لم يستطع الاتحاد السوفياتي في 13 يناير كانون الثاني 1986 منع حلفائه في الحزب الاشتراكي اليمني من الاقتتال في شوارع عدن. لم يستطع انقاذهم ولم يستطع لاحقاً انقاذ نفسه. ولعل ما جرى في عدن في ذلك اليوم كان دليلاً إلى أن القبضة السوفياتية كانت أخف مما اعتقد وأن معلومات موسكو كانت تفتقر إلى الدقة. على رغم العلاقات التي أقامها مع عدد من الدول العربية، والتي شملت أحياناً معاهدات "صداقة وتعاون"، فإن الوجود السوفياتي في اليمن الجنوبي كان أكثر تجذراً وخطورة منه في أي بقعة عربية أخرى. عبر وجوده في اليمن الجنوبي تمكن الاتحاد السوفياتي من المرابطة على حدود منابع النفط وبدت حدود اليمن الجنوبي لفترة شبيهة بخط تماس. في تلك الأيام تضاربت المعلومات عن حجم هذا الوجود وطبيعته وقدرته على زعزعة الاستقرار في المنطقة، خصوصاً في المراحل التي وفرت فيها عدن الملاذ الآمن لعدد من المنظمات والمجموعات التي يتهمها الغرب بممارسة "الارهاب"، وهي لم تبخل على الوافدين إلى معسكراتها بجوازات السفر وغيرها. سألت "الوسط" الرئيس علي ناصر محمد عن علاقات عدنبموسكو وحجم الوجود السوفياتي في أراضي اليمن الجنوبي والهبات والمساعدات. وهنا نص الحلقة الرابعة: كانت لليمن الجنوبي علاقات مميزة مع الاتحاد السوفياتي، ما قصة هذه العلاقات؟ - قصة العلاقات اليمنية - السوفياتية طويلة وقد تطرقت إليها تفصيلاً في مذكراتي في إطار الحديث عن العلاقات الدولية لليمن الديموقراطي. وإذا عدنا إلى التاريخ نرى أن علاقات اليمن بالاتحاد السوفياتي قديمة جداً وترجع إلى أيام الإمام يحيى بن حميد الدين والثورة البلشفية. وتعتبر اليمن شمالاً من أوائل الدول العربية التي ارتبطت بمعاهدة أو اتفاقية صداقة وتعاون مع موسكو ومنذ وقت مبكر. اطلق بعضهم على هذه المعاهدة عبارة مفادها أن المعاهدة كانت بين "إمام الشعية وإمام الشيوعية" في إشارة إلى الإمام يحيى بن حميد الدين وجوزف ستالين. وماذا عن الجنوب؟ - كنظام كانت موسكو من أوائل الدول الأجنبية التي اعترفت بالنظام الجديد في عدن بعد الاستقلال. وفي الوقت الذي أحسسنا فيه بأن بريطانيا تتخلى عن التزاماتها المادية كتعويض عن احتلالها لعدن والجنوب اليمني، وأنها تشترط لذلك أن نقدم لها تنازلات سياسية وتسهيلات عسكرية لم نجد أمامنا إلا أبواب موسكو مفتوحة. وقد كانت لنا نظرتنا المختلفة إلى الاتحاد السوفياتي، إذ لم يكن قوة استعمارية، بل قوة دولية تقاوم الاستعمار وتسند حرمات التحرر، كما أن مواقفه من مصر ووقوفه مع عبدالناصر في معاركه السياسية والاقتصادية كان حاضراً في أذهاننا. كان هذا سبباً واضحاً. ومن جانب آخر فإن موقف دول المنطقة من النظام الجديد في عدن كان دافعاً آخر للبحث عن صديق أو حليف يسند النظام أمام محاولات كثيرة جدية باسقاطه. وقد عقدت بين البلدين العديد من اتفاقات التعاون الاقتصادي والثقافي والعسكري كان أولها الاتفاقية التي وقعها الرئيس الأول للجمهورية قحطان الشعبي عام 1969 وتخللتها العديد من اتفاقات التعاون السياسي والاقتصادي وتوجت أخيراً بعقد "معاهدة الصداقة والتعاون" بين الاتحاد السوفياتي واليمن الديموقراطي والتي وقعها الرئيسان بريجنيف وعبدالفتاح اسماعيل عام 1979. كان هناك من يصف هذه العلاقة بأنها نوع جديد من الاحتلال؟ - من حق الدول أن تقيم علاقاتها مع من تشاء من الدول صغيرة كانت أم كبيرة وفقاً لما ترى أنه يحقق مصلحتها على أساس المساواة والتعاون والمنفعة المتبادلة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية. والخطأ الذي ارتكبناه في وقت ما هو اننا قصرنا علاقتنا على قطب واحد هو موسكو... بينما كانت لموسكو نفسها علاقات بواشنطن والغرب. لا أخفي عليك ان البعض في القيادة كان ينظر إلى هذه العلاقة مع الاتحاد السوفياتي كمسلمة يجب عدم المساس بها، بل أن البعض لم يكن يتردد في توجيه تهمة الخيانة لكل من يفكر في اقامة علاقة مع واشنطن على حساب العلاقات الأممية. وكانت العلاقة مع موسكو تدخل ضمن أوراق الصراع السياسي لترجيح هذه الكفة أو تلك. فوائد وخصومات محاولة تعديل هذا النهج حققت فوائد وأثارت خصومات؟ - نعم. هذه السياسة اثرت على وضعنا الداخلي ايجاباً، وعلى وضعنا الاقليمي سواءاً على صعيد تحسين علاقاتنا بالشطر الشمالي أو مع الجيران في مجلس التعاون الخليجي، كما أن تحويلات المغتربين ازدادت إلى الحد الذي استطعنا معه تخفيف العبء على اقتصادنا الوطني. كذلك طرأ تحسن تدريجي على علاقاتنا بالدول الغربية. واستطعنا الحصول على بعض القروض... فقد منحتنا بعض المؤسسات المالية الفرنسية قرضاً بعشرين مليون دولار لانشاء فندق عدن، واشترينا طائرتي "بوينغ" لاسطولنا الجوي المدني من الولاياتالمتحدة، وأجهزة مسح زلزالي للتنقيب عن النفط. للأسف الشديد كان البعض يريد أن يأتي كل شيء من موسكو في الوقت الذي كان فيه النظام هناك عاجزاً حتى باعترافهم عن مدنا بكل ما نريد. البعض بكل أسف كان يعتقد بأن عدن هي مثل هافانا... وعلى موسكو ان تدفع فاتورة الحساب وهذا مستحيل لأن موسكو نفسها كانت تعيش صعوبات اقتصادية. موعد مع بريجنيف نريد أن نسأل عن دوركم في هذه العلاقات وعن قصة السوفيات واستخراج النفط في اليمن الجنوبي؟ - أول لقاء عقدته مع الزعيم السوفياتي الراحل ليونيد بريجنيف كان في العام 1973 وهو أول لقاء لبريجنيف مع مسؤول يمني وكنت يومها رئيساً للوزراء. قبل ذلك كنت التقيت الكسي كوسيغين والماريشال غريشكو بصفتي وزيراً للدفاع. خلال اللقاء مع بريجنيف وقفنا أمام خريطة تظهر حدود اليمن الديموقراطي والبلدان المجاورة لها أي اليمن الشمالي وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية. بدا واضحاً أن بريجنيف مهتم بموقع اليمن الديموقراطي. أشار إلى الخريطة وقال: هذه حدودكم مع اليمن الشمالي وعمان والسعودية؟ فقلت له نعم. قال: إنها صحراء ورمال؟ فأجبت الايجاب. قال: إنها رمال تسبح على حقول من النفط فلماذا لا نساعدكم في استخراجه. رددت بالقول إننا نرحب بالتعاون في مجال استخراج البترول. توقف برجنيف لحظة وقال: البترول يحتاج إلى استقرار مع الدول المجاورة ولا يمكن التوفيق بين الاستقرار وتصدير الثورة. برنامجكم يؤكد على تحرير الجزيرة. أجبته: نحن لا نعتبر انفسنا مسؤولين عن التغيير في البلدان المجاورة وأنا ضد تصدير الثورة إليها. قال: إذاً اتفقنا على أن نبحث موضوع استخراج البترول. والحقيقة أن اللقاءات استمرت وكانت كثيرة بما في ذلك أثناء الفترة التي توليت فيها الرئاسة من 1980 إلى 1986. قصة النفط ارسل السوفيات خبراء للتنقيب واستخراج النفط لكن التكنولوجيا السوفياتية كانت متخلفة من ناحية، أما من الناحية الأخرى فلم يكن هناك قرار سوفياتي حقيقي باستخراج النفط لحسابات لا نعرفها وقد استمرت الفرق في العمل إلى ما بعد 1986. كان السوفيات ينقبون عن النفط في أوغادين أيضاً. وردد منغيستو هايلي مريام أمامي أكثر من مرة "يبدو أن النفط لن يستخرج لا في أيامي ولا في أيامك. واعتقد انه كانت لتعطيل استخراج النفط علاقة بسياسة الاتحاد السوفياتي الاقليمية والدولية. وفهمت من مسؤول سوفياتي انه كان للأمر علاقة بصراعات الأجهزة التي اعتبر بعضها ان من شأن استخراج النفط ان يعزز وضعي. حاولنا تحريك الموضوع مع بريجنيف في آخر أيامه خصوصاً عندما زار صهره نائب وزير الداخلية شربانوف عدن في 1982. التقيت السفير السوفياتي قبل الزيارة فأكد ان شربانوف هو الأقرب من الجميع الى موقع القرار "الذي يضع أحياناً في الفراش". طرحت مع شربانوف موضوع استخراج النفط وزيادة التكرير في مصفاة عدن وزيادة الهبة النفطية لليمن الجنوبي. سجل السفير المحضر لينقله شربانوف الى بريجنيف. أنا لم أصدق ان القرارات تصنع بهذه الطريقة في هذه الدولة العظمى وبما فيها من مؤسسات. بعد ثلاثة أسابيع فقط تسلمت ردوداً ايجابية على كل النقاط التي أثرتها بما فيها استخراج النفط وطلبت موسكو من الفرق العاملة الانتقال الى المواقع التي يستخرج منها النفط حالياً أي محافظة شبوه. التكنولوجيا كانت مشكلة بالفعل. وطلب الفنيون شراء أجهزة للمسح الزلزالي من الولاياتالمتحدة عبر طرف ثالث وحصل الشراء وظهرت مؤشرات ايجابية في موضوع النفط. احدى المسائل التي تحولت الى خلاف سياسي هي كيف نشتري أجهزة مما كان يسمى الامبريالية الأميركية. الأمر نفسه حصل عندما اعترض بعض أعضاء القيادة على شراء طائرات بوينغ 737 من أميركا. ناقشت الفنيين حول الجدوى الاقتصادية للطائرات الأميركية والسوفياتية. أكد الخبراء ان الطائرات الأميركية تستهلك وقوداً أقل من الطائرات السوفياتية بنسبة 25 إلى 30 في المئة. وقالوا ان قطع الغيار لهذه الطائرات متوفرة في اليمن والمنطقة وان الصيانة متوفرة في أثيوبيا وباكستان وأماكن أخرى. اتخذنا القرار في ضوء مصلحة اليمن. نفط وأسلحة وخبراء ما هي الميادين التي كانت المساعدات السوفياتية تشملها؟ - هبة سنوية من النفط تغطي جزءاً من حاجات الاستهلاك، وقدموا لنا أسلحة كثيرة طائرات ودبابات ومدافع وسفن وزوارق صاروخية وخبراء في مجالات عدة. بنى السوفيات سدوداً في اليمن واستصلحوا أراضي وقدموا مساعدات في مجالي الكهرباء وتحلية المياه. أذكر ان الزعيم الكوبي فيديل كاسترو قال لي ذات يوم: خذ منهم وقل لهم سجلوا على الحساب، لا تدقق كثيراً في القيمة أو الفوائد. أين كان للسوفيات وجود؟ - كان لهم خبراء في القوات المسلحة والزراعة والصناعة والكهرباء والنفط. تسهيلات لا قواعد ألم تكن لهم قواعد؟ - لا، كانت لديهم تسهيلات لتزويد السفن بالوقود. طلبوا تسهيلات بحرية فاعتبرنا أنها يمكن أن تضر بالعلاقات مع المنطقة. كان هناك كلام كثير عن قواعد لهم في سوقطرة. هذا الكلام غير صحيح وحتى اليوم لا يوجد في سوقطره مطار حديث أو ميناء حديث ولا توجد كهرباء. اتفقنا على أن يبنوا لنا ميناء للصيد ولكن ذلك لم ينفذ. اتفاق التسهيلات لتزويد السفن بالوقود كان في بداية السبعينات. الآن وقد صارت هذه المحطات ملك التاريخ هل كانوا يستخدمون أراضي اليمن الجنوبي للتجسس على الدول المجاورة؟ - كانت لديهم وسائلهم الخاصة والأقمار الصناعية وأسطولهم الكبير في المحيط الهندي وغواصات. كانت لديهم طائرات انطونوف في عدن. كل القوى الكبرى كانت موجودة في المحيط الهندي ذات يوم التقيت قائد الأسطول السوفياتي في المحيط الهندي فروى لي التالي: "هبت عواصف في فترة ما وتجمعنا وكان هناك لقاء لقيادة الأسطول. اقتربت سفن أميركية وسألتنا ماذا تفعلون، وكان للسوفيات في المنطقة أكثر من 30 سفينة، فرددنا عليهم بالقول انتم ماذا تفعلون هنا". كان ذلك في المياه الدولية. وما أعرفه هو ان الطائرات السوفياتية لم تقترب من حدود الدول المجاورة وكان مجالها بين عدن والأسطول في المحيط الهندي. أحب ان أشير هنا الى نقطة. في ضوء مصلحة اليمن والاستقرار في المنطقة قررت ان أسعى لاصلاح العلاقات مع صنعاء وكذلك مع سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية وسائر بلدان المنطقة. لم تبد القيادة السوفياتية اي تحفظ على هذه السياسة التي كانت تستجيب لمصلحة شعبنا. للأسف جاءت التحفظات من بعض العناصر في اليمن الديموقراطي ومن شخصيات خارج اليمن. لا بل انه بعد سياسة الانفتاح التي انتهجتها بدأ السوفيات يفكرون في اقامة علاقات مع دول المنطقة وتشاوروا معي في موضوع العلاقات مع عمان والامارات وشجعتهم لاعتقادي ان ذلك يخدم الأمن والاستقرار في المنطقة. كم كان حجم الوجود الألماني الشرقي؟ - كان لهم خبراء في الأمن وفي مجالات أخرى. هل طلب منكم السوفيات رعاية منظمات أو مجموعات يتهمها الغرب بالضلوع في عمليات ارهابية؟ - لا، لم يطلب السوفيات أشياء من هذا النوع. وجود بعض الحركات والمنظمات جاء في اطار آخر. أعطيتم الأولوية للعلاقات مع الأحزاب الشيوعية وعلى حساب علاقاتكم مع الأطراف الأخرى؟ - هذا الأمر لم يكن خافياً على أحد. فعلاقة النظام في "اليمن الديموقراطي" بالأحزاب الشيوعية عربية أو أجنبية كانت انعكاساً طبيعياً للعلاقة مع موسكو، ومع الحزب الشيوعي السوفياتي. وقد سبب لنا هذا أوضاعاً صعبة على صعيد العلاقة مع جيراننا في الجزيرة والخليج وحتى مع بقية أشقائنا العرب نظراً للطبيعة الحساسة للمنطقة التي تشكل قاعدة هامة للمصالح الدولية. وفرض علينا هذا نوعاً من الانغلاق والعزلة الاقليمية والدولية. وكان الخطأ الذي ارتكب في تلك المرحلة انه جرى تجاهل القوى السياسية الأخرى وشطبها من الحساب. فالبعض كان ينعت الأحزاب والتنظيمات القومية بالشوفينية، بينما كان ينظر الى الأحزاب الدينية بأنها أحزاب رجعية. وكان تصحيح ميزان العلاقة من ضمن الاجراءات التي قمت بها... وهكذا أقمت علاقات مع كل القوى السياسية قومية ودينية بالاضافة الى العلاقة التقليدية مع الأحزاب التقدمية، ووطد هذا من موقع النظام. وما زلت احتفظ بهذه العلاقة. عدن وظفار ماذا قدمت عدن للحركات المسلحة في ظفار؟ - العلاقة بين ما كان يسمى "الجبهة الشعبية لتحرير ظفار" و"الجبهة القومية" في اليمن أساسها حركة القوميين العرب. نتيجة لخلافاته مع دول المنطقة وقف اليمن الديموقراطي الى جانب جبهة تحرير ظفار. استمر هذا الموقف من 1967 الى عام 1982 حين طبعنا العلاقات مع سلطنة عمان بموجب اتفاق اكتوبر تشرين الأول 1982 في الكويت، الغلطة التي ارتكبتها جبهة تحرير ظفار هي انها سمت نفسها "الجبهة الشعبية لتحرير الخليج العربي". كل ذلك صار الآن من التاريخ. الحقيقة ان عدن قدمت لهم كل أشكال الدعم العسكري والمالي لكن لم تكن هناك مشاركة على مستوى الأفراد. في 1974 توقفت عملياً معظم العمليات العسكرية في ظفار. وأدت الاصلاحات الواسعة التي قام بها السلطان قابوس في ظفار وسائر انحاء البلاد الى سحب البساط من تحت "الجبهة الشعبية". بعد 1980 تكلمت بصراحة مع عناصر "الجبهة الشعبية" وقلت لهم اننا سنطبع علاقاتنا مع سلطنة عمان وطالبتهم بالعودة وأبديت استعدادنا لتوفير ضمانات لهم. بعدها تحركت السلطنة بمبادرة منها وبدأت تنظيم عودة الناس. استوعب السلطان قابوس كل المعارضة التي كانت خارج عمان. استوعبها في بعض الأجهزة ونجح في ترسيخ الاستقرار. الأسلوب الذي اتبعه كان مهماً للتفرغ لبناء الدولة والقيام بالاصلاحات الاجتماعية والاقتصادية. نحن أيضاً كانت لنا مصلحة في الهدوء والاستقرار.