"مركز خليل السكاكيني الثقافي" في رام الله لفت الأنظار خلال السنوات الأخيرة في أكثر من مناسبة أدبيّة وسينمائيّة وفنيّة، وذاع صيته، وتجاوزت شهرته الحدود الضيّقة لمناطق الحكم الذاتي. ومنذ أسابيع يستضيف هذا المركز الحيوي معرضاً من نوع خاص تحت عنوان "مئة شهيد... مئة حياة", انتقل في 4 نيسان ابريل إلى "المجمّع الثقافي في أبو ظبي"، وسينتقل إلى "دارة الفنون" التابعة ل "مؤسسة شومان" حيث يعاد افتتاحه في الخامس من حزيران يونيو المقبل. أوّل ما يلفت الزائر صناديق بلاستيكية شفافة، تظهر بوضوح ما بداخلها... تصطف بايقاع موحد على جدران قاعات العرض في "مركز خليل السكاكيني". كرة قدم، ساعة منبّه، كاسات فارغة، وغيرها من الحاجيات الشخصية المستعملة والمنتقاة بعناية لتعرض في جو من الصمت الذي يبوح أكثر مما يخفي. يضمّ المعرض متعلقات شخصية لمئة شهيد سقطوا بالرصاص الإسرائيلي، خلال الأحداث التي اجتاحت فلسطين منذ أيلول سبتمبر 2000، فيما الموت مستمروسقوط الشهداء يتوالى في "انتفاضة الأقصى". يرصد المعرض ذاكرة أول مئة فلسطيني سقطوا في هذه الانتفاضة، إذ تم جمع أغراضهم الخاصة جداً، وتقصّي ملامح سيرهم، إضافة إلى صورة لكل واحد منهم. وللفلسطينيين تجربة انسانية طويلة ومستمرة مع الموت والفقدان، فتاريخهم العام والخاص اقترن بالشهادة. ولديهم تاريخ متصل من الصراع الأسطوري في محاولة استرجاع حقهم في الحياة. وفي هذه التجربة الأخيرة أصبح هناك قائمة جديدة من الشهداء والقتلى تنضم الى قوافل كثيرة مضت، قدم موضوع الموت فيها بوصفة مكللاً بنبل وجسارة التضحية، فيما أصبح الشهيد مفصولاً عن الموت العادي الذي يخص الانسانية كلها... محاطاً بتصورات لا تنتهي عن الحياة الأخرى. دلالات الفاجعة في الأدب والفن قطعت صورة الشهيد أشواطاً من التحولات لامست، في كثير من الأحيان، حدود الألم والفاجعة للفقدان والتحلل. وأصبح للحضور الواقعي الانساني دلالات روحية ومادية، ولم يعد الجسد يمكن الاستغناء عنه بوصفه ضرورة ووسيلة للوجود الانساني، كمرآة للروح ودليل لمعرفة الذات. لنتأمل في الصناديق البلاستيكية إذاً، ولنشاهد ملابس الشهداء، والأحذية وعلبة دخان ال Camel، وزجاجة العطر لأحمد النبريصي، وصور الشهداء التي تحلق بشفافية فوق حاجياتهم، هل نحتاج لمن يحدثنا عن مرارة الموت؟ هل نحس بالأجساد الطرية وهي تتهاوى أمام أعيننا يومياً؟ الهم الانساني في هذا الموضوع البصري تحرّر من التبعية لثقافة الكلام، وبصمت نقف وبصمت نتأمل الصناديق التي تحاصرنا من كل صوب. يخرج المنجز الثقافي المتمثل في المعرض الى النور طازجاً، عميقاً، وشفافاً، ليس فقط بفضل الفكرة المبتكرة التي يقوم عليها، بل أيضاً لأصالته بفضل الطريقة التي أخرج بها، على رغم وطأة العنف اليومي والقسوة والبطش التي يرزح تحتها الناس في فلسطين. ولم ينهمك المعرض - الحدث باللحظة كخطاب سياسي، فقد استطاع منظموه إيجاد المعادل اللازم لتقديم الهم الانساني بشكل فني راقٍ، يكاد يكون نادراً، بابتعاده عن الصراخ والعويل والمزايدة. نحن هنا أمام رفض قاطع لأي اتكاء على التضحية والدم والشهادة كشرط وحيد لقول حكاية الفلسطيني، بل ان المعرض ينحني أمام الحياة الأليفة، البسيطة، يعطيها حقّها في الدفاع عن نفسها بدلاً من التهليل لبيعة الدم. نحن هنا في الموقع النقيض للجنازات اليوميّة التي تنقلها شاشات التلفزيون إلى العالم من فلسطين، حيث الهتاف والتكبير والغضب. يدعونا المعرض إلى صمت مؤثر قادر على وضع الموت في سياقه الإنساني، بعيداً عن الصراخ والندب المصحوب بالغضب الأدمي الناتج عن كارثة. إنّه أشبه ما يكون بمزار أو طقس شفاف ومعبر، يتجاوز الراهن الى أفق أوسع. ويتراءى للزائر - المشاهد طيف الموت المنفلت، فيروح يبحث عن بصمات الحياة بنهم متزايد مع كل صندوق جديد. حياة مستحيلة في الصناديق المكعبة والمرصوفة على جدار المعرض في قاعات السكاكيني، تغيب صورتا محمد السجدي 18 عاماً وعلاء بني نمره 15 عاماً. إذ لم يتمكّن منظمو المعرض من الاهتداء إلى صورة شخصية لكلّ منهما... فاكتفوا بمقلاع بني نمره وقميص السجدي. لا عيون تشخص في الحاضرين .. ولا ابتسامة أو ملامح خجل طفولي... علينا أن نبحث عنهما في ملامح الآخرين... فالشهيد هنا لم يعدّ لموته، ولم يتهيأ له، تماماً كما أن المواسرجي رائد حمودة لم يكن يعلم أن "الكتكت" الذي في جيبه سيصبح يوماً أيقونة في متحف... وهو سيصبح شهيداً. وتتوالى الأشياء ملفوفة بعناية : حذاء محمد الدرة، بطاقة ممغنطة غير منتهية الصلاحية، قفازات الملاكمة، دفتر رياضيات، أشرطة كاسيت... شاهدة على حياة مستحيلة في زمن الاحتلال. استغرق الإعداد للمعرض قرابة اربعة أشهر للتحضير وجمع المواد اللازمة لتقديم الشهيد بوصفه حياة فريدة لا رقماً بين الأرقام. وبما أن عادلة العايدي صاحبة الفكرة والمشرفة على المشروع، وسمير سلامة الفنان الذي أخرج المعرض، يدركان صعوبة الاحاطة بهذا الجرح الفلسطيني المفتوح، فقد عقدا العزم على تطويره ليشمل كل الشهداء، ويستقرّ في متحف دائم لذاكرة شعب صارت الشهادة من صلب وجوده. ويصاحب المعرض كتاب - وثيقة يتضمن صوراً للشهداء وحاجياتهم المنتقاه بعناية إلتقطتها ايزابيل دي لاكروز باللون البني ودرجاته سيبيا بطريقة مدهشة. وقد صمم الكتاب الفنان شريف واكد، فخصص لكل شهيد صفحتين، واحدة للصورة الشخصية والسيرة وأخرى لصورة الشيء، وتفصل الصفحتين ورقة شفافة تحاكي صناديق العرض الشفافة