الجيش الأمريكي: الحوثيون أطلقوا صواريخ وطائرات مسيرة    الأخضر يواصل استعداداته لمواجهتي باكستان والأردن    ولي العهد يتوج فريق الهلال بكأس خادم الحرمين الشريفين للموسم الرياضي 2023 – 2024    الإعلان عن إطلاق معرض جدة للتصميم الداخلي والأثاث    مدينة الحجاج "بحالة عمار" تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    الاتحاد الأوروبي يرحب بمقترح "واقعي" لوقف النار في غزة    الأمم المتحدة تحذر من خطر تعرض ملايين السودانيين للمجاعة    مدينة الحجاج بحالة عمار تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    أسعار النفط تتراجع قبيل اجتماع "أوبك+"    200 دولة في العالم و66 قناة تلفزيونية نقلت نهائي كأس الملك    جمعية لياقة تستقبل وفد سفارة الولايات المتحدة الأمريكية بعرعر    سفير المملكة لدى اليابان: العلاقات السعودية اليابانية خلال السبعين السنة القادمة ستكون أكثر أهمية    جامعة الطائف تقفز 300 مرتبة في تصنيف RUR العالمي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يطلق خدمة (المرشد التوعوي الرقمي)    استقبال الحجاج عبر منفذ البطحاء بالمنطقة الشرقية    انجاز جديد لميتروفيتش بعد هدفه في كأس الملك    بمتابعة وإشراف أمير تبوك.. مدينة الحجاج ب«حالة عمار» تقدم خدمات جليلة ومتنوعة لضيوف الرحمن    ركلات الترجيح تمنح الهلال لقب كأس الملك على حساب النصر    بونو يُبكّي رونالدو بْزَّاف    موعد مباراة ريال مدريد وبورسيا دورتموند اليوم في نهائي دوري أبطال أوروبا    "أرامكو" ضمن أكثر 100 شركة تأثيراً في العالم    رصد 8.9 ألف إعلان عقاري مخالف بمايو    تدريب 45 شاباً وفتاة على الحِرَف التراثية بالقطيف    الإبراهيم يبحث بإيطاليا فرص الاستثمار بالمملكة    "كروم" يتيح التصفح بطريقة صورة داخل صورة    ضبط مقيمين من الجنسية المصرية بمكة لترويجهما حملة حج وهمية بغرض النصب والاحتيال    اختتام ناجح للمعرض السعودي الدولي لمستلزمات الإعاقة والتأهيل 2024    ثانوية «ابن حزم» تحتفل بخريجيها    ترمب: محاكمتي في نيويورك «الأكثر جنوناً»    ضبط مواطنين في حائل لترويجهما مادة الحشيش المخدر وأقراصًا خاضعة لتنظيم التداول الطبي    الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقوم بزيارة تفقدية    مشرف «سلمان للإغاثة»: 129 مليار دولار حجم المساعدات السعودية ل169 دولة في 28 عاماً    وكيل إمارة حائل يرأس اجتماع متابعة مكافحة سوسة النخيل الحمراء    خلافات أمريكية - صينية حول تايوان    «الجمارك»: إحباط تهريب 6.51 مليون حبة كبتاغون في منفذ البطحاء    خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والنبوي    رياح مثيرة للأتربة والغبار على مكة والمدينة    5 مبتعثات يتميّزن علمياً بجامعات النخبة    وزير الداخلية يدشن مشاريع أمنية بعسير    "سامسونغ" تستعد لطرح أول خاتم ذكي    ترقية 1699 فرداً من منسوبي "الجوازات"    المملكة ضيف شرف معرض بكين للكتاب    توجيه أئمة الحرمين بتقليل التلاوة ب"الحج"    أطعمة تساعدك على تأخير شيخوخة الدماغ    الرياضة المسائية أفضل صحياً لمرضى للسمنة    ثانوية ابن باز بعرعر تحتفي بتخريج أول دفعة مسارات الثانوية العامة    الخريف لمبتعثي هولندا: تنمية القدرات البشرية لمواكبة وظائف المستقبل    وزير الداخلية للقيادات الأمنية بجازان: جهودكم عززت الأمن في المنطقة    الأمير فهد بن سلطان: حضوري حفل التخرُّج من أعظم اللحظات في حياتي العملية    «الدراسات الأدبية» من التقويم المستمر إلى الاختبار النهائي !    كيف تصبح زراعة الشوكولاتة داعمة للاستدامة ؟    5 أطعمة غنية بالكربوهيدرات    المملكة تستضيف الاجتماع السنوي ال13 لمجلس البحوث العالمي العام القادم    كيف نحقق السعادة ؟    المعنى في «بطن» الكاتب !    تشجيع المتضررين لرفع قضايا ضد الشركات العالمية    عبدالعزيز بن سعود يلتقي عدداً من المواطنين من أهالي عسير    أمير القصيم يكرم 7 فائزين بجائزة الأميرة صيتة بنت عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عشر سنوات على غياب الامبراطورية السوفياتية . شبح الاتحاد السوفياتي لا يزال يطارد بوتين والجمهوريات المجاورة لروسيا
نشر في الحياة يوم 07 - 01 - 2002

كل ملابسات المؤامرة، كما في الروايات البوليسية المثيرة، توافرت في عملية انهيار الاتحاد السوفياتي ومحوه من خريطة العالم. ففي أجمة بيلوفيجيا، في أعماق الغابات المجاورة لمدينة مينسك - عاصمة بيلورسيا - جرت تلك العملية في سرية تامة، تحت حراسة مشددة، اذ انتشر رجال الامن تحت كل شجرة.
واتخذ القرار، ولم ترتجف يد في توقيعه على رغم المشاعر المتضاربة. وكان الرئيس الاميركي جورج بوش الأب أول من أبلغه الرئيس السابق بوريس يلتسن الخبر، فيما كان الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف بعيداً، في موسكو، لا يعرف من أخبار الطبخة شيئاً! ويبدو ان وزير دفاعه المارشال يفغيني شابوشنيكوف كان على علم، إلا انه لم يضع رئيسه في الصورة. وعندما جرى اتصال هاتفي مع غورباتشوف وأبلغوه، من مينسك، بنبأ سقوط الامبراطورية التي يرأسها، تطلع الى شابوشنيكوف مذهولاً، فأجابه بأن لا علم له بالأمر، ثم استدرك ليؤكد الخبر. وعندما عرف غورباتشوف انهم أبلغوا بوش قبله، اشتاط غضباً، ولم ينس تلك الحادثة مطلقاً.
لم تكن "اتفاقات بيلوفيجيا" بداية لانهيار الاتحاد السوفياتي، بل كانت خاتمة لعملية بدأت منذ زمن.
دور غورباتشوف
تولى هذا الرجل المدني منصب الأمين العام للحزب الشيوعي السوفياتي سنة 1985 بعد "كوكبة" من الأمناء العسكريين، ابتداء من ستالين، مروراً بخروشوف وبريجنيف، وانتهاء بالجنرال الأمني اندروبوف، الذين بنوا القدرات الحربية الهائلة للبلاد. الا ان عشرات السنين من التقشف العسكري، خلفت عشرات المشاكل المعيشية والاقتصادية.
وكان غورباتشوف في بداية عهده قد وعد بنهضة اقتصادية شاملة للاتحاد السوفياتي في غضون عامين. إلا ان خيبة الأمل جاءت على أشدها. واعتباراً من العام 1988 انتشر رأي يقول ان انتخاب هذا الرجل كان غلطة فاحشة، وان "رباعي" غورباتشوف - ياكوفليف - ميدفيديف - شيفاردنادزه هو الذي قاد الاتحاد السوفياتي الى حتفه. ويزعم الشيوعيون ان هذه "الزمرة" كانت تضفي على مصالحها الشخصية لبوس السياسة الاستراتيجية للحزب الذي لا ذنب له في ما آلت اليه الأمور.
كان واضحاً ان الامبراطورية بحاجة الى اصلاح وترميم. وجاءت اجراءات غورباتشوف التي وصفت بالاصلاحات الجذرية المصارحة والانفتاح والتغيير تحمل معنيين. فالبعض، وخصوصاً "الغربيون" صفقوا لها، فيما استفظعها آخرون، على رغم ادعاءات الشيوعيين بأنهم هم ايضاً لا ينكرون ضرورة الاصلاح، إلا ان الامبراطورية انحدرت سريعاً الى الهاوية.
ولم تترك الأوضاع الاقتصادية المتردية وتصاعد النزاعات العرقية المسلحة مجالاً لسيناريوهات متفائلة، فأي محاولة لشد العضلات مرشحة لتأجيج المواجهة وإراقة الدماء وللفشل المحتم ايضاً. وفي هذا السياق، تردد ان غورباتشوف كان ينوي القيام بمحاولة كهذه، فبدأ مشاورات مع كبار الجنرالات، الا ان أحداً منهم لم يصغ اليه.
كانت هناك بالطبع أسباب موضوعية كثيرة لتفكك الاتحاد السوفياتي الذي تم على مرأى من الجميع، في داخل البلاد على الأقل، الا ان ثمة ايضاً اسباباً ذاتية تركت بصمتها واسقاطاتها على الأسباب الموضوعية. ويرى المحللون ان البوتقة الذاتية التي اختمرت فيها الحصيلة الموضوعية تتمثل في النفور المتجذر بين يلتسن وغورباتشوف. وقال ليونيد كرافتشوك رئيس البرلمان الأوكراني آنذاك "ان يلتسن في حقده الأعمى على غورباتشوف ورغبته في اطاحته كان مستعداً لأن يتنازل ليس فقط عن القرم وسيواستوبول بل عن أمه التي ولدته".
والمفارقة ان الاتحاد السوفياتي كان موجوداً بالنسبة الى زهاء مئتين وخمسين مليوناً من سكانه وغير موجود بالنسبة الى مجموعة صغيرة من السياسيين العارفين بحقيقة الأمور. كان موجوداً من الناحية الحقوقية، وغائباً من الناحية العملية. فليس هناك دولة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. لم تعد هناك عملة ولا بنك مركزي ولا قوانين جمركية مشتركة. لم تكن هناك دولة في روسيا أو غيرها من الجمهوريات، لم تكن هناك دولة في الاتحاد السوفياتي نفسه، حتى الجيش لم يعد موجوداً بمعنى ما. وفي ظروف كهذه لا يمكن لكيان دولي مشحون بالأسلحة النووية ان يواصل الحياة.
ويرى يغور غايدار رئيس أول حكومة في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي انه لا بديل لاتفاقات بيلوفيجيا سوى تطور الاحداث بالسيناريو اليوغوسلافي. ويتابع: لو ان تلك الاتفاقات لم توقع في 8 كانون الأول ديسمبر 1991 لاستمر الاتحاد السوفياتي شكلياً بعض الوقت، إلا ان الفوضى الأوسع نطاقاً كانت ستعم البلاد حتماً.
وقال بوريس نيمتسوف نائب غايدار آنذاك: "بفضل غايدار تفادينا الحرب الأهلية والمجاعة". وزاد ان الاتحاد السوفياتي انهار في الواقع في 19 آب اغسطس 1991 عندما احتجز غورباتشوف تحت الإقامة الجبرية في مصيف فاروس القرم، وتحولت الجمهوريات الاتحادية دولاً ذات سيادة. اما يوم 8/12/1991 فقد شهد سقوط الاتحاد السوفياتي رسمياً.
يذكر ان معاهدة قيام الاتحاد السوفياتي وقعت في حفل مهيب اقيم في مسرح بولشوي، العام 1922، حضرته أربع جمهوريات هي روسيا وأوكرانيا وبيلوروسيا والقوقاز. وفيما بعد فككت الجمهورية القوقازية وانضمت دولها الى الاتحاد على انفراد، كما انضمت دول اخرى حتى بلغ العدد 15 جمهورية.
وفي 1991 انتهى الاتحاد السوفياتي رسمياً بعدما غدا أقرب الى الوهم منه الى الواقع الملموس. وفي وثيقة تأسيس رابطة الدول المستقلة ورد تعبير موجز غير مسبوق في التاريخ العالمي يشهد بنهاية الامبراطورية السوفياتية باليوم والساعة والدقيقة. والسبق من هذه الناحية غني عن البيان، فلا أحد يجزم مثلاً متى سقطت على وجه التحديد الامبراطورية الرومانية أو البريطانية أو غيرهما. أما معاهدة الرابطة فقد أملت ما يلي: "بهذا انتهى وجود اتحاد الجمهورية الاشتراكية السوفياتية كواقع جيو - سياسي وطرف من أطراف القانون الدولي".
وبعيداً عما ذكرته المعاهدة عن ضمان الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في ظل الكيان الدولي الجديد الذي حل محل الاتحاد السوفياتي، وبعيداً عن حقيقة هذا الكيان وتناقضاته وما آل اليه، فإن أهمية تشكيله تفوق التقدير دولياً، فتنفس المجتمع الدولي الصعداء، فيما كانت فرائص الاميركيين ترتعش خوفاً من الفراغ السياسي ومن فلتان زمام الصواريخ البالستية العابرة للقارات، المتناثرة في غابات عدد من الجمهوريات السوفياتية.
وكانت الرابطة، في رأي المراقبين عاملاً ناجحاً لحقن الدماء، فتناثرت أشلاء الاتحاد السوفياتي في اطارها من دون إراقة قطرة دم. وكانت للرابطة بالطبع مزايا اخرى، فبفضلها أمكن الحفاظ على قدر مشترك من النواحي العسكرية والثقافية والاعلامية، وتوافرت حرية التنقل نسبياً لسكان الامبراطورية السوفياتية بعد تقوضها. إلا ان زعماء الجمهوريات ظلوا حتى الآونة الأخيرة يرتابون في نيات روسيا، متصورين ان الروس يبيتون خططاً لاستخدام الرابطة لإحياء الإمبراطورية الروسية التي كانت قائمة قبل ثورة اكتوبر البلشفية 1917.
وعلى رغم ان الرابطة تألفت، يوم انهيار الاتحاد السوفياتي، من ثلاث دول سلافية فقط، فإن زعماءها كانوا على ثقة تامة بانضمام سائر الجمهوريات السوفياتية اليها. كان هناك أكثر من مؤشر على هذا الاتجاه، فأخذه المؤسسون الثلاثة بالاعتبار في وضع التراكيب والبنيات الاقتصادية والعسكرية والسياسية للمنظمة الدولية الجديدة، ولم يكن ثمة، في أغلب الظن، مفر أو خيار آخر امام تلك الجمهوريات، عدا دول البلطيق في قلب أوروبا.
يقول سرغي شاهراي، وهو خبير حقوقي كبير صاغ وثائق تفكيك الاتحاد السوفياتي وكان مستشاراً قانونياً ليلتسن، انه فوجئ بتطورات الاحداث، "في بادئ الأمر توجه وفد حكومي روسي برئاسة رئيس مجلس الشعب بوريس يلتسن الى مينسك لتوقيع عدد من الاتفاقات الاقتصادية. وقرر يلتسن وستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس مجلس الشعب البيلوروسي اغراء ليونيد كرافتشوك رئيس مجلس الشعب الأوكراني الذي انتخب رئيساً لجمهورية اوكرانيا المستقلة بالقدوم اليهما بحجة الذهاب في رحلة صيد. وكان كرافتشوك رفض سابقاً الدخول في أي محادثات مع موسكو ومينسك في شأن تجديد الاتحاد السوفياتي. الا ان الهدف من استدعائه هذه المرة اقناعه بقبول صيغة مختصرة لمهمات اتحادية محدودة تقتصر على الدفاع والفضاء الكوني".
وعندما وصل كرافتشوك الى بيلاروسيا توجه الى الصيد رأساً من دون ان يلتقي يلتسن أو شكوشكيفيتش. واصطاد خنزيراً برياً. فتحسن مزاجه على ما يبدو، فجلس الى مائدة المحادثات التي لم تسفر عن نتيجة في 7/12/1991. وعندما ظهرت مسودة معاهدة الرابطة صباح اليوم التالي شطب الوفد الأوكراني أي ذكر فيها للاتحاد السوفياتي. وبعد تنقيحات متكررة، جرى اتصال هاتفي برئيس جمهورية كازاخستان نور سلطان نزارباييف، وعندما اتضح انه لن يتمكن من المجيء وقع الرؤساء الثلاثة الوثيقة.
وجرت محاولة للاتصال بالرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف لإبلاغه بسقوط الاتحاد السوفياتي فلم يعثروا عليه، ونشأ انطباع لديهم بأنه لا يريد الكلام معهم. وعندما وجدوه تم الاتصال على خط آخر مع الرئيس الاميركي جورج بوش الأب. فجرى الحوار مع الرجلين في وقت واحد، كما يؤكد شاهراي. وكان شوشكيفيتش يتكلم مع غورباتشوف، فيما تكلم يلتسن مع بوش، والمترجم هو وزير خارجية روسيا اندريه كوزيريف.
ويضيف شاهراي انه لم يكن واثقاً ان التوقيع على المعاهدة سيتم. فعندما أعد الوفدان الروسي والبيلوروسي نصوص الوثائق ضمناها تشكيل حكومة اتحادية ولجنة اقتصادية مشتركة وهيئات حدودية وجمركية مشتركة، الا ان الوفد الأوكراني حذف كل تلك التشكيلات من الوثائق صباح اليوم التالي. ولم يعد واضحاً لماذا وقعت اوكرانيا المعاهدة بعد ذلك الحذف.
تولت حراسة "المتآمرين" الإدارة التاسعة للجنة أمن الدولة كي.جي.بي وكان الخطر وارداً على رغم ان الجيش السوفياتي لم يعد موجوداً من الناحية الحقوقية. لكن الشعور بالانسحاق هو الطاغي حسب اعتراف المشاركين في قمة بيلوفيجيا، كأنهم شيعوا شخصاً عزيزاً عليهم. ومن جهة اخرى تنفسوا الصعداء لعثورهم على حل لا يتطلب اقتتالاً ولا مجازفات حربية، فأنقذوا بلادهم من حرب أهلية.
وثمة رأي يقول انه لم تكن هناك خطة استراتيجية مسبقة لدى الحكومة الروسية في أجمة بيلوفيجيا. فجرت الاستعدادات ارتجالاً وفي أيام معدودات، على طريقة يلتسن الارتجالية. ولعل ذلك له مبرراته، فالموقف "ثوري" لا مجال فيه للتأمل والتفكير. والفوضى تكاد تعم سياسياً واقتصادياً. وكان وفد روسيا وصل الى مصح بيلوفيجيا في زيارة غير رسمية، كما أسلفنا. وهناك نضجت الفكرة وجرى التنفيذ حالاً. إلا ان وزير الخارجية الروسي اندريه كوزيريف يرد على هذا الرأي بأن اجراءات معمقة اتخذت قبل ذلك، بما فيها دراسات تحليلية لأنواع التحالفات والائتلافات الدولية التي شهدها التاريخ العالمي وتاريخ روسيا ابتداء من القرن التاسع الميلادي.
ويعتقد ستانيسلاف شوشكيفيتش ان الذين وقعوا اتفاقات بيلوفيجيا، وهو منهم، رومانسيون يتحلون بعقل سليم. وعزا أسباب ما حدث ليس فقط الى الواقعية والعقلانية والاهتمام بأوضاع الناس الفعلية، بل الى "بعض الرومانسية والسذاجة التى رافقتنا وأنصارنا". وقال انه وزملاؤه في برلمان بيلاروسيا كانوا يطمحون الى بناء "الرأسمالية الشعبية"، الا انه استصغر شأن استمرارية الذهنية السوفياتية لدى الناس الذين غرست الدولة في أدمغتهم فكرة "الشيوعية الصالحة" و"الرأسمالية الطالحة". واضاف: "لم أكن أفهم آنذاك ان القليلين جداً رأوا الآفاق قاتمة أمام مجتمع ما كان بوسعه ان يستمر في الوجود الا في أذهان مشحونة بالخيال".
ويواصل شوشكيفيتش "الانتقاد الذاتي"، مشدداً على ان اكبر خطأ اقترفه يتمثل في "عدم تفعيل الدعاية المضادة للشيوعية"، فيما أجاد الشيوعيون، وهم، على حد تعبيره، أناس لا يتحلون بالكثير من الفطنة وحسن التدبير وعمق السياسة، العمل على هذا الصعيد. واعرب عن خيبة أمله، لأنه كان يتصور خطأً ان الامور ستتهاوى وتتقوض تلقائياً في الحال. الا ان شىئاً لم يحدث على هذا النحو. وكان يتصور خطأ "ان أولئك يدركون ضرورة التكفير عن ذنوبهم وعن مشاركتهم في دعم النظام الشيوعي فينخرطون حالاً في بناء مجتمع سليم جديد". ويقول: "أفظع ما في ذلك ان قسماً من المجتمع لا يزال يؤمن بقداسة أسماء بعض الشيوعيين". ويرى ان سبب ذلك هو خدمة بعضهم، من أمثال تشي غيفارا، بنزاهة ونكران ذات.
وبسبب سرية المحادثات في بيلوفيجيا سرت الإشاعات والأقاويل، وفي مقدمها ان وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية هي التي قوضت الاتحاد السوفياتي. ويرد وزير الخارجية السابق كوزيريف على هذا الرأي بأن الولايات المتحدة كانت آنذاك من أنصار الحفاظ على الأوضاع في الاتحاد السوفياتي كما هي عليه خوفاً من الفلتان النووي. وكانت تلك غلطة فاحشة من الاميركيين، فقد تمكنا - والقول لكوزيريف - من استخدام الضغوط الاميركية الرامية الى بقاء الاتحاد السوفياتي لنحول دون انتشار السلاح النووي وإبقائه تحت قيادة "اتحادية" مشتركة. وفي ما بعد وجهنا تلك الضغوط صوب أوكرانيا لإقناعها بتسليم السلاح النووي التكتيكي الى روسيا.
وسرعان ما نسى الروس اشكالات الوضع الميئوس منه قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي وظلت ذاكرتهم تحتفظ بكلمة واحدة مخطوطة بالبنط العريض: الخيانة. وبمرور الزمن لم يعد شوشكيفيتش وكرافتشوك يعبآن بهذه التهمة الكبيرة. إلا أنها خلقت عقدة نفسية لدى يلتسن، جعلته يوافق على ما يسمى بدولة الوحدة مع بيلاروسيا، على رغم شكليتها وقلة نفعها الاقتصادي بالنسبة الى روسيا.
ولمناسبة الذكرى العاشرة لسقوط الاتحاد السوفياتي اجرت عشرات المؤسسات الكبرى في روسيا استطلاعات يبدو ان الهدف منها التأكد مما هو اكيد وواضح للعيان. وأعلنت مؤسسة "الرأي العام" ان استطلاعها الذي شارك فيه 1500 شخص في 44 اقليماً في روسيا كشف ان ثلاثة أرباع الروس يأسفون على سقوط الاتحاد السوفياتي. واللافت ان هذه النسبة اكثر ب15 في المئة من عدد الذين اعربوا عن أسفهم لسقوط الاتحاد السوفياتي في استطلاع مماثل أجري عام 1992. ويرى حوالي 20 في المئة من المشاركين في استطلاع 6/12/2001 انه كان بالإمكان انقاذ الاتحاد السوفياتي، وهذا العدد نفسه يرى ان سبب تقويض الامبراطورية السوفياتية أخطاء الزعماء السياسيين وأطماعهم يومها، وليس المشاكل أو التناقضات الموضوعية. واتضح ان 46 في المئة فقط من أهالي روسيا على علم باتفاقات بيلوفيجيا، أما الباقون فلا يعرفون على وجه التحديد ملابسات "إعدام" الامبراطورية. ولم يعرب عن الارتياح لإنهيار الاتحاد السوفياتي سوى 15 في المئة من المساهمين في الاستطلاع.
وعلى رغم بقاء المؤشرات الاساسية للاستطلاعات على حالها تقريباً طوال العقد الماضي. فإن تبدلات معينة طرأت على آراء الروس ترتبط اساساً بتبدل الأجيال. فالمسنون الذين يعتبرون الامبراطورية البائدة جزءاً من حياتهم الشخصية يسبون ويلعنون موقعي معاهدة بيلوفيجيا، ويطالبون بعودة الاتحاد السوفياتي. وبالنسبة الى الشباب يبدو نظام الحكم السوفياتي مجرد مشهد في تاريخ روسيا الطويل، وهم لا يبالون بسقوط الامبراطورية ويميلون الى الرأي القائل ان اسباب تقويضها موضوعية، وتتلخص في التفكك المطلق للايديولوجية الشيوعية، وليس في اخطاء غورباتشوف أو طموحات يلتسن. ولذا يزداد عدد الذين يعتقدون بأن تفكك الدولة الشيوعية كان أمراً لا مفر منه. كما تقلص بشكل لافت الحنين الى أوضاع ما قبل الاصلاحات. وتلك على ما يبدو، عملية لا رجعة فيها. فالوعي الاجتماعي الروسي يحبذ على العموم فكرة الدولة الاتحادية أو اتحاد الدول السابقة، إلا ان الروس لم يعودوا مستعدين لتحمل النفقات المادية الضخمة من أجل احياء الاتحاد السوفياتي، ما يؤكده استطلاع مؤسسة "الرأي العام" الذي يقول ان 22 في المئة فقط من المساهمين في الاستطلاع يعتقدون بإمكان ترميم الاتحاد السوفياتي من حيث المبدأ.
تبريرات متأخرة
ويعتقد سيرغي شاهراي بأنه كانت هناك فرصة للحفاظ على الاتحاد السوفياتي قبل آب اغسطس 1991، ولكن بشكل اتحاد كونفيديرالي ضعيف يتكون من 11 جمهورية من أصل 15، أي من دون جمهوريات البلطيق الثلاث استونيا ولاتفيا وليتوانيا وكذلك جورجيا. وبعد ذلك التاريخ لم يعد بالإمكان الحفاظ عليه. ويعزز شاهراي رأيه بوقائع لا يخامره شك في موضوعيتها.
ففي 24 من الشهر المذكور تنازل رئيس الاتحاد السوفياتي غورباتشوف عن منصب الأمين العام للحزب الشيوعي الذي يمثل نبض السلطة في الدولة، واقترح على الحزب ان يحل نفسه. وفي 6 تشرين الأول نوفمبر 1991 صدر مرسوم الرئيس يلتسن بحل تنظيمات الحزب الشيوعي في أراضي روسيا. وكانت باقي الجمهوريات فعلت ذلك قبل الروس، في آب وايلول من العام ذاته. وطبيعي ان تتفكك الامبراطورية الموحدة مع تفكك الحزب الشيوعي السوفياتي.
وفي حمى البيانات والتصريحات المتعلقة بالاستقلال عمدت 13 من 15 جمهورية متحدة الى اعلان حقها في تقرير المصير. وجاءت الضربة الموجعة الأكثر ايلاماً للامبراطورية من اوكرانيا، ثاني اكبر جمهورية بعد روسيا من حيث عدد السكان، فقد أعلنت استقلالها في 25 آب، ثم أجرت استفتاء عاماً في أول كانون الأول ديسمبر أيد تلك الخطوة. آنذاك بات الاتحاد السوفياتي مكوناً من جمهوريتين فقط هما روسيا وكازاخستان. وبعد اسبوع كتبت "شهادة الوفاة"، وتولى يلتسن وشوشكيفيتش وكرافتشوك دور الطبيب الذي حرر تلك الشهادة، وأقر بأن الموت واقع. ومن الحماقة، في اعتقاد شاهراي، اتهام الطبيب بقتل المريض.
ويتابع شاهراي: "لو ان الاطباء رفضوا توقيع الشهادة لاندلعت في سدس المعمورة حرب أهلية من أبشع أنواع الحروب، يشهر فيها الروسي السلاح بوجه الاوزبكي، ويتقاتل الاوكراني مع البيلاروسي، وهلمّجرا. ولكان هناك السيناريو اليوغوسلافي الدامي. فالبقاع الساخنة في الاتحاد السوفياتي قره باغ وأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا والشيشان وبريدنيستروفيه وغيرها كانت تستعر قبل توقيع اتفاقات بيلوفيجيا التي أنهت وجود الامبراطورية. وكان الورم السرطاني ينتفخ بشكل واضح للعيان. والبلاد المترامية الأطراف على شفير الهاوية، وإلا لما وقع رؤساء البرلمانات الثلاثة في روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا ذلك القرار الخطير.
ويفصل شاهراي اسباب وفاة المريض، مشدداً على ان أزمة 1990 - 1991 الاقتصادية، وخلو المتاجر من الاطعمة، والتوزيع بالبطاقات جعل الناس ينظرون في أفواه بعضهم. فالروس في الأورال كانوا متذمرين من اعالة آسيا الوسطى، وأهالي جورجيا والبلطيق يقولون ان موسكو تنتزع منهم حتى الفتات. وصار الجار يمنع كسرة الخبز عن جاره. وبلغ الحسد بالناس حداً جعلهم يوافقون بالاجماع على تشكيل رابطة الدول المستقلة الكومنولث ولم يعترض عليها أحد اطلاقاً. كان كل منهم يعتقد بأنه سيعيش أفضل، أو سيبقى على قيد الحياة في أقل تقدير، اذا اعتمد على نفسه بمعزل عن الآخرين.
وليس صحيحاً الانطباع الذي نشأ عن ان الحزب الشيوعي السوفياتي رضخ للواقع الموضوعي ولم يقاوم. كان يتابع تطور الأحداث وينتظر ما ستتمخض عنه. وكان يتخذ الاجراءات المضادة في الوقت ذاته. فقد أعدت اللجنة المركزية للحزب في النصف الأول من العام 1990 خطة سرية للحيلولة دون انسحاب روسيا من الاتحاد السوفياتي استهدفت تفتيت الفيديرالية الروسية من الداخل، كونها قوة الدفع اللامركزية الأولى من حيث الزخم والحجم. ونصت الخطة على اخراج 16 اقليماً وجمهورية قومية كانت تتمتع بالحكم الذاتي ضمن الفيديرالية الروسية ومنحها حقوق السيادة على قدم المساواة مع روسيا، ورفعها الى مستوى الجمهوريات المتحدة، فيتجاوز عدد اعضاء الاتحاد السوفياتي 30 عضواً. وفي 26 نيسان ابريل 1990 صدر قانون يعادل حقوق الجمهوريات المتحدة والجمهوريات ذات الحكم الذاتي، ما يعني ان روسيا الاتحادية كانت ستفقد 53 في المئة من أراضيها و20 مليوناً من سكانها وكل مواردها الاستراتيجية.
إلا ان شيوعيي روسيا ومديري المؤسسات الصناعية فيها، وكلهم شيوعيون بالطبع، صوتوا، والحق يقال، لمصلحة بيان السيادة الروسي في 12 حزيران يونيو 1990، لعلمهم بأن الفيديرالية الروسية هي عصب الاتحاد السوفياتي ونابضه المحرك. لكنهم في المقابل اكدوا ان روسيا تنادي بتجديد الاتحاد السوفياتي ولا تنوي الانسحاب منه.
ويؤكد غينادي بوربوليس، الروسي الثاني الذي وقع مع يلتسن وثائق سقوط الاتحاد السوفياتي، ان فريق العمل المرافق للرئيس يلتسن آنذاك تولى مهمة الصياغة الحقوقية والسياسية لواقع فعلي، ليس لهم ضلع في تحريكه أو توجيهه. فالاتحاد السوفياتي تفكك واتخذ تفككه اشكالاً خطيرة غير قابلة للتحكم والسيطرة.
وزاد بوربوليس: ان قرارنا توقيع معاهدة تأسيس رابطة الدول المستقلة مكننا من ضبط عملية التفكك والتحكم بها على قدر المستطاع، ما أنقذنا من حرب أهلية تشارك فيها مختلف القوى الاجنبية ذات المصلحة بهدف جرنا الى حمام دم. وليس لنا من هذه الناحية ذنب الا التقصير في كون معظم المواطنين لا يزالون يتساءلون بسذاجة حتى بعد عشر سنوات من الاحداث: من الذي أطاح الاتحاد السوفياتي؟
ويضيف بوربوليس: ذنبنا أننا لم نوضح للناس ان الذين أطاحوا الاتحاد السوفياتي هم أولئك الذين أسسوه في بداية القرن العشرين بصورة غير مشروعة، وأولئك الذين دعموا هذا النظام الاستبدادي الذي تطور بشكل مشوه معكوس عشرات السنين، وسندوه بالقدرات الحربية على حساب أبسط الامكانات الاجتماعية الانسانية التي حرموا الشعب منها.
كانت الحكومة الروسية طوال تلك الفترة تدير شؤون 7 في المئة فقط من الموارد الاقتصادية في أراضي روسيا، فيما تمتلك حكومة الاتحاد السوفياتي 93 في المئة. ان الذي أطاح الاتحاد السوفياتي هو الحزب الشيوعي الذي لم يتمكن من تقويم الكارثة المقبلة تقويماً صحيحاً دقيقاً.
ويعتقد بوربوليس بأن انهيار الاتحاد السوفياتي كان محتوماً لأن الدولة وجدت نفسها مهشمة وتلقت تركة اقتصادية مدمرة، وجهازاً ادارياً ضعيفاً. أما الاصلاحات التي دعت اليها القيادة السوفياتية في عهد المصارحة والانفتاح 1985 - 1990 فقد ظلت حبراً على ورق، ولم تجد تلك القيادة في نفسها الجرأة على توضيح الظروف التي يتطلبها تحويل تلك التركة البائسة. وما جاء بعد ذلك، حصل في اعتقاد بوربوليس لغياب الخيارات. فإطلاق الأسعار كان حتمياً لأن المجاعة على الأبواب، والخصخصة كانت حتمية لأن الاقتصاد مشلول، ولا بد من حوافز لتحريكه، وما طبق ليس اصلاحات بالمعنى المعتاد للكلمة، وانما هو اجراءات عاجلة أملاها غياب الخيار. ولعل ذلك من أسباب فشلها على مدار السنوات العشر التالية.
كما ان التنظيم الجديد الذي جاء ليحل محل الاتحاد السوفياتي، اي الكومنولث، لم يكن قادراً على الحياة، لأن أحوال سائر الجمهوريات السوفياتية لم تكن أفضل من روسيا، والأوضاع في جورجيا أوضح مثال على ما آلت اليه الأمور في تلك الجمهوريات بعد عشر سنوات من غياب الامبراطورية.
على فوهة بركان
يحرص الجورجيون على استقلالهم الى حد جعلهم يرون تهديداته قادمة من كل جهة. ويعتقدون بأن الدوائر الأمنية الروسية في مقدم الساعين الى حرمانهم من الاستقلال، ذلك انها، كما يتصورون، سبب الكثير من المشاكل الخارجية والداخلية التي تتعرض لها جورجيا حالياً. ويتهمون موسكو بقصف الأراضي الجورجية ليلاً، إلا ان تبليسي تدرك تماماً أنها لا تستطيع الاستغناء عن جارتها الشمالية. وأحداث السنوات الأخيرة تسوق الدليل على صحة هذا الرأي.
فالعلاقة مع موسكو هي التي تحدد اتصالات جورجيا بباقي أقطار رابطة الدول المستقلة الكومنولث. ويرى كثيرون في تبليسي ان الكومنولث يلزم روسيا لغرض واحد هو حماية مجالها الجيو - سياسي من النفوذ الاجنبي. وليس بوسع الكومنولث ان يطمح الى اكثر من ذلك، بسبب عجزه عن حل مشكلة أبخازيا التي يعترف بها جزءاً من جورجيا، لكنها تطالب بالاستقلال عنها. وفي الآونة الأخيرة تراجع الرئيس الجورجي شيفاردنادزه قليلاً عن هذا الرأي القطعي. وبات يقول ان الكومنولث يمكن ان يتولى على الأقل تنظيم "الحوار مع الاصدقاء".
وكانت جورجيا آخر من انضم الى الكومنولث في اعقاب تفكك الاتحاد السوفياتي. ولا أحد يجزم هل كان الدافع الأول هو الأمل في تسوية النزاع مع أبخازيا أم الامتنان لروسيا على اخماد تمرد أنصار زياد غامساخورديا الجورجيين ضد شيفاردنادزه؟ وعلى أي حال فالمسألة الاثنية القومية هي الأكثر حدة بالنسبة الى القيادة الجورجية. وكانت النزاعات الاثنية اندلعت من عهد غامساخورديا الذي أعقبه شيفاردنادزه في رئاسة الجمهورية.
وأسفرت الحرب في اوسيتيا الجنوبية عن انفصال الأخيرة في الواقع عن الوطن الأم جورجيا. وعلى رغم تأكيدات السلطات الجورجية ان تسوية النزاع باتت في حكم المفروغ منها، فإن معظم سكان أوسيتيا يعترفون بلائحة الاستقلال، ويعيشون وفق قوانينهم، فيما تتغاضى تبليسي عن ذلك لحين حل مشكلة أبخازيا.
وتعتبر أبخازيا أهم كثيراً بالنسبة الى جورجيا. فالمواصلات الاستراتيجية تمر عبرها، وفيها المصايف الفاخرة أو التي كانت فاخرة في العهد السوفياتي قبل الحروب المحلية. واضطر آلاف الجورجيين الى مغادرة أبخازيا أثناء الحروب. والقيادة الابخازية تبدي استعداداً لعودتهم الى ديارهم، لكن بشرط ان توافق تبليسي على اقامة علاقات حقوقية بين الطرفين وفقاً لدستور 1925 السوفياتي، الذي نص على علاقة اتحادية بين أبخازيا المستقلة آنذاك وبين جورجيا المتحدة. واعتباراً من 23 تموز يوليو 1992 باتت أبخازيا في حكم المستقلة، واخذت تطالب بعلاقات تحالف ارتباطية مع موسكو. إلا ان المجتمع الدولي وروسيا لا يعترفان باستقلال أبخازيا وأوسيتيا.
وقبل فترة عمد الرئيس الجورجي شيفاردنادزه الى تعيين اصلان عباشيدزه زعيم أدجاريا ذات الحكم الذاتي الموالية لجورجيا ممثلاً له في مسألة التسوية الابخازية، على أمل ان يتوسط في التخفيف من غلواء سوخومي عاصمة أبخازيا المتمردة عليها. إلا ان ذلك الولاء ليس مطلقاً، بل هو أقرب الى الشكلية، فلا تأثير لتبليسي في الواقع على باتومي عاصمة أدجاريا.
والميول الانفصالية تتصاعد في مناطق اخرى من جورجيا، في وادي بانكيسي الذي يقيم فيه شيشانيون وافدون، ويأوي حالياً مقاتلين من جمهورية الشيشان الروسية، وفي اقليم جواخيتيا الذي يقيم فيه أرمن يتوقف وجودهم على وجود قاعدة اخالكالاكي العسكرية الروسية. وللروس قاعدة أخرى في باتومي. وكان اتفاق اسطنبول العام 1999 نص على اخلاء القاعدتين. وأمهلت تبليسي الروس ثلاث سنوات لاخلائهما، فيما طلبت موسكو 14 عاماً لهذا الغرض نظراً لضخامة التكلفة المالية. وكانت روسيا اخلت قاعدتين أخريين في جورجيا في مدينتي فازياني وغوداوتا. وفي خصوص القاعدة الأخيرة في أراضي أبخازيا أعربت الخارجية الجورجية عن شكوكها في الانسحاب الروسي، طالما ان الجانب الجورجي لا يستطيع التثبت من أحوال قاعدة لا يسمح له الابخازيون بدخولها. ومن جهتهم يعارض سكان أبخازيا وأدجاريا انسحاب العسكر الروس، معتبرين ان قوات شمال الاطلسي ستحل محلهم، وهم لا يريدون ذلك.
وعلى صعيد السياسة الخارجية تنوي جورجيا الانضمام الى الاتحاد الأوروبي. وانتسبت الى منظمة التجارة الدولية، وأعلنت عن تنفيذ مشروع "طريق الحرير" بين أوروبا وآسيا. وباتت جورجيا تعتمد كلياً على المساعدات الغربية، لكنها لا تزال تأمل في توظيف امكاناتها المواصلاتية، وتسعى الى جعل أنبوب الغاز باكو - تبليسي - ارضروم منافساً لمشروع "السيل الأزرق" الروسي لتوصيل الغاز الى تركيا، حتى تتمكن جورجيا من تخفيف اعتمادها على ارساليات الغاز من روسيا.
ويرى بعض خبراء ان مصالح تبليسي الاقتصادية وراء موقفها السلبي من الوجود العسكري الروسي في جورجيا. لأن اهتمام الغرب بأنبوب الغاز المذكور سيكون له اسقاطات عسكرية قد تصل حد التدخل المسلح الاجنبي، بحجة حماية الانبوب الذي يبدأ من العاصمة الاذربيجانية مروراً بالأراضي الجورجية الى تركيا ومنها الى الدول الغربية. ولذا تصر تبليسي على موسكو بالتعجيل في سحب قواتها من جورجيا.
وعلى خلفية هذه الملابسات المعقدة التي يعيشها المجتمع الجورجي، يكاد الرئيس شيفاردنادزه يفلت الزمام في بلد على فوهة بركان من تناقضات عجيبة غريبة لم تكن مسبوقة في العهد السوفياتي، ويتصاعد تذمر الناس من الأوضاع الحالية ويشتد حنينهم إلى الماضي. وإذا أخذنا في الاعتبار ان ستالين الزعيم السوفياتي الثاني وعلى الأصح الأول، كون فلاديمير لينين لم يحكم طويلاً، من أصل جورجي وله أشياع وأتباع في جورجيا، يسهل تصور رغبة هذه البلاد في العودة الى الاتحاد السوفياتي.
أما حكم الرئيس الكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا فهو أقرب الى الشيوعية بأبسط أشكالها السوفياتية. وهناك ايضاً مولدوفا أو مولدافيا التي تسلم الحزب الشيوعية مقاليد الحكم فيها عبر انتخابات رسمية اعترف بها المجتمع الدولي. ورئيس الجمهورية فلاديمير فورونين هو الأمين العام للحزب الشيوعي المولدافي.
أجل، مات الاتحاد السوفياتي من زمان، الا ان أنفاسه الساخنة لا تزال تلفح ظهر الرئيس بوتين، وشبحه المخيف يحوم في أجواء روسيا ودول الجوار!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.