».
« لدينا كل الأسباب لنعتقد أن الإسلام قد دلت عليه كلّ إنجازات البشرية الصحيحة أنّه قررها وأشار إلى صحتها قبل تحقيقها بزمن طويل، ومساويًّا لذلك فقد دلّت عليه أيضًا النواقص والأخطاء والعقبات التي صاحبت التطوّر البشريّ؛ لأنّه حذّر منها بقوة ووضوح قبل أن يتبيّن البشر هذه الأخطاء بزمن طويل».
«ولو صرفنا النَّظر عن الاعتقاد الديني للفرد فإن في وجهة النَّظر الفكريَّة حافزًا لاتباع هداية الإسلام العملية بِكلِّ ثقة». انتهى.
ولقد كتب ريتشارد نيكسون، الرئيس الأسبق للولايات الأمريكيَّة، في آخر مؤلفاته المعنون Beyond Peace ما يأتي:
«أصولية الإسلام عقيدة قوية... إنّها تستجيب لحاجات الرُّوح وليس لحاجات الجسد (فقط) والقيم العلمانية في الغرب لا تستطيع أن تغالبها، وكذلك لا تستطيع ذلك العلمانية في العالم الإسلامي».
خاتمة:
وأختم هذه الكلمة بهذه الواقعة التي تعكس شخصيته في تواضعه وفلسفته منذ كان يافعًا:
حينما كان شابًا في أول عمله موظّفًا في وزارة الماليَّة كلف مع زميل له في مهمة عمل لفرنسا وحينما دخلا أحد المطاعم، والفرنسيون لا يتكلمون الإنجليزية ويصرون على الحديث بلغتهم وزميله دارس في أمريكا ويجيد الإنجليزية وكان يحاول جهده ما استطاع أن يحدثهم باللُّغة الإنجليزية ولم يفلح أن يتوصل إلى شيء وطال الجدال وضاقت الأنفس، فما كان من الشيخ صالح وهو الذي يجيد الفرنسية والعليم بها إلا أن نطق بكلمات يسيرة أنقذت الموقف وانقضى بها الغرض، فالتفت إليه صاحبه قائلاً: أما كان هذا مبكرًا حتَّى نسلم من هذا التوتر؟ فقال الشيخ بصوته الهادئ الهامس الواثق: أتكلم باللُّغة الأجنبية إلا من أجل الحاجة وبقدر الحاجة.
نعم إنّه الدرس البليغ من هذه الشخصيَّة العزيزة المؤمنة فعند الشيخ أن اللُّغة الأجنبية والرطانة ليست محل فخر ولا اعتزاز ولكنَّها حاجة فقط. ناهيكم بمن يراها رمز التقدم، بل لا يَرَى تقدمًا إلا على حساب لغته ووطنه، فيلوك لسانه بالرطانة وكأنّه قد حاز المجد في برديه وهو لا في العير ولا في النُغيِّر فالله المستعان.
وبعد هذه الكلمات المختصرة عن جميل سيرة وصدق سريرة، فإني أوصي بدراسة شخصيَّة هذا العالم دراسة تكشف مكوِّنات فكره وطبيعة تعامله مع المعرفة وتحليله للنظريات والظواهر.
كما أوصي بعمل مؤسسي يعني نظريات معالي الشيخ -رحمه الله- واعتبارها في منظومة الأعمال التطوعية والماليَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.
سائلاً المولى عزَّ شأنه أن يرحم معالي الشيخ رحمة واسعة وأن يبارك في ذريته وعلمه وما بذل من أعمال. وأن يرفع درجاته في عليين وألا يحرمنا أجره ولا يفتنا بعده إنه سميع مجيب.
- مكَّة المكرمة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.