كيف يعرف العربي مثلنا أنه أقام في الخارج طويلاً؟ المقصود بالسؤال هو عرب أقاموا في لندن او باريس او نيويورك، حتى اكتسبوا عادات اهلها. عندما كنا سيّاحاً كنا نزور برج ايفل في باريس، وقصر بكنغهام او متحف الشمع مدام توسو في لندن، او ناطحة السحاب "إمباير ستيت" في نيويورك. غير ان الانسان مثلنا لا يصبح من سكان هذه المدن الا عندما يدرك انه لا يزور مثل هذه الاماكن، بل لا يكاد يشعر بوجودها، تماماً كما كنا في بيروت لا نزور المتحف الوطني ونتركه للسيّاح. وأنت أقمت في نيويورك طويلاً اذا لم تعد تسمع ابواق السيارات، بل لم تعد تسمع صوت سيارة الاسعاف او الاطفاء. واذا رأيت انساناً أُغمي عليه فسقط على الرصيف، وخطوت فوقه من دون ان تحاول مساعدته، فأنت نيويوركي صميم. وأنت أقمت طويلاً في نيويورك، او أي مدينة غربية كبرى، اذا سمعت خطوات وراءك فالتفت خائفاً، واذ تجنبت المرور في اي شارع مظلم او شبه مظلم، واذا كنت تعرف قصصاً مخيفة عن ثلاثة اصدقاء على الاقل تعرضوا للضرب والسرقة في وضح النهار. وأنت أقمت طويلاً اذا أصبحت تدخل في جدال مع السائقين الآخرين على كل مفترق طريق، وتنهي كل جدال من هذا النوع بإشارة سفيهة بيدك. والإقامة الطويلة تجعلك تنسى اشياء من نوع انك تتنفس هواء ملوثاً، مع انك لا تدخّن خوفاً على رئتيك، وانك تدفع لايقاف سيارتك في وسط المدينة ما يزيد على القسط الشهري لسيارة محترمة خارج المدينة، وان مئة دولار لم تعد تملأ كيس مشتريات واحداً في "السوبرماركت"، وان موظف الاستقبال في البناية العالية حيث توجد شقتك يقبض من البقشيش والمعايدات من اصحاب الشقق ما يزيد اضعافاً على مرتبك من البنك الذي تعمل فيه. وقد أقمت في مدينة كبرى طويلاً اذا اصبحت تعتبر اي شجرتين والحشيش الاخضر بينهما محمية طبيعية. وفي حين ان كل سائق تاكسي في لندن انكليزي، فأنت أقمت طويلاً في نيويورك اذا لم تعد تذكر آخر مرة كان سائق التاكسي فيها اميركياً ابيض رأيت آخر واحد من هؤلاء سنة 1968. في لندن ينسي طول الإقامة المقيم شكل الشمس والسماء الزرقاء. والشمس وزرقة السماء متوافرتان صيفاً في نيويورك غير انها "في الصيف حريق وفي الشتاء غريق" كما يقولون، والمقيم طويلاً فيها يصبح آلة، او انساناً آلياً، فعندما يهطل الثلج تأتي جرافات البلدية وتجرفه الى الأرصفة، ويستيقظ المقيمون في الصباح فيجرفون الثلج من امام بيوتهم الى الشارع. وتعود جرافات البلدية لتجرف الثلج الى الرصيف. ويعود المقيمون ليجرفوا الثلج بالاتجاه المعاكس، وهكذا حتى يأتي الربيع ويذوب الثلج، من دون ان يلاحظ احد هذا التصرّف الغريب. لندنونيويوركوباريس مدن سياحية مشهورة، وأنت أقمت طويلاً في الخارج اذا اصبحت ترتدي قميصاً "تي شيرت" كتب عليه "لست سائحاً. انا اعيش هنا". رأيي الشخصي ان باريس اجمل هذه المدن الثلاث، ولكن المؤسف انها ملأى بالفرنسيين، وهؤلاء سريعو الغضب، فإذا اصبحت تُستفز لأقل كلمة او اشارة، واذا عبّرت عن الغضب بأصوات، لا كلمات مفهومة، فقد أقمت في باريس طويلاً. طبعاً بعد الاقامة طويلاً في باريس لا يعود المقيم يهتم بما يقول، فالمهم ان يلبس ثياباً أنيقة. وأنت أقمت طويلاً في اي عاصمة غربية اذا لم تعد تسمع الاخبار من الراديو، او تقرأ التعليقات في الصحف، وانما تعتمد على مصادرك الخاصة من سائقي التاكسي والحلاقين. والحكومة لا تعود مهمة بعد الإقامة طويلاً في الغرب، بل لا تعود تخطر ببالك. واذا رأيت شرطياً في الطريق، فأنت لا تفترض انه وراءك ويتابعك، بل ربما شعرت بإشفاق عليه لأنه من دون هيبة ومرتبه قليل. اما المخابرات فلا وجود لها الا في الروايات البوليسية. وقد نسيت جذورك اذا لم تعد تقبل ان يزورك الناس من دون ميعاد، واذا زارك قريب او صديق، ان يقيم واسرته في بيتك طوال الاجازة، مع توقعه ان تعمل سائقاً له خلالها. وأنصحك بحزم حقائبك والعودة الى الوطن، اذا وجدت انك لم تعد تشرب 20 فنجان قهوة في اليوم، ومثلها من الشاي، وانك لم تعد تستطيع النوم بعد الظهر وقبله لأنك مضطر الى العمل