وقفات احتجاجية ومسيرات تنديدية ومطالبات شعبية باستعادة الأموال المنهوبة واسترداد الحقوق المسلوبة. برامج ال «توك شو» تصيح ليلاً وتصرخ نهاراً معترضة تارة على الإجراءات وتارة ضد السلوكات. النائب العام يحاول، ومباحث الأموال العامة تصارع، وقوائم الممنوعين من السفر تناضل. وبدلاً من الاحتجاج على الكهرباء المقطوعة مع أول هبة صيفية، أو الاعتراض على خناقات الأحزاب مع أول طلعة تنظيمية، أو متابعة الأمن القومي المهدد من جهة باب المندب أو المتفجر ناحية الجماعات المتناحرة غرباً أو المتربصة شرقاً، وحتى التفكير في ما قد يحمله الغد القريب غير المعلوم من إلغاء للدعم أو تخفيف للأحمال أو غلاء في الأسعار، إذ بالجميع منغمس في ما فعله «المستريح» في أبناء المحروسة، وما اقترفه أبناء المحروسة للمرة المليون من هروب من مقلاة الستر إلى نيران الطمع. طمع الحصول على فوائد آنية ومكاسب اقتصادية وارتقاء فوري من شقة إيجار إلى عمارة تمليك، ومن موظف صغير إلى رجل أعمال كبير أوقع آلاف المصريين في حيص بيص مع قرار «المستريح» أن يحزم أمتعته ويغلق مكتبه ويرحل إلى مكان غير معلوم سوى لمحاميه حاملاً معه موازنة دولة صغيرة وإنفاق وزارة كبيرة وتحويشة عمر ناس كثيرة. كثرة المشكلات وتواتر الأزمات على حياة المصريين على مدى عقود، من ضيق ذات يد مزمن ومحدودية أفق تخطيط مستمرة وإستراتيجية اكتناز تحويشة العمر تحت البلاطة أو فوق الخزانة أو داخل الوسادة وقفت حائلاً بينهم وبين تحقيق أحلامهم عبر استثمار حقيقي أو مشروعات فعلية أو جهود منطقية. المنطق الذي أبدع المصريون في دكه قبل أشهر هو نفسه الذي أدخلهم طواعية في طوفان توظيف أموال الثمانينات حيث بركة المال الحلال والربح بالصلاة على النبي (صلى الله عليه وسلم) والغنى بفعل طراوة الإيمان. كان ذلك وقت توظيف الأموال الحلال عبر مشايخ توظيف الأموال الذين أتوا على حصيلة سنوات الشقاء في دول الخليج وعقود التغريب في العراق ودوامة الأعمال الدونية في ليبيا، وهي البلايين التي تبخرت في هواء الهروب الكبير خارج الحدود أو الانزواء في دهاليز المحاكم سنوات وسنوات. ومن توظيف الأموال الإسلامي حيث الربح زائد الجنة، إلى توظيف الأموال الليبرالي حيث الربح زائد مصانع سماد وهمية وقرى في الغردقة سياحية، إضافة إلى إمكانية الفتنة الطائفية في حال تعثرت الأمور أو تأزمت الأوضاع. «المستريح» أو أحمد مصطفى «الصعيدي الذي لا يأكل حق أحد» وفق توصيفه الذي أكل بليوني جنيه مصري حصيلة تحويشات عمر الآلاف من أبناء الصعيد وبعضهم من أبناء وجه بحري نجح في صبغ خدعة توظيف الأموال ووهم بيع الأحلام والرقص على رغبة قطاعات عريضة من المصريين في الغنى الفاحش السريع بصبغة ليبرالية. لم يدق على أوتار الدين أو يرقص على أنغام الربح الحلال، فخلع حلة «البركة» وفوائد الإيمان وارتدى بدلة فهلوة الفسيخ المتحول شربات والقروش المتفجرة ملايين. ولم يكتف بهذا، بل قوّى أواصر الوحدة الوطنية وعمّق مآثر أبناء الوطن من المسلمين والمسيحيين بتركيز تشغيل الأموال وتفجير الأرباح على عائلتين من أكبر عائلات الصعيد، إحداهما مسلمة والأخرى مسيحية. ولما قرّر الاكتفاء بما جمع والفرار بما تبقّى بعد سداد فوائد مغرية بنسبة 12 في المئة للمودعين - على سبيل تأكيد الجدية - اختفى وخلّف وراءه تهديداً مبطناً وتشكيكاً مصرحاً به بأن أية محاولات للنيل من «تعثره» في السداد ستسفر عن فتنة طائفية تلهب الوطن وتحرقه حرقاً، حيث مندوبو شركاته الوهمية من المسلمين والمسيحيين. لكن تحويشة العمر المنتزعة من دفء البلاطة إلى برودة التشغيل في سراب السوق لا تفرّق في آثارها بين مسلم ومسيحي، فكلاهما للنصب ضحية وللأوهام المغلّفة بالأطماع هدية. ملايين المصريين يتابعون على مدار الساعة بكل الشغف والتلف والأنف قصة «المستريح» وضحاياه وبلايينهم المنهوبة. فبين شغف المعرفة بما فعله، إلى تلف القلوب وهلع العقول والمصائب التي ضربت آلاف البيوت والأسر ممن أودعوا تحويشة العمر معه، وأخيراً إلى أنف التعامل مع نسخة الألفية الثالثة من متلازمة النصب والاحتيال التي هي الوجه الآخر من مأساة الطمع وضيق الحال مع الحلم والخيال. المختالون والمختالات من نجوم الفضائيات يصبون جام غضبهم على من وقعوا ضحايا المحتالين والمحتالات من نجوم توظيف الأموال. مطالبات نخبوية في الفضائيات تقترب من الحجر على أموال البسطاء طوراً، وتتهمهم بالهبل تارة، وتعود إلى النقطة المعتادة من التساؤل: «وأين كانت الحكومة وقت ظهر المستريح وتوغل وتمدد وتشعب ثم اختفى»؟ إنها النُقطة الأبدية حيث دور الحكومة والمؤدية إلى النَقطة المصرية حيث معلومة «السماء لا تمطر ذهباً» مرفوضة ومكروهة. وإن سلم بعضهم بها حيناً فإن بعضهم الآخر يقتات عليها من أمثال «المستريح» وفريق ثالث يستريح من دنياه بسكتة قلبية أو صدمة دماغية بعد ضياع تحويشة العمر.