الحدث العربي والعالمي في هذه الشهور الأخيرة من العام ألفين، وعلى الأرجح من الألفية، هو دون أدنى ريب، الانتفاضة الفلسطينية، هذه الانتفاضة الشعبية التي قلبت المعادلات السياسية وأعادت رسم الخرائط الاستراتيجية، وكشفت وجودها كانت تسترها أقنعة، وحرّكت العواطف - العربية، التي كانت طي الكبت منذ عقود السنين. الانتفاضة هذه يطلق عليها، عادة، اسم "الانتفاضة الثانية"، وذلك تحديداً لأنها ليست الأولى، فلسطينياً على الأقل، إذ كانت انتفاضة مماثلة قد سبقتها، وكانت بداياتها في مثل هذه الأيام من العام 1987. صحيح أن ثمة من يحلو له أن يفاضل بين الانتفاضتين عبر لعبة مقارنة حاسمة و لكن من المؤكد أن المقارنة - والمفاضلة - أمر عسير، حتى وإن كان الشعب واحد في الحالتين والعدد واحد. وحتى، خصوصاً إذا كان العامل المحرك وراء الانتفاضتين واحد، وهو القوى الممسكة، حقاً وليس نظرياً أو إعلامياً، بالمصير الفلسطيني. وهنا، لا بد أن نتذكر، كيف أن القيادي الفلسطيني الشهيد أبو جهاد، كان هو المحرك الأساسي لانتفاضة العام 1987، انطلاقاً من منفاه التونسي، وكيف أن إسرائيل عرفت كيف تنتقم منه لنشاطه ذاك، إذ اغتالته هناك في تونس، حارمة العمل الفلسطيني من واحد من أبرز قادته. ومن المؤكد أن واحدة من أكبر وأهم فضائل انتفاضة العام 1987 كانت تكمن في أنها أتت لتجعل القضية الفلسطينية تبدو كطائر الفينيق إذ ولدت من رماد موت كان الجميع يعتقد أنه مصيرها. ففي بداية سنوات الثمانين، وبعد أن كان العمل الفلسطيني العسكري والسياسي قد أُغرق، وأَغرق نفسه كذلك، في وحول "القضية" اللبنانية، وساهم بين أطراف أخرى، في تدمير لبنانوفلسطين في آن معاً، كانت إسرائيل دخلت على الخط مباشرة لتسدد رصاصة الرحمة الى الوجود الفلسطيني المسلح، في الجنوب وبيروت، قبل أن يُضرب ذلك الوجود في البقاع وشمال لبنان، ما جعل من المستحيل عليه أن يعاود التحرك انطلاقاً من لبنان، الذي كان آخر مكان في دول الطوق من حول إسرائيل يمكن له بعد فيه أن يتحرك. يومها، وخلال شهور حاسمة ومرعبة، شتتت القوى العسكرية والسياسية الفلسطينية في مناطق بعيدة من أي مكان يمكنها أن تنطلق منه لتزعج إسرائيل، في وقت ظلّت فيه يد إسرائيل طويلة قادرة على ضرب الفلسطينيين في أي مكان، ووهنت القوى القادرة على تحريك العمل الفلسطيني، ما أعطى العالم كله انطباعاً أن القضية انتهت. إذ أين، بعد، يمكن لهذا الشعب أن يتحرك ويحرك العالم معه؟ الجواب المستحيل جاء يومها من الداخل، وهو ما لم يكن أحد يتوقعه، باستثناء أبو جهاد ومعاونيه لكن هذا الأمر لن يتضح إلا لاحقاً، وتحرك الأطفال والشبان، وتحرك الاحتجاج الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية، وكان السلاح قطع حجارة عادية أخذ المنتفضون ينهالون بها على جنود العدو ودباباته ومواقعه. في البداية بدا الأمر كالمزحة، ووقف العالم كله مندهشاً وهو "يراقب شعباً يريد أن ينتحر بعدما فقد كل أمل" - حسب تعبير صحافي كان يراقب الأمر عن كثب في ذلك الحين - لكن المزحة صارت ثورة. والثورة حركت العالم. والعالم قال بسرعة، لو أن هذا بدأ منذ زمن - أي قبل غوص العمل الفلسطيني في وحول الأردنولبنان وقبل سيطرة الأنظمة والعواصم العربية المتناحرة عليه وتحويله، غالباً، الى أدوات في صراعاتها، لما كان للقضية الفلسطينية أن تشهد الكوارث التي شهدتها. طالت الانتفاضة شهوراً في ذلك الحين، ووجد العالم نفسه غير قادر على الإمعان في إنكار وجود ذلك الشعب وقضيته. وكانت القلبة المسرحية. وتبين أن نفي الفلسطينيين الى تونس والعراق واليمن، وإلى أماكن ا خرى بعيدة، جغرافياً عن فلسطين، لم يأخذ في حسبانه فلسطين الأخرى: الداخل، مئات الألوف من الأطفال وقطع الحجارة الصغيرة. يومها ولأن القيادات كانت تعرف أن السياسة والمفاوضات هي النهاية الحتمية لكل تحرك، أسفرت تلك الانتفاضة المفاجئة، عن تغير في ميزان القوى، وعن اعتراف بوجود فلسطيني كشعب وقضية، وكان ما كان من أحداث تالية، أعادت الرقم الصعب الى ميدان التحرك، حراً مستقلاً... ولو إلى حين. الصورة: مجموعة من انتفاضيي العام 1987.