انتحر اليمن الجنوبي مرتين. الاولى في 13 يناير كانون الثاني 1986 حين بلغ الصراع بين قادة الحزب الاشتراكي على السلطة حد الاحتكام الى السلاح وتحول اجتماع المكتب السياسي مجزرة كشفت ان عباءة الماركسية لم تنجح في اخفاء ضراوة الانتماءات القبلية والصراعات المناطقية أو ضبطها. والثانية حين ذهب الامين العام للحزب علي سالم البيض، الذي خرج منتصراً من الانتحار الاول، في الاعتكاف الى حد جعل الحرب خياراً وحيداً، واستكمل قرار الانفصال شروط الانتحار الثاني فلم يترك الرئيس علي عبدالله صالح الفرصة السانحة تمر. قبل الانتحارين كانت عدن عاصمة الشيوعيين والماركسيين العرب وخيمتهم اليتيمة في منطقة اظهرت تربتها قدرة على مقاومة الغرسات الماركسية. فقد سحق حزب عبدالخالق محجوب في السودان وذبح حزب "فهد" في العراق، وحل الحزب الشيوعي المصري نفسه، وقنع حزب خالد بكداش بمقعد في الجبهة الوطنية، وانشغل حزب نقولا الشاوي في لبنان بمقدمات الحرب الاهلية والحروب التي واكبتها. كان "الرفاق" يذهبون الى عدن التي ارتكبت احلاماً تفوق بكثير طاقاتها المتواضعة. كانت تسألهم وتناقشهم فلا يبخلون بالنصائح ولم تكن تبخل عليهم بالباسبورات. هل كان الانتحار الاول من مؤشرات الهرم السوفياتي؟ وما هي ملابسات ذلك الانتحار؟ قيل الكثير عما جرى في عدن في ذلك اليوم الذي انتهى بازاحة الرئيس علي ناصر محمد وخروجه من البلاد وبمقتل علي عنتر نائب رئيس مجلس الرئاسة وعبدالفتاح اسماعيل الذي كان قبل ازاحته في 1980 زعيماً للدولة والحزب. الذين انتصروا في ذلك النهار حكوا روايتهم وحملوا علي ناصر محمد مسؤولية تنظيم المذبحة. وعلي ناصر محمد كشف لسلسلة "يتذكر" ان اشرطة عثر عليها بعد الحرب الاخيرة في اليمن تثبت بصوت البيض ورفاقه انهم اتخذوا قرار الاحتكام الى السلاح. وظلت الصورة ناقصة لانها افتقرت الى رواية الشاهدين الاخيرين على الساعات التي سبقت الانتحار وهما جورج حاوي الامين العام للحزب الشيوعي اللبناني آنذاك ونديم عبدالصمد عضو المكتب السياسي فيه. صباح 13 يناير 1986 غادر حاوي وعبدالصمد عدن الى دمشق ولدى وصولهما اليها ابلغا ان الحزب الاشتراكي اليمني غرق في دمه وان الجهود التي بذلاها لم تسفر عن نتيجة. ويومها اتهم المنتصرون في عدن وفد الحزب الشيوعي اللبناني بتأجيج الصراع والانحياز الى علي ناصر محمد. كانت علاقة وثيقة تربط حاوي بعبدالفتاح اسماعيل وعلي عنتر وعلي ناصر محمد. وها هو يروي للمرة الاولى ما سمعه في الساعات التي سبقت الانفجار وسيكشف ايضاً انه نصح عبدالفتاح اسماعيل بعدم العودة الى عدن وانه كان في 1980 صاحب فكرة ذهابه الى موسكو اذ أصر علي عنتر يومها على ضرورة اعدام عبدالفتاح. ومع المحطة اليمنية محطة سوفياتية عن أولئك الرفاق الذين ذهب بهم الاعصار باستثناء فيديل كاسترو الذي ينتظر دوره على ظهر الجزيرة شبيهاً بالقبطان الذي يفضل الغرق مع سفينته او النجاة معها. أما المحطة الثالثة فكانت وقفة مع بدايات "الجمهورية الثانية". ففي 22 تشرين الثاني نوفمبر 1989 تطاير جسد الرئيس رينيه معوض مع ذكرى الاستقلال ووضع الاغتيال حداً لجمهوريته الوفاقية التي عاشت 17 يوماً. ويؤكد حاوي ان النائب بيار حلو رفض تولي الرئاسة وان المنافسة دارت آنذاك بين النائب الياس الهراوي والسيد جان عبيد وحسمت لمصلحة الاول. وهنا نص الحلقة السادسة: عندما انتخب النائب الياس الهراوي رئيساً للجمهورية اين كنتم في تلك المحطة؟ - لا أخفيك أننا اعتبرنا انتخاب رينيه معوض مكسباً مهماً للبنان وللحل. فالرجل تربطنا به صداقة. انه محاور دمث الاخلاق ووطني راغب فعلاً في خلاص لبنان. عقدت معه بعد انتخابه اكثر من لقاء، واحداً في زغرتا وآخر في بيروت وثالثاً لدى اصدقاء مشتركين، وتشاورنا في أمور عدة. في احد هذه اللقاءات اخبرته عن عملية تحضّر لاغتياله. صديق لحزبنا في الجيش اللبناني كُلِّف اغتياله. انه جندي كلفته اوساط على علاقة بالجيش اغتيال معوض فأخبرنا بالمهمة التي كلف القيام بها. أطلعت الرئيس معوض - رحمه الله - على التفاصيل فاستدعى مرافقه الشخصي العقيد طنوس معوض وكان الرفيق كريم مروة حاضراً ووضعنا خطة لمتابعة الموضوع. قلت له: يا فخامة الرئيس، يخططون لاغتيالك قبل تشكيل الحكومة والوقاية هي في الاسراع في تشكيلها لأن المجتهد يقول ان الشرعية، في حال اغتيالك قبل تشكيل الحكومة، ستكون لميشال عون، اما بعد تشكيل الحكومة فستكون الشرعية لرئيس الحكومة السني وبالتالي يتراجع خطر اغتيالك. قال ان امور تشكيل الحكومة صارت شبه جاهزة ولديّ عقبة اريدك ان تساعدني في حلها لن اقولها الآن لكني سأرسل إليك مع صديق مشترك رسالة في شأنها. وفي اليوم الثاني اتصل بي الصديق المشترك وهو رينه كعدو معوض، عديل الوزير ايلي حبيقة، وقال ان الرئيس معوض طلب منه ان نتغدى معاً للتشاور في موضوع التمثيل المسيحي في الحكومة ولإيجاد اقتراح يتعلق بإيلي حبيقة. هل يكون في الحكومة ام يتولى مسؤولية جهاز امني او غرفة امنية مشتركة لمساعدة الحكم في تحقيق استقرار امني. كان موعد الغداء مقرراً في 23 تشرين الثاني نوفمبر 1989 ولكن قبل 24 ساعة وفي يوم الاستقلال اغتيل الرئيس معوض. هل كان معوض ينوي حل عقدة عون بالقوة؟ - كان يريد حل عقدة عون بالحوار، اما اذا تعذر حلها بالحوار فيمكن عندئذ حلها بالوسائل العسكرية. كان ينوي تعيين اميل لحود قائدا للجيش والتعامل بحزم مع موضوع عودة الشرعية. كان يريد وضع عون امام خيارين: اما الالتحاق بالشرعية وله موقعه فيها واما الدخول في مواجهة مع الشرعية. عندما انتشر خبر استشهاد الرئيس معوض سارعت الى منزل الرئيس حسين الحسيني رئيس مجلس النواب آنذاك وكان مجتمعاً بعدد من النواب في حالة من الغليان والحيرة. اختليت به في حضور الدكتور البير منصور وأبديت رأيي بضرورة اجراء انتخابات رئاسية في أسرع وقت، بغض النظر عن الشخص. واقترحت دعوة المجلس النيابي في اليوم التالي قبل تشييع الرئيس معوض على ان يجرى التشاور في شخص الرئيس في الليلة نفسها. قلت له: انا ذاهب الى دمشق لترتيب لقاء. فقال بلّغ ابو جمال عبدالحليم خدام انني قادم فور انتهاء الاجراءات الرسمية وسنلتقي هناك للبحث. توجهت الى منزل الرئيس سليم الحص وتشاورت معه في الاتجاه نفسه وحضرت الاعلان رسمياً عن الاستشهاد. واضطر الحص الى إعادته ثلاث مرات لأنه كان يغالب دموعه. شددت من عزائمه وأبلغته ما تحدثت به مع الرئيس الحسيني وأنني ذاهب الى دمشق. وصلت الى مكتب ابو جمال حيث كان لاستشهاد معوض وقع مؤلم. بحثنا في الملابسات، وسألني عن البديل من وجهة نظري فقلت: النائب بيار حلو. قال: لا نعرفه. فأجبت: هذا ليس المقياس. قال: بيار حلو لم يتعاط السياسة في الفترة الاخيرة فهل هو قادر على معالجة الوضع؟ أجبته: بيار حلو هاجر من لبنان عندما لم يعد له مكان. كان اصدقاؤه الامام موسى الصدر الذي حلّ مكانه نبيه بري وكمال جنبلاط الذي حل مكانه وليد جنبلاط والأمير مجيد ارسلان الذي حل مكانه الاميران فيصل وطلال. نظر حوله فلم يجد له مكاناً فسافر الى السعودية. قال: يا جورج، بيار حلو وشفيق بدر هما النائبان المارونيان الوحيدان اللذان لم يزورا سورية حتى للصيد فكيف تريدني ان اسوّق؟ كنا نتحدث عندما دخل الاستاذ محسن دلول. سأله ابو جمال من تقترح فأجاب: بيار حلو. فقال له هل انت متفق مع جورج؟ فأجاب: لم أره قبل وصولي. وشرح دلول لماذا يقترح الاسم. في هذا الوقت اتصل ابو جمال بالرئيس الأسد وأخبره ان الرئيس الحسيني قادم. ولدى وصول الحسيني سأله ابو جمال من تقترح فأجاب: بيار حلو. قال: "العمى متفقين كلكم"! ذهب ابو جمال والحسيني للقاء الرئيس الأسد وانتظرت مع دلول النتيجة. بيار حلو يعتذر اقترحنا في الواقع اولويات تبدأ ببيار حلو ثم ينتقل البحث الى جان عبيد او الياس الهراوي. عبيد من خارج المجلس النيابي والهراوي من داخله. خرج الحسيني من اجتماعه مع الرئيس الأسد باتفاق على هذه الاولويات وكلفت انا الاتصال بعبيد الذي كان في باريس للحضور فوراً الى دمشق. وعاد الحسيني ودلول الى لبنان للاتصال ببيار حلو. بذلت محاولات عدة لاقناع حلو فلم يقتنع وشارك فيها من الحزب كريم مروة وسعدالله مزرعاني. قابلت بيار حلو في آخر النهار وبذل الرئيس الحسيني محاولة اخيرة. وهنا نكتة ظريفة: كانت حجة حلو ان رئيس الجمهورية الجديد يجب ان يكون شرساً، وهو وصل الى حد استخدام كلمة "ازعر"، لأن عون لن يخرج من قصر بعبدا الا بقوة السلاح ولا سلاح عندنا يخرجه من دون الاستعانة بالجيش السوري. يجب ان نأتي برئيس للجمهورية يطلب من الجيش السوري ان يقتحم قصر الرئاسة لاخراج عون. انا لا استطيع ان اقوم بذلك ومن دونه لا حل في لبنان. انا اولاً بيتي في بعبدا ثم انني لست دموياً. انا لم اقتل عصفوراً في حياتي. قال حلو هذه الجملة للرئيس الحص فابتسم الاخير وقال: انت لم تقتل عصفوراً اما انا فنباتي لم آكل عصفوراً في حياتي. فقال حلو: وجدت من هو ... مني. بينما كنا نتابع موضوع بيار حلو كان جان عبيد زار البطريرك الماروني نصرالله صفير ثم زار ابو جمال واتضح ان الوضع يستلزم شخصاً من داخل مجلس النواب. وجاء الهراوي هذا يعني ان عبيد كاد أن يصبح رئيساً للجمهورية؟ - نعم كان مطروحاً جدياً. في هذا الوقت كان الصديق النائب خليل الهراوي يأخذ عمه الياس الهراوي الى دمشق. وخليل موثوق به في دمشق وصديق للمسؤولين هناك، واتُفق على البرنامج الرئاسي لمواجهة مهمات المرحلة. من التقى الهراوي في دمشق؟ - الرئيس الأسد وأبو جمال وأُبلغ ان الخيار هو بيار حلو وان تعذر فأنت أو جان عبيد. عندما فشلت محاولات اقناع حلو اعتمد خيار الرئيس الهراوي. وهل كانت هناك صداقة بينك وبين الرئيس الياس الهراوي؟ - تربطنا به عداوة عندما كان جزءاً من زحلة الاخرى التي كنا نحاصرها كقوى وطنية في أيام حرب السنتين ثم علاقة تقوم على الاحترام. فالرئيس الهراوي همشري وحبّاب وصديق للكل. كنت بين اول من التقوه بعد انتخابه في "شتورة بارك اوتيل" وتحدثنا عن الوضع والمهمات وطرق مواجهة عون وإعادة الشرعية. وكان الجو ايجابياً. في هذا السياق يمكن القول ان الرئيس الياس الهراوي تحمّل دوراً كبيراً يجب ان يقر اللبنانيون له به مهما اختلفوا معه في الرأي على هذه القضية او تلك. لقد واجه صعوبات كبيرة وتحمل مسؤولية اتخاذ قرارات كبيرة، بما في ذلك قرار بسط سيطرة السلطة الشرعية وإنهاء ظاهرة عون في 13 تشرين الأول اكتوبر 1990. طبعاً كان ينبغي ان يساهم الرئيس الهراوي في اطلاق حوار لبناني - لبناني وتشجيع مؤتمر لبناني للمصالحة الوطنية والافادة من موقعه على رأس السلطة. فهذا المركز المعنوي الكبير، على رغم تعديلات الطائف، يسمح له بأن يكون أباً لكل اللبنانيين، اي داعية حوار بين كل اللبنانيين. وهذا ما لم يحصل ويا للأسف، الامر الذي جعل السلطة عموماً والموقع المسيحي في السلطة خصوصاً في حالة فراغ تملأه حتى اليوم تيارات واتجاهات معارضة بعضها سلبي وبعضها لا يستفاد من ايجابياته. عبدالفتاح اسماعيل: الحزب والسلطة من بيروت الى عدن كيف كانت علاقاتك مع عبدالفتاح اسماعيل؟ - كانت علاقاتي معه ممتازة. انه مناضل نموذجي من حيث التواضع والصبر والكفاءة الفكرية. وهو اساس التحول الفكري في حركة القوميين العرب نحو الفكر الماركسي مهما ادعى الآخرون ادواراً. وهو كذلك وراء كثير من النجاحات في تجربة اليمن آنذاك. ومع ذلك اختلفت مع عبدالفتاح اسماعيل اكثر من مرة. اختلفت معه لجمعه بين الأمانة العامة للحزب ورئاسة الدولة. وأبديت وجهة نظري الصريحة في ذلك الوقت خلاصتها ان من الأفضل له ان يبقى اميناً عاماً للحزب مكتفياً بالحالة الثورية النضالية التعبوية لأن مهمات رئاسة الدولة ليست له. لكن السلطة تثير المطامع. طبعاً هناك تنظيرات مختلفة تقول بضرورة الجمع لئلا يحصل تناقض بين الدولة والحزب. ثم تطور الصراع، وعندما قامت الحركة ضده هلعنا عليه هلعاً شديداً. وأذكر انني كنت في دمشق عندما جاء وفد من اليمن الديموقراطي ليبلّغ القيادة السورية جوهر التطورات. كان الوفد برئاسة رفيق طيب صار الآن في العالم الآخر هو علي عنتر. اجتمعت بعلي عنتر في دمشق فشرح لي وجهة نظره والتطورات. أبديت مرونة حياله لسبب وحيد هو محاولة الوصول الى اليمن لانقاذ عبدالفتاح اسماعيل. كنت اعرف ان في اليمن تقاليد غير سليمة في تبادل البطش من ذلك الذي مارسه سالمين على غيره الى ما تعرض له سالمين. كنت اخشى على عبدالفتاح اسماعيل وعلى علي ناصر محمد من هذا الجو. أصر علي عنتر على أن أرافقه، ولم يكن معي جواز سفر. فذهبت معه الى عدن في طائرة خاصة. وهناك قابلت علي ناصر الذي كان انتخب اميناً عاماً ورئيساً لمجلس الرئاسة ورئيساً للوزراء، ثلاثة القاب تحتاج الى ربع ساعة لتعدادها. هل لعب علي ناصر دوراً في ازاحة عبدالفتاح اسماعيل؟ - طبعاً. هو الذي أزاحه. هناك رواية تقول ان الآخرين ازاحوه وأتى علي ناصر كتسوية. - علي ناصر كان الحل لأنه كان رئيساً للوزراء وكان موقعه بالتالي اساسياً في الجيش والحزب. وهو كفء. أول شيء طلبته من علي ناصر ضمان حياة عبدالفتاح اسماعيل، فضمنها. قلت له ان علي عنتر يرى ضرورة اعدام عبدالفتاح اسماعيل، فطلب مني اقناعه بالعدول عن ذلك. التقيت علي عنتر وقلت له يجب عدم التورط في الدم وعدم اعدام عبدالفتاح اسماعيل على ان يكون الحل ذهابه الى موسكو. واقترحت على عبدالفتاح الذهاب الى موسكو، وطرحت الفكرة على علي ناصر فوافق. ذهبت للقاء السفير السوفياتي. كان متمسكاً بدعم عبدالفتاح وحاول ان يقول ان اجتماع اللجنة المركزية ليس شرعياً وانه أبلغ موسكو ان القائد الشرعي هو عبدالفتاح اسماعيل. اضطررت إلى ان اكون قاسياً جداً في الحوار، وقلت له: اتعتبر نفسك في السويد ام في عدن؟ وهل مجيء عبدالفتاح كان شرعياً ام تطيير سالمين كان شرعياً؟ كلها حالات غير شرعية يختلط فيها ما يسمى الشرعية الثورية بالحالة القبلية والعسكرية، استمرارك في هذا النهج سيؤدي الى خروج السوفيات من عدن والمنطقة والى تطيير عبدالفتاح اسماعيل. هناك حالة جديدة يجب ان تتعاملوا معها بواقعية من دون البحث في اشياء شكلية. حصلت على ضمانات من علي ناصر ان عبدالفتاح في خير وان الذين كانوا معه يستطيعون البقاء في مواقعهم، وهدأت من روع علي عنتر. وجئت الى بيروت والتقيت السفير السوفياتي الكسندر سولداتوف ونقلت إليه صورة الوضع في عدن وأبلغته ان السفير السوفياتي هناك يرتكب خطأ فادحاً لتدخله في الشؤون الداخلية لليمن، وهذا خطأ ديبلوماسي، ثم انه تدخل مع الفريق المنهزم. ولو تدخل مع الفريق الناجح لهان الأمر. فقال: ماذا تقترح؟ فأجبت: أقترح دعوة علي ناصر محمد إلى زيارة موسكو فوراً. بعد يومين وصلت دعوة الى السفير السوفياتي في عدن ليبلغها الى علي ناصر لزيارة الاتحاد السوفياتي. ففوجئ السفير السوفياتي في اليمن بذلك. وهناك كلام شهير بيني وبين علي ناصر محمد حين قلت له: أخاف ان يحصل معك ما يحصل لغيرك. والكلام نفسه قلته لعلي عنتر. طبعاً في اليمن تبدأ الجلسة مع واحد وتنتهي مع خمسة او ستة او عشرة حول القات. خرجت من عند علي ناصر مصراً على استبعاد أي حل دموي. انفجار 1986 وماذا عن ازمة 1986؟ - تفاقم الصراع مرة اخرى داخل الحزب الاشتراكي اليمني. تمت ادارة الصراع بطريقة خاطئة، وحصل تجاذب بين المصالح الشخصية مع الحالة القبلية مضافاً اليهما الطمع بالسلطة. طلب عبدالفتاح وعلي ناصر وعلي عنتر منا التوسط رسمياً فذهب الرفيق نديم عبدالصمد مرات عدة. كانوا يعتبروننا كما يعتبرون نايف حواتمة وجورج حبش حريصين على تجربتهم، بعض هذا الكلام كان صحيحاً وبعضه كان يهدف الى كسب تبريرات وحلفاء. اجتمعت مع عبدالفتاح في موسكو اكثر من مرة وحاولت اقناعه بأن دوره هو في المصالحة مع علي ناصر من دون الدخول طرفاً في الصراع داخل الحزب، وبالتحول الى عمل عربي تحت شعار حركة ثورية عربية جديدة يكون هو واجهتها وهو وريث حركة القوميين العرب وصاحب تجربة في السلطة وتفكير ماركسي ومحترم عربياً. وقلت له ان الوجود خارج السلطة شهادة حسن سلوك عند المثقفين العرب. طبعاً حالة النفي الاختياري او الاجباري صعبة على المناضلين وأنا أعرفها. وقد تفاقمت التناقضات. علي ناصر ومعه مجموعة من شيوعيين سابقين أو بعثيين سابقين مثل انيس حسن يحيى الذي كان بعثياً سابقاً وصار احد اعمدة الحزب الاشتراكي اليمني، او بوبكر باذيب شقيق علي باذيب الذي كان الأمين العام للحزب الشيوعي اضافة الى شخص كان مسؤولاً عن التنظيم هو عبدالغني عبدالقادر. هذه الفئة التي كانت تدعو الى تطوير الحزب لم تستطع التعامل مع حالة قبلية عادت تسيطر على الجيش والمناطق. فعلي ناصر والقيادة، بهدف ابعاد علي عنتر الذي شكل منافساً رئيسياً ونائباً للرئيس، جاءا بصالح مصلح قاسم وزيراً للدفاع، وهو شخص قوي من الضالع وعشائري وقبلي. ثم دخلت تناقضات عدة لا مجال لذكرها. وفي النهاية ان احتكار علي ناصر محمد السلطة في الرئاسة والأمانة العامة للحزب وفي رئاسة الدولة واستناده في الحزب الى بوبكر باذيب وفي الدولة والحزب على عبدالغني عبدالقادر جعلا المصالح الاخرى تلتقي ضده. ماركسية وقبلية في هذا الوقت وجد عبدالفتاح اسماعيل ان الوقت مؤات له للعودة الى اليمن، واتخذ في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني قرار بعودته. وكنت ضد هذا القرار وأبلغت عبدالفتاح ان من الخطأ ان يعود الآن على قاعدة هذا الصراع. وذهبت خصيصاً الى موسكو. ثم ذهب نديم عبدالصمد. وحاولنا افهامه بكل الوسائل: بتروح عليك وستكون انت الضحية. انت تريد العودة، نيتك ليست مهمة، سيتخذ منك متراساً. الجناح المعادي لعلي ناصر ينقصه الرمز وسيتخذ منك متراساً ولن تكون انت البديل. ثم انك لا تستطيع تبرير تغطيتك لحالة قبلية. انت تستطيع لعب دور الوسيط، دور الحل، هذا الدور تستطيع ان تلعبه وأنت في موسكو وليس في عدن. لم يفهم او انه رفض ان يفهم ذلك وعاد الى اليمن. طبعاً قبل عودته اجتمع في موسكو مع علي ناصر وحصلت مصالحة فيها من التكاذب ما لا حدود له. رجع وحصل ما كنا نخشاه. تكتلت المصالح من جديد. وصار عبدالفتاح رمزاً للقاء المصالح المتعارضة مرة اخرى. ووصل الخلاف الى أشده في المؤتمر الذي سبق حالة الانفجار. للأسف اخذ برنامج الحزب والخطة الخمسية من النقاش ساعة واحدة، اما القضايا التنظيمية فاستهلكت كل الوقت الباقي، كأن المجتمعين ليسوا مهتمين بغير خلافاتهم. وناورت الاطراف التي تعادي علي ناصر على نحو يضمن لها اكثرية في المكتب السياسي. في حين اكتفى علي ناصر بأكثرية في اللجنة المركزية. وكان المؤتمر منعقداً في جو متوتر من الاستنفار المسلح في البلد. وقال بعضهم انه لو انطلقت رصاصة واحدة خطأ لحصلت مجزرة في عدن. ومرة ثانية ربما كان هناك دور خاطئ للسوفيات والاستخبارات السوفياتية لم استطع بعد جلاء وقائعه ولا بد ان يكشف ذلك في المستقبل. وعلى رغم مشاغلنا الكبيرة اخبرنا الرفيق جورج حبش عن مجيئه وحال القلق التي كانت سائدة في عدن وعن دور التهدئة الذي لعبه. كان نديم عبدالصمد ذهب مرات عدة. فرأينا من المناسب قبول طلب ذهابي شخصياً للتوسط. ذهبت انا ونديم عبدالصمد. وكان هناك في اليمن حسين مروة - رحمه الله - في مهمة اخرى، هي وضع برنامج للمدارس والجامعات اليمنية. كان معنا رفيق آخر مهتم بقطاع الاقتصاد. اجتمعنا مع كل الاطراف ووجدنا ان الوضع شديد التوتر والصعوبة. واطلعنا على حال الاستعداد المتبادلة التي كان كل طرف يتخذها ضد الآخر. تهديدات بالقتل هل ابلغك علي عنتر انه يريد قتل علي ناصر؟ - نعم. كنت أحب علي عنتر كثيراً وكان يحبني ويعتبر نفسه عضواً في الحزب الشيوعي اللبناني. ذهبت وإياه اكثر من مرة الى ليبيا لطلب مساعدات لليمن. وذهبت وإياه اكثر من مرة في زيارات عربية خصوصاً الى سورية. واعتقدت شخصياً بأنني استطيع التأثير عليه. لكن الوضع كان في غاية التوتر وبات محتقناً في صورة غير عادية. كان هناك اجتماع للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي يوم 13 كانون الثاني يناير. بذلت جهدي لتأجيل ذلك الاجتماع خوفاً من حصول الانفجار. طلبت من علي ناصر التأجيل فقال انه موافق ولا يريد ان ينعقد ذاك الاجتماع لكنه لا يستطيع منعه لأن الاكثرية تريد عقده. فركزت جهدي على عبدالفتاح اسماعيل. ووافق عبدالفتاح على التأجيل شرط ان أحضر اللقاءات وتكون مستمرة فتحصل النقاشات امامي وأكون الحكم انا ونديم وجورج حبش. هل كان جورج حبش معكم؟ - كلا ولكن كان يفترض ان نغادر ثم نعود ويأتي حبش. في هذه الاثناء وصلتني برقية من الشام مفادها ان عبدالحليم خدام يريد ان يراني في 13 من الشهر لقضية مهمة كثيراً وكان الوضع في لبنان في ذلك الوقت خطيراً جداً. وكنت خططت للذهاب من اليمن الى السودان في زيارة سرية ورتبت اموري على هذا الأساس وكنت اريد استخدام جواز سفر يمنياً في هذه المهمة وذلك للاجتماع بحمد ابراهيم نُقُد الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني والبحث معه في الظروف النضالية التي يمر بها الشيوعيون السودانيون، وفي القضايا التي أثرتها معه سابقاً. رتبنا رحلتنا وحجزنا بطائرة "آرفرانس" التي تذهب الى الخرطوم عبر مصر وكنا ننوي البقاء حتى يوم 14 في اليمن. فلما أتت البرقية ألغينا رحلة السودان وقررنا العودة بطائرة "آرفرانس" عبر مصر الى الشام. التقيت عبدالفتاح اسماعيل وأبلغته اضطراري الى الذهاب، وطلبت منه ان يعدني بتأجيل المكتب السياسي ووعدته بالعودة انا وجورج حبش فور استطاعتنا ذلك. طلب مني ان نعود حين نستطيع لحضور اجتماع المكتب السياسي والبقاء حتى التوصل الى حل. لكنه طلب مني لقاء علي عنتر. ودّعنا عبدالفتاح وذهبنا الى علي عنتر الذي كان ينتظرنا ليعرف النتائج. عرف ان عبدالفتاح وافق على التأجيل فجاء الى اللقاء مستنفراً. رأيت ان علي عنتر قد تغير وأن جوهر موقفه منا هو كمن يقول: اهتموا بشؤونكم اللبنانية. ركز علي عنتر على ان اجتماع المكتب السياسي لا مفر من انعقاده بمن حضر وان الغد سيشهد مسألتين: تغيير مسؤول التنظيم أبو بكر باذيب وعبدالغني ويحل محلهما عبدالفتاح مسؤولاً للتنظيم، وخضوع علي ناصر لقرارات المكتب السياسي. قلت له: يا رفيق علي انا لا أناقش في الجوهر بل في الشكل. هذه المسألة لا يمكن حلها بين ليلة وضحاها. الوضع يتطلب تمهيداً. قد يكون رأيك هو الحل. وأنت تعرف انني كنت دائماً ضد صيغة ثلاثة في واحد منذ أيام عبدالفتاح. وعلي ناصر لا يمكن ان يكون اميناً عاماً للحزب ورئيساً للدولة ورئيساً لمجلس الوزراء. علي ناصر يمكن ان يكون رئيساً للدولة وعبدالفتاح اميناً عاماً. كل ذلك ممكن. ولكن يلزم حل المسألة بهدوء. لم يقتنع علي عنتر وقال: "بكرا اذا علي ناصر ما بيخضع للمكتب السياسي اقتله وأقتل نفسي". ومد يده الى مسدسه مكرراً "بقتلو وبقتل نفسي". فقلت له: يا علي لماذا تقتله؟ عش انت وإياه. العالم والسلطة والبلد تتسع لك وله. كرر علي عنتر ان علي ناصر يجب تصفيته. فقلت له: يا علي عنتر قلت الشيء نفسه عن عبدالفتاح. وكنا في الطائرة انا وأنت لمدة ثلاث ساعات احاول اقناعك بالعدول عن الفكرة وكنت مصراً. فأجاب: انا كنت مخطئاً. فقلت: كنت مخطئاً والآن تريده اميناً عاماً. فلو وافقت معك آنذاك لكان عبدالفتاح ميتاً. والآن يتكرر السيناريو نفسه مع الآخرين. كلكم طيبون وأوادم. والصراع لا يمكن ان يتم حله بهذه الطريقة. بقينا حتى الأولى والدقيقة 35. وكان علي ناصر ينتظر مني اتصالاً عن تأجيل المكتب السياسي. وكان صالح مصلح قاسم ينتظر القرار. لم يكن ضد التأجيل! جرى اتصال هاتفي بيني وبين علي ناصر أبلغته فيه ان علي عنتر رفض كل شيء ورفض التأجيل وهو متصلب "لكن طوِّل بالك". جرى الاتصال عبر شاب اسمه فاروق علي احمد اعدم في ما بعد، وكان عضواً مرشحاً للمكتب السياسي بعد اتهامه بتدبير العملية. انا لو عرفت بالعملية التي حصلت في المكتب السياسي لما عدت الى الشام. ولحسن الحظ انني لم اعرف. لأنني لم اكن استطيع التأثير في شيء. توجهت ونديم عبدالصمد صباحاً الى المطار ولم نكن نعلم ما يخبئه ذلك النهار في طياته. نزلنا في مطار الشام واتجهنا رأساً في اتجاهين مختلفين. ذهبت انا للقاء جورج حبش وذهب نديم الى السفارة السوفياتية. طلب موعداً من السفير فحدد له في الثالثة بعد الظهر. اما موعدي مع حبش فحدد في الرابعة. فوجدت ان بامكاننا ان نلتقي معاً السفير ثم نلتقي حبش. في الساعة الثانية اتصل بي نديم وأبلغني المجزرة التي شهدها المكتب السياسي في عدن. جئنا ولم نكن نعرف شيئاً عما حصل. هل عقد الاجتماع وجرت المحاولة ام ان علي ناصر كما تقول المعارضة استبق القرار وقام بتصفيتهم. الاحتمالان واردان وكل شيء يصدَّق عن الحالة الهائجة القبلية المغطاة بثياب ماركسية. لكنني للتاريخ أقول ان عبدالفتاح اسماعيل كان ساعية خير حتى اللحظة الاخيرة. هل كان علي ناصر مرناً؟ - كان مع التأجيل. وكان التأجيل من مصلحته. قيل انه كان لكم دور في تأجيج الوضع. وانكم نقلتم تهديداً من علي عنتر الى علي ناصر؟ - لم يكن هناك مجال لنقل الكلام. وكما قلت ابلغت علي ناصر ان علي عنتر متصلب وان عبدالفتاح موافق على التأجيل ودعوته الى التروي والمرونة. الانهيار والوحدة والانفصال أين كان علي سالم البيض في ذلك الوقت؟ - لم أر البيض. وعلاقتنا عادية منذ البداية. لا علاقات عميقة بيننا. ولكن كانت تربطني صداقة مع بن حسينون وعلي الشائع. البيض في ذلك الوقت كان خارج القيادة. ازيح من القيادة لأنه تزوج امرأة ثانية أو بسبب اشكالات اخلاقية، ثم عاد الى القيادة. كانت تربطني صداقة مع عبدالفتاح وعلي ناصر وصالح مصلح وعلي هادي شائع وأنيس حسن يحيى وعبدالغني عبدالقادر وأبو بكر باذيب. حصل خلاف بينكم وبين البيض لأنكم تبنّيتم غداة الانفجار موقف علي ناصر؟ - اتهمونا بأننا أتينا بالبيان معنا من عدن. في حين اننا تلقينا البيان بالهاتف وأذعناه وظهر في "النداء". اتخذنا موقفنا مع علي ناصر محمد بما معناه اننا لسنا مع المعارضة. الاتهام الذي سمعته في ما بعد هو اننا رتبنا القصة والبيان وخرجنا لننشر البيان في الخارج. هذا كذب وافتراء. موقفي كان الدعم لعلي ناصر والدعوة الى الحوار باتجاه ايجاد حل يضع حداً للصراعات القبلية ويعيد توزيع السلطة على أسس ديموقراطية. هل تعتقد بأن هذا الانهيار في ذلك الوقت هو الذي أدى الى الوحدة؟ - سرع عملية الوحدة اذ اضعف اليمن الجنوبي وعزز موقع الشمال. ولأن علي ناصر كان تياره وحدوياً وأخذ له من صنعاء موقفاً وتعاون مع الرئيس علي عبدالله صالح، احسن الاخير استخدام هذا الوضع للضغط على اليمن الجنوبي المشرذم والضعيف من اجل الوحدة. سار اليمن الجنوبي الى الوحدة مضطراً. وتبيّن ذلك لاحقا اذ عندما صادفت الوحدة صعوبات، لم يناضل الجنوبيون لمعالجة الصعوبات من الداخل فكان قرار الانفصال. وأنا كنت ضد الانفصال ومع موقف علي صالح ليس في الحرب بل في الحفاظ على الوحدة. كان يمكن الحزب الاشتراكي اليمني استعمال كل الوسائل لتصحيح الوضع بما في ذلك المعارضة المسلحة شرط الحفاظ على الوحدة ولو قام بذلك للقي تفهماً منا. وفي اعتقادي ان ما ارتكبه الحزب الاشتراكي اليمني في الانفصال شكّل خطأ تاريخياً نتيجة قراءة خاطئة لأحداث المنطقة. فهو لم يتنبه الى ان الادوار التي توقع ان تدعم الانفصال يمكن ضبطها اميركياً. هل العجز السوفياتي عن احتواء صراع كالذي حصل في عدن كان من مؤشرات الهرم في الكرملين؟ - المؤشرات نوعان: تلك التي تعتبر خطأ في العلاقة السوفياتية وتلك التي تعتبر هرماً. العلاقة كانت تدعي القدرة على الحل ولا تستطيع الحل. علاقة لا تقوم على الاحترام وتنمية الثقة، بل على اسلوب تدخل مخابراتي. ثم هرم لأن هناك رغبة وليست هناك قدرة. هل كانت هناك اجهزة سوفياتية مع علي ناصر وأجهزة سوفياتية ضده؟ - لا استبعد وجود توزيع أدوار. تهمة روسية من التقيت من الزعماء السوفيات؟ - اللقاء الأول كان مع خروتشوف في برلين عام 1961، وكان عمري آنذاك 22 عاماً. ثم التقيت بريجنيف في مؤتمرات وحفلات وأجل اللقاء الخاص مرات عدة بسبب مرضه. التقيت اندروبوف وتشيرنينكو وغورباتشوف. التقيت غورباتشوف للمرة الأولى في تشييع انريكو برلنغوير الأمين العام للحزب الشيوعي الايطالي ثم في موسكو في "الفوروم" لقادة الاحزاب ثم في لقاءات حزبية. التقيت كثيراً في السابق كيريلنكو الذي كان الرجل الثاني في الحزب في ايام بريجنيف. وكنت التقي دائماً بوناماريوف كما التقيت اندريه غروميكو وكان آخر من التقيته ينايف وهو الذي اتهم بقيادة الانقلاب ضد غورباتشوف. كنا وفداً حزبياً يضم ايضاً جوزيف ابو عقل، ويوسف مرتضى، وكان مدير مكتبنا في موسكو وله دور فاعل في تطوير الصلة مع السوفيات وقادة حركات التحرر. وكان من نتيجة حواري الساخن والحاد مع ينايف ان اتهمت في الصحافة الروسية لاحقاً بأنني مدير الانقلاب ضد غورباتشوف. ونشر محضر اللقاء مع ينايف وقد حرضته فيه على ان يقوم الحزب بدور في تبني "بيريسترويكا" باتجاه سليم وان لا يترك المبادرة للقوى المضادة والشارع، وان لا يفقد دوره نتيجة تمسكه بالماضي وعدم متابعة الجديد. حرضته ايضاً على الوقوف في وجه الانهيار السياسي فوعد باجراءات ومواقف. وكانت تلك التهمة آخر تهمة توجه إلي. هل تكره غورباتشوف؟ - لا، لكنني احتقره لأنه شخص تافه بكل معنى الكلمة. هناك من يتهمه بأنه عميل، احياناً تكون لدى العميل "مميزات". ان يتولى عميل رئاسة الحزب الشيوعي السوفياتي فهذا يعني انه عبقري. انا رأيي انه رجل تافه في طروحاته وقراراته التي لا ينفذها وفي منطقه. وهو لا يخجل من انه فكك القديم من دون ان يطرح بناء افضل. هل كان سوسلوف كاردينالاً؟ - كاردينال بالمعنى الكنسي. اذا نبشت الاوراق جيدا وكشف الماضي جيداً ربما كان هو المسؤول الرئيسي عن الجمود الذي اصاب عهد بريجنيف وعن التحجر وبداية التراجع، علماً انه كان يعطي طابع القداسة والابتعاد عن المناصب. تحليله الايديولوجي هو الذي اوصل الوضع الى ما وصل اليه. نعم هو بين المسؤولين الرئيسيين عن الجمود. هل عرفتم كشيوعيين آنذاك ان سوسلوف لعب دوراً في هندسة الانقلاب الذي اطاح خروتشوف؟ - لا شك. هو الأساس في الانقلاب وجيء ببريجنيف كشخص محايد لأنه لم يكن في موقع قوة. اقترح سوسلوف لمنصب الأمين العام لكنه اعتذر واقترح بريجنيف. من هي الشخصية التي كنت تعتبرها مهمة في أوروبا الشرقية؟ - الامور نسبية. لا شك في ان صيغة العلاقة بين بلدان اوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي قضت على امكان بروز شخصيات مهمة. لم يخرج الى الواجهة في الغالب الا التابعون والتافهون باستثناء يانوش كادار الذي كنت اعتبره مفكراًً ومجدداً ومرناً. هل التقيت ياروزلسكي؟ - نعم، وكان محسن ابراهيم يسميه مقشش الكراسي بسبب نظارتيه السوداوين. والعلاقات مع الصين؟ - نحن فتحنا المعركة مبكراً ضد الصين انعكاساً لوضع الحركة الشيوعية العالمية. وكالعادة نحن جادون في معاركنا. نسينا الخلاف بين الاتحاد السوفياتي والصين وصار الخلاف بين الحزب الشيوعي اللبنانيوالصين. طبعاً القادة الصينيون اتخذوا في ذلك الوقت مواقف خاطئة في المنطقة استفدنا منها لتعزيز الصراع. ومثل كل الاحزاب في العالم حصلت حالات انقسام صينية في ذلك الوقت. نحن تنبهنا إليها منذ البداية وأطرناها وتبنينا حالة انقسام صينية ثم نفّسناها وانتهى امر الحالة الماوية السابقة بأناس دفعناهم الى "تنظيم صيني". غير اننا كنا اول من طرح مبكراً فكرة اعادة النظر في هذا الموقف من الصين ومن تيتو. وقلنا فليكن للسوفيات ما يريدون من آراء، نحن حركة تحرر تحتاج الى صداقات ونتعاون مع الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب العمال البريطاني وحركة التحرر العربي فكيف الامر بيوغوسلافيا والصين. قمنا بمبادرة فزرت يوغوسلافيا واستقبلني خليفة تيتو ودعونا اليوغوسلاف الى مؤتمراتنا وانتظمت العلاقة. حسّنا العلاقات مع الصين وأرسلنا وفوداً. ذهب كريم مروة وآخرون. ثم تلقيت دعوة وذهبت وكنت اول امين عام لحزب شيوعي يستقبله الامين العام الجديد رئيس الصين الحالي جيانغ زيمين في فترة "بيريسترويكا" وكانت آراؤنا تلتقي حول المصير السيء للاتحاد السوفياتي قبل انهياره. دام اللقاء ساعات. اعجبت بشخصه وهو ابدى ارتياحاً إلى لحديث معنا والآن تربطنا بالصين علاقات وثيقة. كاسترو القائد من هو الزعيم الذي استوقفك داخل المعسكر الاشتراكي او خارجه؟ - فيديل كاسترو. انه ثوري مبادر. إن وضعه الجغرافي، ويا للأسف، جعله يعطي او يصغي الى السوفيات اكثر مما ينبغي والسبب نسبة القوى لكنه لا يعرف الجمود. لقد اضطر إلى ان يجمد نتيجة حاجته الاقتصادية والعسكرية الى السوفيات لكنه القائد الذي يستلهم موقفه من شعبه وليس من الكتب او النظريات. انه يحظى باحترام كبير. هل عرفت الرئيس بوريس يلتسن؟ - لا ولست آسفاً على ذلك. وهل التقيت الكسندر دوبتشيك؟ - لا، لكنني طردت من الحزب في الفترة التي ابعد فيها ثم طرد. كثيرون شبّهوني به وشبّهوه بي. وهناك نكتة طريفة في هذا المجال: عندما اتخذ تدبير في حق دوبتشيك جاء احد انصار الخط السوفياتي - دعنا نسميه كذلك - الى رفيق من عندنا اسمه عزيز صليبا وهو من القدامى لكنه كان مع خط التجديد وقال له: ها هو دوبتشيك قد طرد. فرد عزيز: ولكن طمّن بالك لن يعود نوفوتني. على صعيد قادة البلدان الاشتراكية كنت احترم كادار وعلى الصعيد العالمي فيديل كاسترو. وكانت لكم ايضاً علاقات بالجزائر؟ - لم أتعرف الى الرئيس هواري بومدين الا انني التقيت الرئيس الشاذلي بن جديد مرات عدة. علاقاتنا بالجزائر كانت جيدة على مستوى حزب جبهة التحرير الوطني خصوصاً مع رفيق مناضل هو محمد الشريف مساعديه. كان الاخضر الابراهيمي صديقنا، وآخرون... الحلقة الاخيرة: الاسبوع المقبل