في السابع عشر من يوليو تموز خطت البشرية خطوة إلى الأمام نحو عالم يسوده العدل. فلقد تقرر، في روما، انشاء محكمة جنائية دولية للنظر في جرائم الحرب. وحصل ذلك على رغم الصعوبات التي تواجهها المحاكم المخصصة لما جرى في رواندا ويوغوسلافيا السابقة. ففي هاتين الحالتين ثمة متهمون احيلوا إلى المحاكمة غير أن القسم الأكبر من المجرمين ما زال طليقاً، وربما كان البعض منهم يستعد لجرائم جديدة. فقوات حلف الأطلسي لم تنجح حتى الآن في وضع يدها على المطلوبين الذين ارتكبوا المذابح في ساراييفو وموستار وكوسوفو. ليس لأنها لا تستطيع، بل لأنها لا تريد خوفاً من أن يهتز السلام الهش أو تتعطل المساعي المبذولة لمنع تطور الصراعات. وهناك لجان نيابية فرنسية "تستقصي الحقائق" باحثة عن العبء الذي يتحمله مسؤولون فرنسيون في تسليح ميليشيات الهوتو التي ارتكبت المجازر بحق الاقلية التوتسية. هذه المشاكل شكلت دافعاً نحو الإصرار على انشاء محكمة دائمة تملك موازنتها ومؤسساتها ومدعيها العام وهيئة محلفيها ونظامها الداخلي وصيغة علاقاتها مع أجهزة الأممالمتحدة الأخرى. ويكفي الآن تصديق ستون دولة حتى يبدأ القرار بالنفاذ في انتظار جمع "التواقيع" اللازمة - حتى العام ألفين - من أجل بدء العمل بموجباته. ومن المقدر ان يضطر كل من يقدم على جريمة حرب أو ضد الإنسانية أو إبادة أو عدوان ان يحسب حساباً إلى أنه قد يتعرض للملاحقة خاصة إذا توافق توجه المحكمة الجديدة مع قرار لمجلس الأمن. كانت لحظة التصويت تاريخية بالفعل، أيدت 120 دولة مشروع القرار، وعارضته سبع دول، وامتنعت 21 عن الاقتراع. النصاب القانوني مؤمن إذاً، غير أن النصاب السياسي يعاني من مشكلة، فالولاياتالمتحدة كانت ضد مشروع القرار وكذلك الصينوالهند متحفظة ومثلها دول أخرى بقيت على الحياد، أو حتى غلبت الموقف الايجابي محتفظة بحقها في مراجعة النصوص وادخال تعديلات عليها. الاعتراض الأميركي هو الأهم طبعاً، لما للولايات المتحدة من وزن عالمي. فلقد لعبت واشنطن دوراً في انشاء محكمتي رواندا ويوغوسلافيا. واتخذ الكونغرس قراراً بتحويل الرئيس العراقي صدام حسين إلى محكمة مماثلة. وكان المندوبون الأميركيون حاضرين في المناقشات كلها، ولكن عندما حانت لحظة الحقيقة فضلوا العزلة على القبول بنص لا يمكنه أن يحظى برضى الإدارة، خصوصاً برضى الهيئات التشريعية. غير أن الأوروبيين والآسيويين والأميركيين اللاتينيين والعرب أصروا على تمرير المشروع، فوجدت الولاياتالمتحدة نفسها وقد ازدادت ابتعاداً عن الأممالمتحدة والمنظمات التابعة لها. ليس سراً أن الكونغرس يرفض دفع الحصة الأميركية في موازنة الهيئة الدولية، وهو يعارض حتى الآن الوفاء بكامل الالتزامات لصندوق النقد الدولي على رغم الحاجة الماسة إلى السيولة. ومن المعروف ان واشنطن رفضت قرار محكمة العدل الدولية في موضوع ليبيا، وأنها تعارض صلاحية محكمة التجارة الدولية جزء من "الغات" في البت بالخلافات الاقتصادية، كما أنها لا ترضى وضع قواتها تحت الامرة المباشرة لقيادة الطوارئ. تدل هذه المؤشرات كلها على وجود أزمة ثقة بين الأميركيين و"العمل الدولي الجماعي"، وإذا كان التيار الانعزالي الأميركي هو قوة الضغط الرئيسية في هذا الاتجاه فمن الواضح أنه بات يملك تأثيراً ولو محدوداً على مواقف الإدارة. ولعل الطريف في الأمر هو أن الرئيس الأميركي، جورج بوش، هو صاحب نظرية "النظام العالمي الجديد"، ولقد اراد لها أن توحي بأن انتهاء الحرب الباردة يقود إلى انتصار الشرعية الدولية في كل مكان. غير أنه سرعان ما تبين ان مصدر هذه الشرعية هو، في العرف الأميركي، مجلس الأمن وليس غيره حيث يمكن لواشنطن أن تتحكم بالقرارات أو أن تمارس حق النقض. يدل تمرير المشروع على حدود السطوة الأميركية. فلقد رفضت أكثرية واضحة من الدول ادعاء التماهي بين القانون الدولي واخلاق بلد محدد، وكان سبق ذلك رفض لهذه البدعة الأميركية التي تسن قوانين وطنية وتحاول تطبيقها على الآخرين من دون اشراكهم في صياغتها سواء وافقوا عليها أم لا. إن القرار بانشاء محكمة من هذا النوع يعود إلى العام 1948 وقد تقدم البحث فيه خطوات في مطالع الخمسينات. غير أن "الاستقطاب الثنائي" حال بعد ذلك دون التوصل إلى نتيجة، فلقد انقسم العالم إلى معسكرين يتبادلان الاتهامات ويملك كل منهما سلم قيم مختلفاً جذرياً عن الآخر. فالمجرم بالنسبة لاحدهما بطل بالنسبة إلى الثاني. والواضح أنه في مثل هذه الحال، فإن القبض على شخص يمكن له أن يشعل فتيل أزمة دولية. لذلك لم يكن غريباً أن يستأنف البحث في 1989 وبناء على طلب من دولة صغيرة ومغمورة، ترينيداد وتوباغو، ثم أن تقود أحداث يوغوسلافيا إلى وضع الطبخة على نار حامية. منذ ذلك الوقت والاجتماعات تعقد بمعدل مرتين في السنة إلى أن حسم الأمر في روما بعد مناقشات مضنية دامت أسابيع ووصلت إلى ذروتها في يومي انعقاد الاجتماعات عندما أعلن الايطالي جيوفاني كونو: "لقد بات في وسع المجموعة الدولية أن تدخل القرن الحادي والعشرين مرفوعة الرأس". كيف تطورت مداولات الساعات الأخيرة؟ لقد افتتح مندوب الهند الكلام معترضاً على صلاحيات المحكمة الموسعة التي يمكن استخدامها لأهداف سياسية، خصوصاً أن الدور المناط بمجلس الأمن حق الدعوة إلى المحاكمة يخلط السياسي بالقضائي ولا يوفر لدولة كبرى، ونووية فوق ذلك، مثل الهند، حق التدخل الفعال. تحدث بعده مندوب الأوروغواي مؤيداً، وكذلك ممثل الفيليبين وبلجيكا، وهنا جاء دور البعثة الأميركية التي شن رئيسها هجوماً على "الطابع الكوني" للمحكمة مع ما يعنيه من احتمال مد سلطاتها إلى دولة غير موافقة عليها. وقال صراحة إنه يصعب على بلاده تحمل فكرة أن يحاكم مواطنون منها أمام قضاة غير أميركيين بتهمة أن بلادهم كانت تنوي شن عدوان معين. وشدد المندوب الأميركي على أن مهمة حفظ السلام منوطة بمجلس الأمن وهي سياسية بامتياز، لذا لا يجوز اخضاعها إلى "مبادئ القانون المجرد". وبعد أن تدخل المبعوث البرازيلي معترضاً على الفترة الخاصة بحق استرداد المجرمين المخالفة للدستور في برازيليا، جاء دور المندوب الإسرائيلي. لقد انطلق هذا الأخير من الموقف الأميركي العام ليزيد عليه ان إسرائيل لا تقبل اعتبار الاستيطان بمثابة "جريمة حرب"، وبما ان مشروع القانون يعتبر اقدام دولة على نقل سكانها للاقامة في أرض تحتلها "جريمة حرب"، فإن إسرائيل اعتبرت هذه الفقرة موجهة تحديداً إليها وإلى الاستعمار الزاحف الذي تمارسه في الأرض العربية المحتلة. امتنعت سريلانكا عن تأييد المشروع وعارضته الصين بحجة الأولوية المطلقة للمحاكم والقوانين الوطنية على ما سواها، معتبرة أن حق الملاحقة يمكن له أن يهدد العلاقات بين الدول والسلم العالمي تبعاً لذلك. ركزت تركيا على ضرورة ادخال مشكلة "الارهاب" الكردي طبعاً في عداد الجرائم، في حين تميز مندوب سنغافورة بإثارة الاعتراض حول سحب استخدام أسلحة الدمار الشامل من دائرة المحظورات. دعم مندوب النمسا باسم المجموعة الأوروبية المشروع، وكذلك فعل السودان باسم العرب، وتوالى مندوبو أميركا اللاتينية على الكلام مؤيدين بما في ذلك كوبا التي طالبت بالتشدد في معاقبة مرتكبي "الحصارات الاقتصادية". أيد المشروع، أيضاً، المتكلمون باسماء مصر وبوتسوانا والجزائر والسويد وباكستان والمانيا وفرنسا وبنغلادش وروسيا وأفغانستان وبنين. وختم المبعوث الفاتيكاني مرحباً بكل ما من شأنه تأمين احترام "الكرامة الإنسانية". كان واضحاً أن كفة الداعمين راجحة، خصوصاً إذا اضيف إليهم ممثلو هيئات مثل الصليب الأحمر أو "اليونيسيف" أو الناطقون باسم 800 جمعية غير حكومية مؤتلفة في إطار موحد عامل لإنشاء المحكمة الدولية. لقد انضمت هيئة جديدة إلى المنظومة العالمية للأمم المتحدة. وهي، إذا كانت تشكل، نظرياً خطوة إلى الأمام، فإن لا شيء يمنع أن تصاب بالشلل "النصفي" لمثيلاتها، خصوصاً أنها تعاني من "تشوهات" رافقت ولادتها، ولا يتردد الذين تحمسوا لها عن القول إنها ما زالت محاطة بالتباسات تلزمها فترة ممارسة مديدة من أجل ايضاحها: العلاقة مع المحاكم الوطنية، ملاحقة الدول أو الأفراد، فرز السياسي عن القضائي، الوضعية الدقيقة للحكومات غير المنضمة، فترات السماح التي تتراوح بين سنة وسبع سنوات، توزيع الصلاحيات بين المدعي العام والبلدان الشاكية ومجلس الأمن، نوعية العقوبات... الخ. هذه القضايا غامضة كلها إلى حد أنه لما اختتم اجتماع روما بالتصفيق طلب أحد الحضور أن يكون الترحيب... خافتاً!