مخاوف لا عقلانية عميقة وعتيقة تسكن النفوس على الجانبين اليهودي والعربي جعلت الاتجاه القوي الى السلام، المتفق مع الأولوية العالمية للاقتصاد على السياسة وللتبادل التجاري على تبادل اطلاق النار، متعثراً. يهود اسرائيل يكابدون، كأحد الرواسب التاريخية، عُصاب القلق الجماعي الذي من اعراضه الحاجة الهوسية الى الأمن والحماية تحسباً لاخطار وكوارث برسم الانتظار، والقلق على المصير الذي يدفع ضحيته، في لحظات الأزمة، الى شجاعة اليأس الاسطورية والى استخدام أو التفكير في استخدام العنف الأقصى. عند سماعه بعبور الجيش المصري القناة واجتياح الجيش السوري الجولان في حرب 73 قال موشي دايان، وكان وزيراً للدفاع، لرئيسة الحكومة غولدا مائير: "انه التخريب الثالث للهيكل" بعد تخريبه الأول في 586 قبل الميلاد والثاني في 70 ميلادية، وطالبها باستخدام السلاح النووي لكنها عزلته فوراً، عملياً، وأحالت اختصاصاته الى قائد الاركان. التخريب الثالث للهيكل أي القضاء على اسرائيل اليوم تخييلي ولكنه راسخ في البنية النفسية الاسرائيلية ويملي على قادة الدولة العبرية احياناً، قرارات سياسية وعسكرية تنتمي الى حقبة اخرى. عندما كان رابين يكسر عظام أطفال الحجارة برر ذلك بكون "اسرائيل فيلا في غابة، تحاصرها الوحوش مما يسوّغ لها ممارسة العنف بافراط والمطالبة ب"حدود آمنة" أي امبراطورية، أو بلغة دايان غداة حرب 1967: "إعادة اسرائيل الى حدودها التاريخية والتوراتية"! عصاب القلق الجماعي هو الذي يفسر - ولا يبرر - هذا الهوس بالامن لدى جنرالات اسرائيل المستمرين في "الحدود الآمنة" في حقبة قضت فيها التكنولوجيا العسكرية على هذا المفهوم اذ لا حدود آمنة امام الصواريخ العابرة للقارات. حتى المستوطنات زرعت تحت املاء الهوس الأمني لتلعب الدور نفسه الذي لعبته القلاع الرومانية على أطراف الامبراطورية كمحطات انذار مبكرة. لروما عذرها. فما هو عذر اسرائيل العقلاني في عصر السواتل الأقمار الاصطناعية القادرة على رصد قنبلة يدوية في خندق؟ من علاجات المخاوف اللاعقلانية في الطب النفسي تحدّي الموضوعات التي تثيرها. فما على الاسرائيليين الخائفين من السلام الا قبول تحدي السلام للافلات من رهان "القلعة المحاصرة" بالاندماج في المحيط العربي الذي يسميه ايديولوجيو ليكود "الذوبان في المحيط العربي"، فيما هو قد يكون فرصتهم للخروج من الانطواء المفرط على أنفسهم. على الجانب العربي، مثّل اليهودي في المخيال الجمعي منذ تحالف يهود يثرب مع قريش ضد الدعوة المحمدية ما تسميه سيكولوجيا الاعماق "الفرقة الشريرة". وما زال رُهاب اليهودي "المتآمر" على نقاء الهوية وعلى وجود الأمة يستوطن النفوس محولا الصراع على الحدود مع اسرائيل الى صراع على الوجود. في هذا المناخ المشحون بالمخاوف والذكريات المؤلمة، اقدام مروان البرغوثي، القائد الميداني للانتفاضة، على تغيير اسمها الى "انتفاضة السلام" واعدٌ على الصعيدين الرمزي والاعلامي. لأن رهان الحرب الاعلامية اساسي في حساب موازين القوى. لم تنجح الانتفاضة الأولى 87 - 93 في اقناع قامعها رابين بالتفاو ض معها الا لأنها هزمت اسرائيل في الاعلام العالمي. لذلك فالاسرائيليون اليوم أشد وعياً بهذا الرهان من العرب واعلامهم العنتري. حققت الانتفاضة مكاسب لم تكن في الحسبان: أقنعت العالم بوجود رأي عام فلسطيني وعربي جنيني، لذلك ما زالت البدائية تطبع شعاراته وممارساته، لكن من الجنون الاستخفاف به: عدّلت موازين القوى سيكولوجياً بكشفها للعالم أنه بعد سبع سنوات من انطلاق مسار السلام ما زال الشعب الفلسطيني يداس في اليوم بألف قدم ويُجلد بألف سوط. كشف ذلك ايضاً ليهود العالم والاسرائيليين انفسهم الذين ارتفعت بينهم أصوات شجاعة لن تكون على الأرجح صيحة في واد، بل قد تنجح في دفع المفاوض الاسرائيلي الى تقديم تنازلات مؤلمة حقاً للهوس "الأمني". أعادت جدياً المفاوض الاسرائيلي والاميركان الى الجيوبوليتيك: الخرائط، السيادة، المستوطنات والرموز، أقنعت العالم بأن لبّ الأزمة هو الاحتلال والمستوطنات، ومن دون إزالة هذين العائقين الاساسيين للسلام لن يبقى للفلسطينيين من خيار سوى مواصلة النضال الذي قد ينزلق الى العنف ومضاعفاته أو قبول سلام الإذعان الذي لن يكون الا هدنة بين حربين، وأخيراً قد يكون أهم مكاسبها ان يتضافر ولع كلينتون بإنهاء ولايته بانجاز ديبلوماسي تاريخي مع حرصه على مصالح بلاده النفطية والاستراتيجية في المنطقة على دفعه الى تقويم مشروع تسوية مطابقة للقرار 242 والى إشراك أوروبا ومصر وروسيا فيها لاكتساب مزيد من الصدقية لدى الفلسطينيين الذين فقدت لديهم واشنطن صدقيتها. فشل كلينتون هذه المرة ايضاً قد يجعل اللجوء الى البديل الدولي لا بديل له غير اتساع وتجذر العنف في الأراضي المحتلة والمنطقة. أثبت العلم منذ القرن السابع عشر ان الطبيعة تحتمل الفراغ أما المسارات السياسية الساخنة فلا تحتمل الفراغ. يترصد "انتفاضة السلام" خطران: ان تنزلق الى العنف أو ان يقودها عرفات على هواه. اغراء العنف يتمثل في تبني لعبة السيارات المفخخة والعمليات الانتحارية الاسلاموية اللامجدية عسكرياً والقاتلة سياسياً واعلامياً، أو في عدم انضباط متطرفي فتح باللجوء الى حرب العصابات كبديل عن الانتفاضة أو كرديف لها. لذلك يستحسن ابقاء المارد في القمقم بدلاً من بذل الجهد لإعادته اليه. الاستراتيجيا عسكرياً وسياسياً هي تحديد ما نريد تحقيقه ومعرفة ما اذا كانت وسائلنا كفيلة بتحقيق غاياتنا. اذن كل خيار استراتيجي يخرج عن مطلب التفاوض الجدي لتطبيق القرار 242 في فلسطين كما طبق في مصر والأردن مغامرة. ما زال الاتجاه السائد في الانتفاضة بعيداً عن اغواء العنف لعدم مشاركة حماس فيها ولعزلة الجهاد الاسلامي الشعبية ولعدم تشكيل متطرفي فتح لقيادة بديلة لقيادة البرغوثي الميدانية ولقيادة عرفات السياسية. لكن الخطر الأكثر جدية هو ان يركب عرفات رأسه كما فعل في الأردن عام 1970 وفي لبنان وأدى الى اخراجه منهما. المؤشر على ذلك اصراره على الانفراد بصنع واتخاذ القرار دون مجرد الاصغاء لمستشاريه الذين يرفض ان يقول لهم ما يريد - ان كان هو نفسه يعرف ما يريد - وعلى مرمى حجر منه - في اسرائيل تشترك الاجهزة الأمنية مع مستشار الأمن القومي ومع المعاهد المتخصصة وزعماء الاحزاب السياسية في صنع السياسة التفاوضية والسيناريوهات والبدائل لكل احتمال. في كل مرة لم يستمع فيها عرفات الى المعتدلين قاد المقاومة الى كارثة سواء في الأردن أو في لبنان أو عندما رفض اشارة خالد الحسن عليه بالانضمام الى مفاوضات كامب ديفيد الاسرائيلية - المصرية وكان المعروض عليه دولة سيدة على كامل الأراضي المحتلة ومن دون مستوطنين، ممن لم يكن عددهم قد تجاوز بضعة آلاف، فيما هم اليوم 170 ألفاً، والمقابل لم يكن شيئاً آخر غير تغيير ولائه من موسكو الى واشنطن فقط لاغير! الواقعية السياسية مرادفة للاعتدال بما هو البحث عن حل وسط بين ما نريد وما نستطيع. وليس من الواقعية المراهنة على اطالة وتجذير الانتفاضة مما يتيح له - في ظل حكومة ليكودية يبدو انه بات يعلق أمله عليها - اعلان دولة من طرف واحد معمدة بدماء الاطفال الفلسطينيين ليكون هذا الدم صك ميلادها واسطورتها المؤسسة حتى لا تدخل التاريخ بأنها كانت "هدية" اسرائيلية. مدمنو الشعارات السهلة التي تتناسب سهولتها عكساً مع فاعليتها يرددون: "الانتفاضة هي الحل". لكن الانتفاضة كما الحرب ليست نمط حياة، بل قوسان لا بد من غلقهما قبل ان تنزلق الى العنف الأعمى مثلما حصل لانتفاضة الاسلاميين الجزائريين، وتختفي منها تلك المشاهد المؤثرة التي تنقلها تلفزيونات العالم عن المواجهة بين دبابتين اسرائيليتين وطفل فلسطيني يرميهما بالحجارة. وبعد كل شيء فليس بالانتفاضة وحدها يحيا الفلسطيني. إذ ان الحكومة الاسرائيلية، التي لم تستخدم بعدُ كل عنف ترسانتها القمعية، سترد عليها حتى بتكثيف الحرب الاقتصادية والتجارية من قطع النفط الى قطع الكهرباء مروراً بقطع الماء والدواء وجميع السلع الضرورية لحفظ البقاء فضلاً عن الاستغناء عن 120 ألف عامل فلسطيني كما يطالب بذلك منذ الآن زعماء ليكود. المساعدات العربية الافلاطونية على الأرجح والوصفات البلدية لتعويض ما تقطعه اسرائيل لن تجدي نفعاً. في 1947 أنذر رئيس الحكومة الفرنسية ديغول زعيم الشيوعية الفرنسية موريس توريز بأنه قرر استخدام العنف ضد الاضراب العمالي الذي طال. تبلغ توريز الرسالة فخطب في المضربين: "تعلمتم كيف تقومون بإضرابكم فتعلموا كيف تنهونه". وفعلا أنهوه قبل ان يتحول الى مذبحة. على الفلسطينيين ايضاً ان يتعلموا كيف ينهون انتفاضتهم في الوقت المناسب وبامكانهم العودة اليها اذا دعت الحاجة.