"فهمت ماذا يعني ان يكون الإنسان فلسطينياً" بهذه العبارة لخصت مديرة مركز خليل السكاكيني الثقافي الجزائرية الجنسية عادلة العايدي تجربتها في تجسيد مشروع هو الأول من نوعه بتكريمه أول مئة شهيد من شهداء "انتفاضة الأقصى" من خلال "الاحتفال بحياتهم" والذي حمل عنوان "مئة شهيد - مئة حياة". راودت العايدي الفكرة في الأسابيع الأولى للانتفاضة الفلسطينية التي اندلعت في التاسع والعشرين من شهر أيلول سبتمبر الماضي، إذ جسدت حياة الشهداء الذين تساقطوا واحزان ذوييهم في "احصاءات الموت اليومية". الهدف كان التأكيد على قدسية الحياة ومخاطبة البصر والمشاعر لاسترجاع الشخصية المميزة لكل واحد منهم، وذلك عبر تخصيص مساحة خاصة لكل شهيد تحوي صورته وأحد ممتلكاته الشخصية "تتخطى الموت وتسترجع الحياة". صناديق شفافة تحوي غرضاً خاصاً بالشهيد مطوياً بعناية على شكل هدية ومربوطاً بشريط من "الرافيا" تعلوها ورقة شفافة تحمل اسمه وصورة له بالأبيض والأسود. منفذ الفكرة الفنان سمير سلامة الذي نجح في ابعاد شبح القتل والدم عن "حياة" كل شهيد. فكان حذاء الطفل محمد الدرة الرياضي الذي كان ينتعله يوم استشهاده و"مقلاع" الطفل فارس عودة الذي حاولت والدته ان تثنيه عن التوجه الى مناطق المواجهات بعد ان التقطت له صورة وهو يرشق دبابة اسرائيلية بحجر، والذي دأب على التسلل من البيت وتسلق جداره قبل ان تقتله رصاصة الجنود. وكرة القدم خاصة الطفل مؤيد الجواريش الذي كان يعشقها وحقيبة الطفل علاء محفوظ المدرسية، وقفص العصافير لنزار عيده الذي أبى إلا ان يطلق عصفوره قبل توجهه الى ساحة الواجهات، وقفاز جهاد العالول الذي أصيب برصاصة في القدم وأصر الجندي الإسرائيلي على قتله بإصابة في رأسه بينما كان الشبان يخلونه... مقتنيات وحاجيات أول مئة شهيد فلسطيني في انتفاضة الأقصى... كانت الفكرة تكريم كافة الشهداء ولكن مع توالي سقوطهم، قرر القائمون على المعرض حصر مجاله بأول مئة شهيد من الضفة الغربية وقطاع غزة ومن داخل الخط الأخضر يمثلون "الحالة الفلسطينية" كما أشارت العايدي. الفنان سلامة خص "الشهداء الأطفال" بوضع شمعة تحت صندوق كل طفل. ويربط سلامة بين فكرة المعرض واسطورة غلغامش في البحث عن "الحياة الأبدية" وما كان يقوم به الفراعنة من دفن مقتنيات موتاهم معهم على اعتبار ان عودتهم الى الحياة أمر محتم والفلسطينيون كما يرى سلامة يحملون شيئاً من هذا المعتقد. وكان للمشروع ذاته حصته من المعاناة التي حاول تجسيدها. فقد كان من المقرر ان يستغرق تنفيذه شهراً واحداً ولكن بسبب الحصار استغرق الاعداد له ثلاثة أشهر ونصف الشهر. واستعان القائمون عليه ببعض المؤسسات الفلسطينية والباحثين الميدانيين لتأمين ايصال حاجيات وأغراض الشهداء الى رام الله وجمع المعلومات الدقيقة عنهم من أقاربهم. الفنان شريف انجز بموازاة هذا المعرض كتيباً يحاكي في تصميمه فكرة المعرض، ففصل صفحاته الشفافة بصورة للشهداء ونبذة عن حياته كما رواها عارفوه وأخرى مقابلة تحوي صورة عن أحد أغراضه التي ارتأت المصورة ايزابيل دي لاكروز ان تصورها باللون البني. محمد السجدي من مخيم جبر في أريحا كان من الفقر والعوز المادي لدرجة لم يتمكن ان يلتقط لنفسه صورة واحدة، فخصص له في المعرض اطار خال من صورة. وفي الصفحة الخاصة بالشهيد محمود العمواسي 24 عاماً والتي كتبت باللغتين العربية والانكليزية، تختصر السطور ال25 مأساة الشهيد وأهله. محمود الذي يتحدر من بلدة عمواس التي دمرتها اسرائيل وأقيمت عليها حديقة "كندا بارك" بعد طرد أهلها والتي كان يواظب على زيارتها على رغم المعوقات، أصيب في الانتفاضة الأولى قبل ان يتجاوز الحادية عشرة من العمر، واعتقل ثلاث مرات. وتزوج من مرام اللاجئة والعائدة من سورية قبل يومين فقط من استشهاده في الثالث من شهر تشرين الأول أكتوبر. حدث زوجته ليومين عن أمنيته في انجاب ولد يسميه ياسر نسبة الى أعز أصدقائه وابنة يسميها "دموع". فقد تأثر كثيراً باستشهاد صديقه العناتي قبل استشهاده بأيام... وفي الصفحة المقابلة صورة لسروال محبب للشهيد. وعلى رغم جهود التركيز على الحياة فإن الموت ماثل في أرومته، فيما ترصد وجوه الزائرين وتصور في ذاكرتها ما سمعته عن هذا الشهيد أو ذاك وتربطها بما تشاهده من دلائل. صمت مطبق ودموع تسيل بهدوء.