بيئي الشرقية يدشن معرض ( تعرف بيئتك ) بالخُبر    تعليق الدارسة وتأجيل الاختبارات في جامعة جدة    أمير الرياض: المملكة تدعو لدعم «الإسلامي للتنمية» تلبية لتطلعات الشعوب    لتحديد الأولويات وصقل الرؤى.. انطلاق ملتقى مستقبل السياحة الصحية    عباس يدعو إلى حل يجمع غزة والضفة والقدس في دولة فلسطينية    وزيرا الإعلام والعمل الأرميني يبحثان التعاون المشترك    ولي العهد يستعرض تطوير العلاقات مع أمير الكويت ورئيس وزراء العراق    فيصل بن فرحان: الوضع في غزة كارثي    بدء العمل بالدليل التنظيمي الجديد للتعليم.. الأربعاء    عبدالله خالد الحاتم.. أول من أصدر مجلة كويتية ساخرة    «جلطة» تنقل الصلال إلى المستشفى وحالته مستقرة    «رابطة العالم الإسلامي» تُعرِب عن قلقها جرّاء تصاعد التوترات العسكرية في شمال دارفور    انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي في مطار الملك خالد    اللجنة الوزارية العربية تبحث تنفيذ حل الدولتين    " ميلانو" تعتزم حظر البيتزا بعد منتصف الليل    فيصل بن بندر يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر ويستقبل مجلس جمعية كبار السن    الفيحاء يتوّج بدوري الدرجة الأولى للشباب    الأهلي بطلاً لكأس بطولة الغطس للأندية    النصر والنهضة والعدالة أبطال الجولة الماسية للمبارزة    تتضمن ضم " باريوس" مقابل "فيجا".. صفقة تبادلية منتظرة بين الأهلي وأتلتيكو مدريد    منتدى الرياض يناقش الاستدامة.. السعودية تتفوق في الأمن المائي رغم الندرة    يعرض حالياً على قناة ديسكفري العالمية.. فيلم وثائقي عن الشعب المرجانية في البحر الأحمر    الأرصاد تنصح بتأجيل السفر برّا لغير الضرورة    استمرار هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    آل طيب وآل ولي يحتفلون بزفاف أحمد    اللواء الزهراني يحتفل بزفاف نجله صلاح الدين    منصور يحتفل بزواجه في الدمام    دولة ملهمة    نائب أمير مكة يطلع على تمويلات التنمية الاجتماعية    ديوانية الراجحي الثقافيه تستعرض التراث العريق للمملكة    النقد وعصبية المسؤول    مهنة مستباحة    فئران ذكية مثل البشر    إستشاري يدعو للتفاعل مع حملة «التطعيم التنفسي»    اكتمال جاهزية كانتي.. وبنزيما انتظار    شوبير: صلاح يقترب من الدوري السعودي    د. اليامي: إهتمام القيادة بتنمية مهارات الشباب يخفض معدل البطالة    محمية الإمام عبدالعزيز تشارك في معرض أسبوع البيئة    جامعة «نورة» تفتتح منافسات الدورة الرياضية لطالبات الجامعات الخليجية    أمير المدينة المنورة يدشن مهرجان الثقافات والشعوب في دورته ال 12    منجزات البلدية خلال الربع الأول بحاضرة الدمام    ميتروفيتش ومالكوم يشاركان في التدريبات    المصاعد تقصر العمر والسلالم بديلا أفضل    صحن طائر بسماء نيويورك    جائزة الأميرة صيتة تُعلن أسماء الفائزين بجائزة المواطنة المسؤولة    أول صورة للحطام الفضائي في العالم    سعود بن بندر يستقبل أعضاء الجمعية التعاونية الاستهلاكية    أمير الرياض يؤدي الصلاة على عبدالرحمن بن معمر    ذكاء اصطناعي يتنبأ بخصائص النبات    تطبيق علمي لعبارة أنا وأنت واحد    نائب أمير منطقة مكة المكرمة يستقبل الرئيس التنفيذي لبنك التنمية الاجتماعية    أمير تبوك يواسي أبناء أحمد الغبان في وفاة والدهم    كبار العلماء: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    وزير الدفاع يرعى تخريج الدفعة (82) حربية    هيئة كبار العلماء تؤكد على الالتزام باستخراج تصريح الحج    المسلسل    الأمر بالمعروف في الباحة تفعِّل حملة "اعتناء" في الشوارع والميادين العامة    «كبار العلماء» تؤكد ضرورة الإلتزام باستخراج تصاريح الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودانيون : أنقذونا من الانقاذ . "تماسيح" جدد وضرائب اضافية وتجارة سوداء ومطبع محلية للعملة
نشر في الحياة يوم 25 - 04 - 1994

يتناقل المواطنون السودانيون باهتمام هذه الايام واقعة جرت في أحد مساجد الخرطوم حيث أم المصلين يوم الجمعة أحمد محجوب حاج نور القاضي المعروف في المحكمة العليا.
كان القاضي يحض المصلين على مجاهدة النفس والتغلب على رغباتها التي لا تتفق والقدرة الشرائية بسبب غلاء المعيشة واستشراء التضخم وندرة العملات الصعبة، وعندما ختم عظته مؤكداً "ان الجهاد الاصغر هو مجاهدة النفس وما تشتهيه" فوجئ الحضور بمواطن سوداني يتقدم من مكبر للصوت ويطلب الاذن ليعقب على العظة، وقال: "ايها الناس كابدت طويلاً مشاعر الحسرة وانكسار الروح، وولدي يلح عليّ ان اشتري له ولأخوته دجاجة كادوا ان ينسوا طعم لحمها. انا يا اخوة راتبي كله 4500 جنيه، ذهبت الى البقالة ذات يوم وصممت على شراء دجاجة لاطفالي مهما كلف الأمر. وعندما زانها البقال وسعّرها وجدت ان ثمنها بلغ نصف قيمة مرتبي الشهري، وفكرت بسرعة في الالتزامات الاخرى الضرورية وقررت الا اشتري الدجاجة وقفلت عائداً واذا بي أشاهد مجموعة من ثلاثة وقد تسوقوا ما لذّ وطاب وهم يتدافعون نحو الصندوق لتسديد الثمن. فوقفت في زاوية البقالة ارقب بحسرة هؤلاء مستعيناً بالله ورسوله على نفسي مجاهداً رغباتها. واخيراً تقدم أحد هؤلاء المحظوظين وسدد ثمن ما تبضع به الثلاثة وبلغت الفاتورة 65 ألف جنيه. هل تعلمون، أيها الاخوة، من كان ذلك الرجل؟ انه الحاج نور الذي يقف فينا خطيباً، داعياً الى جهاد النفس وتطويعها لنتقبل فقرنا وبؤسنا وهذا الذل الذي نتجرعه كل صباح"!
هذه الواقعة تكشف الحال البائسة التي يعيشها معظم السودانيين باستثناء قلة يرصدهم اهل الخرطوم، وهم يتحدثون عن الغلاء وضيق ذات اليد، وهم يترقبون بخوف البرنامج الاقتصادي الثلاثي الذي تعده الحكومة وتنوي اعلانه في الذكرى الخامسة لقيام "ثورة الانقاذ الوطني" في حزيران يونيو المقبل. فالبرنامج الجديد لا تتوافر له صدقية تبرر الحملة الاعلامية الواسعة التي يعدها الاعلام الرسمي، لسبب رئيسي هو انه يولد في مأتم البرنامج الثلاثي السابق الذي ضاعف تطبيقه في السنوات بين 1990 - 1993، بؤس السودانيين، وحمل الاقتصاد الوطني مزيداً من المشاكل وراكم تردي سنوات المرحلة الديموقراطية التي تلت سقوط نظام جعفر نميري عام 1985، والعجز الذي ميّز السنوات الاخيرة من حكم نميري.
طبقتان وأرقام
وكان هدف البرنامج "الانقاذي" الثلاثي الذي انقض وارهق الشعب السوداني ودفعه الى البحث عن حل لمعضلة رغيف الخبز، تثبيت سعر صرف الجنيه لفترة معقولة، وازالة العجز في الموازنة نهائياً في غضون ثلاث سنوات، وعدم اللجوء الى التمويل بالعجز، ورفع دعم بعض السلع وخفض النفقات، وتوفير موارد داخلية وخارجية وتحقيق توازن اجتماعي، والتوسع في زراعة القمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي بنهاية 90 - 91 وزيادة الصادرات.
حين اطيحت حكومة الصادق المهدي في 30 حزيران 1989 بلغ سعر الدولار الاميركي 17 جنيهاً سودانياً، وقال "الانقاذيون" انهم تقدموا "لانقاذ" الجنيه لئلا يبلغ سعر صرفه عشرين دولاراً. والارقام التي بلغها سعر الجنيه هذه الايام، 500 دولار، تتحدث وحدها عما حققته "حكومة الانقاذ"! اما عجز الموازنة فتضخم على رغم الزيادات الكبيرة في ايرادات الدولة عن طريق ضرائب ادت الى اسقاط الحوافز لدى المنتجين وصغار التجار والمزارعين، ما رفع اسعار السلع الغذائية رفعاً جنونياً. وأدى هذا بدوره الى تركيبة اجتماعية جديدة فرز فيها السودانيون الى طبقتين تتباعدان كلما زادت تدهور الجنيه وارتفعت الاسعار. الطبقة الاولى تعيش تحت مستوى درجة الفقر تتألف من غالبية الشعب وعماله البالغين مليونين وموظفيه البالغين ايضاً مليونين ومزارعيه. والطبقة الثانية تتألف من تجار السوق المقربين الى الجبهة الاسلامية القوية الحاكمة وعدد من المنتفعين.
لقد زادت مداخيل الدولة من الضرائب المباشرة بنسبة 200 في المئة عما كانت أيام حكومة المهدي فارتفعت من 20 مليار جنيه الى 60 ملياراً. اما الضرائب غير المباشرة فارتفعت من 31 ملياراً الى 55 ملياراً. ووقع عبء ذلك كله على المواطن العادي ومرافق الانتاج. وتقلصت الصادرات من القطن والصمغ العربي وبلغ مجموع السلع المصدرة عام 93 نحو 129 مليون دولار فضلاً عن 85 مليون دولار هي كل عائدات القطن والصمغ، وهما عماد الاقتصاد الوطني من العملة الصعبة الى جانب تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجية في الصناديق العربية والمعونات الاميركية والاوروبية.
في مقابل ذلك بلغت قيمة الواردات 318 مليون دولار. واستمر توقف المعونات الخارجية مع عزلة السودان اقليمياً ودولياً، وقلت تحويلات المغتربين بسبب قانون التحويل الالزامي الذي وصفه ل "الوسط" بدر الدين سليمان، رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس الوطني برلمان معين بأنه "من اسوأ القوانين التي وضعتها الحكومة تنفيذاً لتوصيات عبدالوهاب حمزة، وزير الدولة في وزارة المال".
عالجت الحكومة العجز المتزايد في الموازنة بالاعتماد على الواردات غير المنظورة، وباستخدام ودائع عملاء البنوك بالنقد الاجنبي، ومن خلال ربط واردات مقدرة على اساس تصور اولي لقيمة الزكاة التي يدفعها كل السودانيين المسلمين فتذهب كلها الى صندوق خاص بالزكاة. وادى الانفاق الحكومي "العشوائي" الى ابتلاع كل الايرادات المباشرة وغير المباشرة، خصوصاً سداد فاتورة الحرب المستمرة في جنوب البلاد، الامر الذي رفع العجز وفاقمه... في ضوء كل هذا تبشر الحكومة مواطنيها ببرنامج "انقاذي" جديد! واذا كانت البرامج الاقتصادية تستهدف عادة بعث الحوافز لدى المواطنين لمضاعفة الانتاج، فان المواطن السوداني يقابل تفاؤل الحكومة بطلب بسيط ومتواضع: "اعيدونا الى ما كنا قبل الانقاذ".
اين الاكتفاء الذاتي؟
الاكتفاء الذاتي في القمح، كما وعدت "الانقاذ"، لم يتحقق على رغم مضاعفة الأراضي المزروعة مليونا فدان من أصل 200 مليون من أراضي السودان صالحان للزراعة. وتخطط الحكومة حالياً لاستيراد كميات من القمح لسد الحاجة. وحتى القطن المنتج حالياً يتردد همساً في الخرطوم انه قد لا يكفي الاستهلاك المحلي، لأن الحرب المستمرة في الجنوب عطلت زراعة مساحات شاسعة. كما ان الدولة اعطت الاولوية لزراعة القمح في الأراضي الزراعية الصالحة. غير ان الآفات الزراعية وشح الوقود والاسمدة والبذور والآلات لانعدام النقد الاجنبي وعوامل المناخ ادت الى ضرب الموسم هذا العام. واذا اخذت في الاعتبار آثار سياسة التحرير الاقتصادي التي طبقتها الحكومة، واسقاط الدعم عن السلع الرئيسية، ثم فرض الضرائب ذات الطابع الاسلامي كالقبانة نسبة مئوية تدفع عن اكياس المحاصيل كلما انتقلت من محافظة الى اخرى والزكاة، نلمس الارتفاع الجنوني في اسعار السلع الغذائية، ونفقات النقل نظراً الى ندرة البترول، اضافة الى ذلك ارتفاع فاتورة الضرائب العادية. كل هذا يجعل المزارع يتردد قبل الاقبال على استثمار ارضه ما دام لن يجني ما يسد النفقات في الاسمدة والري والنقل والترحيل الى سوق الخرطوم وأم درمان.
وتدل ارقام وزارة المال الى ان حجم دعم البترول خلال النصف الأول من السنة الحالية يبلغ 6.6 مليار جنيه، ودفع 30 في المئة من قيمة النفط الليبي الذي انقطع في حساب في بنك السودان تتولى السحب منه شركة ليبية مفوضة. وفي هذا السياق قال صلاح محيي الدين، الوكيل الأول لوزارة المال ل "الوسط": "اتفقنا مع ليبيا على اعادة جدولة ديونها القديمة 250 مليون دولار وسددنا 3 مليارات جنيه من جملة القروض ومن جملة اعتمادات بلغت 17 مليار جنيه". والمعروف ان انقطاع التسهيلات النفطية الخليجية للسودان ادى الى أزمة طاقة صعبة. ونظراً الى تضاؤل العائدات بالعملة الصعبة، تجد الحكومة صعوبة في استيراد النفط من السوق. كما ان اولويات اخرى شلت ساعدها، اذ دعمت الادوية الاساسية بقيمة مليار و140 مليون جنيه. وبلغ دعم الخبز 3 مليارات جنيه. ولا يكشف السودانيون نفقات الحرب في الجنوب. واكتفى نافع أحمد نافع، رئيس جهاز الامن السوداني، بالقول ل "الوسط": "عنما جاءت ثورة الانقاذ لم يكن في جعبة الجيش المرابط في الجنوب سوى 40 ألف طلقة ذخيرة، وقد احتل المتمردون 90 في المئة من أراضي الجنوب ووصلوا الى الكرموك".
بعد اطاحة حكومة الصادق المهدي بأشهر قال السيد ابراهيم حمدي، وزير المال السابق وأحد الحرس القديم في جبهة الميثاق التي اسسها الدكتور حسن الترابي عام 1964 لترث حركة "الاخوان المسلمين" التي انشق عنها، مسوقاً "المشروع الاقتصادي الانقاذي الأول": "سنحرر الاقتصاد ونسقط الدعم عن السلع الرئيسية، ونترك تقدير اسعارها الى التجار ليحكموا فيها ضمائرهم فيقرروا بكم يبيعون كيس الذرة وجوال القمح". فهل اساء التجار المتنفعون من الجبهة الاسلامية الى هذه الامانة، ام ان غياب الرقابة واعتماد سياسة تحرير الاسعار وفرض ضرائب جديدة... وراء محنة المواطن السوداني الذي لم يذق ويعاني في أيام نميري وديموقراطية الاحزاب ما يعاني اليوم؟
دخلت سوق المحاصيل في أم درمان بحثاً عن نتائج سياسات ابراهيم حموي الذي اقيل العام الماضي لامتصاص غضب المواطنين، لكنه لا يزال الوزير الفعلي الى الآن. وعلى رغم تفوق السودان في زراعة الذرة خصوصاً في أراضي منطقة الشرق حول القضارف، بلغ سعر جوال الذرة 3 - 4 آلاف جنيه في غضون اسبوع واحد. وأدى قرار رفع الدعم عن الدقيق التمويني الى زيادة كبيرة في سعر جوال الدقيق 50 كلغ فقفز سعره من 1430 جنيهاً الى 4300 جنيه، اي بزيادة مقدارها 200 في المئة. ما جعل الناس يخشون زيادة جديدة في سعر رغيف الخبز، او خفضاً جديداً لوزنه وبقاء سعره على حاله اتقاء لتصاعد الشكاوى. وكانت المخابز تتلقى 60 في المئة من الحصة المقررة لها بالسعر التمويني المدعوم وتكمل الباقي بالسعر التجاري. وبعد اسقاط الدعم اصبحت فاتورة الدقيق تقدر كلها بالسعر التجاري. وشهدت اسعار الخبز زيادات كبرى منذ العام 1989 مع حكومة "الانقاذ". واعلن الشهر الماضي خفض وزن الرغيف بنسبة توازي 20 في المئة على ان يثبت سعره. هذه حيلة لم تفت المواطن العادي.
اما سعر كيس الذرة 90 كلغ، وهي الطعام الرئيسي فقفز بعد عيد الفطر من 3 آلاف جنيه الى 5400. وخلال جولة "الوسط" في سوق المحاصيل تبين ان ارتفاع نفقة الزراعة والترحيل وارتفاع رسوم الانتاج والضرائب وتعدد نقاط القبانة على طول الطريق من مناطق الانتاج حتى مناطق التسويق... هي كلها وراء ارتفاع الاسعار.
عبدالرحمن المنجم، تاجر في سوق المحاصيل في خرطوم بحري، قال ل "الوسط": "ارتفع سعر جوال الذرة من 6 آلاف الى 9 آلاف جنيه لزيادة الطلب عليه في مناطق الانتاج القضارف والدمازين وكوستي وقلة المعروض في الاسواق. الى جانب آفة التخزين لدى المزارعين والتجار الذين يراهنون على زيادة متوقعة لسعر الدولار حالياً 500 جنيه سوداني للدولار الواحد". وابلغنا محمد عبدالله، المزارع من منطقة القضارف شرق السودان: "ظروف الزراعة هذا العام قاسية والانتاج اقل من العام الماضي. تكلفة الزراعة والحصاد عالية، ما عرّض المزارعين والممولين معاً للمساءلة من قبل البنك الزراعي والمؤسسات الاخرى المقرضة. وارتفع سعر ترحيل جوال الذرة من 250 جنيهاً الى 500 وتعددت نقاط القبانة على الطريق 20 جنيهاً في كل مرة يتعرض فيها جوال الذرة للوزن بين ولاية واخرى. علماً ان الحكومة اعلنت ان الذرة المرحلة خالصة من الزكاة ورسوم الانتاج وضريبة الدخول والعشور، وعلى رغم هذا يدفع المزارع قرابة 230 جنيهاً لجوال الذرة الواحد. وعند الترحيل يدفع المزارع 3 في المئة من قيمة الترحيل لادارة المحاصيل ليتمكن من الحصول على اذن بالمرور. ويدفع صاحب الشاحنة القيمة نفسها. وكل هذه النفقات غير المبررة تضاف الى سعر التكلفة ما يؤدي الى ارتفاع اسعار الذرة والقمح في السوق. فوصل سعر جوال الذرة في القضارف الى 3200 جنيه، عدا أجور الترحيل والضرائب الاخرى المستحدثة.
في ضوء كل هذه الفوضى يجهد المواطن ليؤمن لعائلته رغيف الخبز ووجبة الفول بعدما نسيت غالبية الشعب طعم اللحم الذي لا تذوقه سوى مرة واحدة في الشهر وبكمية ضئيلة.
ديوان الزكاة
اما الخضار والحمضيات فغابت عنها الرقابة بعدما انتقلت الى الاحياء اثر اقفال السوق المركزية في الخرطوم، وساد سيف الضرائب التي يجتهد التاجر في فرضها على السلعة، ما يجعلها بعيدة عن متناول المواطن العادي. وفي ختام الجولة على سوق المحاصيل وعدد من الاسواق الصغيرة الخاصة بالخضار والحمضيات واللحوم في الاحياء، سألت "الوسط" بعض تجار الجملة وصغار التجار هل عملوا بوصايا الحكومة ومهندس اقتصادها الحر وزير المال السابق، والتي حضت على تحكيم الضمائر في معيشة الناس. وقال احدهم: "أنا تاجر، أي ان تعاملي يخضع للخسارة والربح في المقام الأول، ثم تأتي بعد ذلك حالات المواطن واعتباراته المتعلقة بتضاؤل مرتبه وتدني دخله، وما يعانيه من مشقات. ومن الغباء الشديد ان تصدق الحكومة اني سأقبل بالخسارة من اجل ان أرضي ضميري".
لجنة تخفيف اعباء المعيشة التي شكلتها الحكومة يقول عنها المواطن السوداني انها "مجرد اجراء نظري لارضاء الناس". وفي ندوة عقدها اتحاد الغرف الصناعية بالتعاون مع ديوان الزكاة في 27 آذار مارس الماضي في الخرطوم، وصف اعضاء اتحاد الغرف اسلوب جباية الزكاة بأنه "مشكلة كبيرة من ضمن المشاكل التي أدت الى تدهور الصناعة وتدمير الزراعة الآلية في الموسم السابق".
وفي تصريحات الى "الوسط" قال عمر مضوي محمد أمين غرفة الزراعة الآلية "ان ديوان الزكاة اخذ الزكاة عنوة من المزارعين المكبلين بالديون ما أدى الى تدمير الزراعة الآلية، وتسبب في مشاكل كثيرة على المدى المتوسط وستكون اسوأ على المستوى الأبعد". وكشف ان كثيرين من هؤلاء المزارعين "سيدخلون السجون بسبب الديون، وكان من واجب ديوان الزكاة مساعدتهم وليس ارهاقهم بالزكاة". وأضاف: "ان تحديد ربط الزكاة بمبلغ 6 مليارات جنيه سوداني امر خاطئ لأن عمال الجباية استخدموا اساليب ضاغطة لتحقيق هذا الربط".
وأبلغ "الوسط" نصرالدين عمر الياس، رئيس غرفة الصناعة الصغيرة: "ان ديوان الزكاة حجز أدوات مئات الحرفيين لعدم استطاعتهم دفع الزكاة، وحجز ماكينات الخراطة والاسيتيلين والثلاجات الخاصة بهم فوقف انتاجهم".
وفي سوق ام درمان حيث غالبية المعامل الحرفية، يلاحظ أن عدداً كبيراً من أصحاب المعامل والورشات الحرفية التي يبيع السودان منتجاتها الى السياح والزوار بالعملة الصعبة، اغلق محاله وورشه بسبب الضرائب الباهظة، وسجل هؤلاء اسماءهم في ديوان الزكاة ليتقاضوا الزكاة! وهذا الاجراء يحرر المنتج من دفع الزكاة ويفتح الباب لانتشار التجارة السوداء غير المشروعة ويسقط امكان ضبط الاسعار، ما يؤدي بدوره الى تفاقم الغلاء والتضخم.
حامد عبدالرازق الذي أسس جهاز الاعلام الخارجي منذ استقلال السودان، يتقاضى مرتباً شهرياً مقداره 13 ألف جنيه أي 32 دولاراً أميركياً... بعد 30 سنة من الخدمة.
مجلس أعلى للأجور
وقصدت "الوسط" رئيس اتحاد نقابات العمال تاج السر عابدون الذي يشرف على أحوال مليوني عامل، حاملة انطباعات معززة بأرقام وإحصاءات وجداول بمرتبات العمال والموظفين بعد اسبوع التجوال في معظم مواقع الانتاج والأسواق. وبادرنا المسؤول العمالي بشكر الحكومة وحمد أدائها الاقتصادي خصوصاً "ان الاعتبار اعيد الى العمل النقابي بعد شهرين من الثورة التي التقينا معها على البرنامج الاسلامي". وأضاف: "ان المشكلة الاساسية التي يواجهها السودان هي العجز الكبير في الدخل، ونتائج سياسة تحرير الاسعار لأنها مفروضة على الحكومة من قبل المؤسسات المقرضة ومنها صندوق النقد الدولي الذي جمد عضوية السودان".
وبرّر عابدون غلاء المعيشة وعجز الموازنة وانخفاض قيمة الجنيه وارتفاع سعر صرف الدولار الاميركي بأنها "نتيجة لانقطاع المساعدات التي كانت تقدمها الصناديق العربية، وارتفاع الانفاق الحكومي على الامن والدفاع لاستمرار الحرب في الجنوب. كل هذه المعطيات كانت لها انعكاساتها الاجتماعية التي توصلنا لاتقائها الى اتفاق مع الحكومة قضى باقامة المجلس الأعلى للاجور، ومهمته مراجعة الاسعار والاجور كل ستة اشهر. وعلى رغم الزيادات المستحدثة يبلغ متوسط الحد الادنى للاجور 5 آلاف جنيه، ونحن نطالب برفعه الى عشرة آلاف على الأقل". علماً أن حد الفقر الذي أعلنته الدولة رسمياً حدد بثلاثين الف جنيه شهرياً. وهذا المبلغ أعلى بكثير من الاجر الشهري لقطاع كبير من الموظفين والعمال.
ورد عابدون على ما يقال عن جباية اموال الزكاة من المزارعين والعمال، وقال: "هذا كلام غير صحيح وما حدث مسألة غير مقبولة شرعياً". في حين قال احد المشاركين في اللقاء، قد اتضح جلياً انتماؤه الى الجبهة القومية، وربما تدخل من باب استباق ما قد يقوله رئيس اتحاد نقابات العمال: "وخذ من اموالهم صدقة كما جاء في قول الله سبحانه وتعالى، فالزكاة لا يسأل فيها رأي المسلم فهي واجب شرعي مقصود، وان كنت أشك في ما قيل عن المزارعين المهددين بالسجن لعجزهم عن اخراج اموال الزكاة المفروضة عليهم".
وتابع عابدون: "لن يصل الأمر الى حد سجن العاجزين عن دفع اموال الزكاة. وعلى الدولة ان تأخذها عنوة من الرافضين. اما القول بسجن المزارعين لعجزهم عن دفع الزكاة فادعاء فيه تجنٍ واضح. وقد يكون التهديد بعقوبة السجن لأمور اخرى. فارتفاع اسعار المدخلات والمبيدات والضرائب من اسباب معاناة المزارعين. وتعذر تسديد القروض التي تمنحها البنوك الزراعية يسبب مشاكل قضائية للمزارع. والمزارع الذي لا يدفع الزكاة لا يعطى براءة ذمة ويخسر تسهيلات الحكومة التي تمنح دافع الزكاة براءة ذمة واعفاءات اخرى تسهل تعامله مع البنوك المقرضة".
والمعروف ان البنك الزراعي هدد عدداً كبيراً من المزارعين الذين تضررت مصالحهم لارتفاع الضرائب وسوء محاصيل الموسم، بحرمانهم من التسهيلات المالية المخصصة "للمتعاونين مع البنك وديوان الزكاة" خلال الموسم المقبل. واذا ما لم يحصل المزارع على شهادة براءة الذمة من ديوان الزكاة لا يحصل على تسهيلات في دوائر الحكومة والبنوك المتخصصة.
"تماسيح السوق"
والحقيقة ان تعليق عضوية السودان في صندوق النقد الدولي الصيف الماضي، بسبب عجز الخرطوم عن دفع فوائد الديون ومقدارها 4،1 بليون دولار الديون للصندوق نحو 14 بليون دولار، تسبب في تفاقم ازمة الغلاء. كما ان موازنة الدفاع واجهزة الامن رفعت. وكان الخاسر الاول ذوو الدخل المحدود الذي يتراوح دخلهم بين 4500 جنيه حداً ادنى و30 ألف جنيه، يتقاضاها الوزراء ووكلاء الوزارات القدامى. اما الوزراء "المقربون" الذين اسسوا شركات تفيد من تطبيق سياسة الخصخصة فهم الاثرياء الجدد الذين شكلوا مع التجار "تماسيح السوق" كما يسميهم المواطن العادي. وتتضاعف ثروة هذه الطبقة، في حين ان مواطنين كثيرين يقومون بأعمال اضافية بعد انتهاء ساعات العمل الرسمي لسد حاجاتهم. فالى جانب الغلاء يعيش السوداني في ظل هواجس عجزه عن تسديد فواتير المرض اذا اضطر الى دخول المستشفى. والمستشفيات الحكومية في حالة يرثى لها، فعلى المريض تأمين اغطية السرير والصابون والطعام والدواء الذي ارتفعت اسعاره. ولا ادوية اساسية امصال ومضادات حيوية وادوية القلب والكبد والامعاء. وتجار الادوية طبقة اخرى من "تماسيح السوق" في العهد الجديد يحتكرون استيراد الدواء وتسعيره. وظهر الاتجار المشروع بالادوية. ما يعرض حياة الناس لأخطار لا حصر لها.
وخلال جولة لپ"الوسط" في المستشفيات قالت مريم م. وهي طبيبة تخرجت حديثاً: "تحول دورنا الى مشخّصين للمرض. وفي ظل عجز اهل المريض عن تأمين الدواء بات علينا ان نكتفي بتسجيل شهادات الوفاة"!
ولاحظت "الوسط" ان عدد الممرضين ليس كافياً في احد اجنحة مستشفى الخرطوم. وقيل لنا ان "ليست هناك حوافز ليقوم الممرض بواجبه فاجره متواضع لا يؤمن ثمن سندويش الفول مع كوب من الشاي. فسندويش الفول بپ75 جنيها، وكوب الشاي بپ100 والمواصلات تكلف الممرض 300 جنيه في اليوم. ما يشكل في مجموعه مرتبه الشهري".
وقالت الدكتورة مريم "ان مرتب الطبيب 6 آلاف جنيه لا تكفي ثمن فاتورة البنزين الشهرية ليصل الى مقر عمله في المستشفى". والمعروف ان الحكومة تتيح لكل مواطن 6 غالونات بنزيناً في الاسبوع بسعر رسمي مقداره 750 جنيهاً. والمزيد منها تحتاج سيارة الطبيب مثلاً الى 20 غالون سبوعياً يبتاعه المواطن من السوق السوداء بپ1500 جنيه. وحاولت الحكومة احتواء ظاهرة هجرة الاطباء السودانيين الى الخارج، اذ تردد ان السودان بعدد سكانه الحالي المقدر بپ25 مليوناً، استناداً الى احصاء العام الماضي، فيه الف طبيب فقط. لذا حظرت الحكومة على الاطباء الموجودين مغادرة البلاد، الا لحضور مؤتمرات.
وحولت ظاهرة ارتفاع اسعار الادوية قطاع استيراد الادوية الى مرفق مشجع لممارسة الفساد والثراء غير المشروع على حساب حياة المواطن.
ولاحظت "الوسط" في جولتها على عدد من مستشفيات الخرطوم ان بسطات الادوية منتشرة على الارصفة امام المستشفيات انتشاراً يثير الريبة والاشفاق في آن. وتجد امام اصحاب البسطات مئات الاصناف من الادوية المضادة للحيوية، وادوية القصور الكلوي والقلب والامعاء والسكري وارتفاع الضغط… ومعظمه فاسد، وليس هناك من يسأل او يحاسب. حتى الحقن متوافرة في البسطات، وثمن الواحدة 75 جنيها. وهناك حقن مستخدمة يمكن شراؤها بثمن اقل، ما يعرض المريض للاصابة بمرض فقدان المناعة الايدز المنتشر بسرعة في البلاد حيث قرابة 3 ملايين لاجئ افريقي من اوغندا واثيوبيا واريتريا وافريقيا الوسطى. وتنمو حول العاصمة احزمة بؤس من اكواخ الصفيح يقطنها نازحون جنوبيون هرباً من الحرب. وتنتشر في اوساط هؤلاء اعراض افريقية في طليعتها مرض فقدان المناعة.
اما الملاريا فحدث ولا حرج عن انتشارها في الخرطوم حيث تنتشر "غيوم البعوض" وقد عجزت الحكومة عن القضاء على المستنقعات الصغيرة ذات المياه الآسنة. كما ان ارتفاع اسعار المبيدات وعدم توافر الطائرات الضرورية لرش المبيدات في صورة فعالة حوّل الملاريا الى وباء من الدرجة الاولى. وقال احد اطباء مستشفى الخرطوم التعليمي ل "الوسط" مازحاً: "ايهما اكثر حضارة" ان يموت المريض من الايدز ام من الملاريا؟ أليس الايدز مرضاً حضارياً بالمقارنة مع الملاريا"؟
شلل الادارة
أعباء المعيشة، وارتفاع ثمن المواصلات حمل الدولة على التفكير في استحداث أسلوب النقل الجماعي. ويلاحظ الزائر للخرطوم ان اجراء النقل الجماعي والتسهيلات التي يقدمها الى الموظفين، تفيد منه وزارات محددة وليس كل الوزارات. فالمؤسسات المحظوظة هي تلك التي ترتبط بخدمة "تماسيح العهد الجديد" ووزارة المال ودائرة الضرائب وزارة الاقتصاد ومؤسسات ادارية أخرى، زارتها "الوسط" منتصف النهار، ولمست ان غالبية موظفيها ليسوا في مكاتبهم. فالموظف الذي يقطن في احياء بعيدة عن العاصمة تضطره مصالحه الخاصة في المدينة الى الاستئذان من رئيسه لقضاء ما عليه من التزامات لاسرته، ويعود قبل حلول "النقل الجماعي". وتسبب هذا في الشلل والتسيب في الاداء الحكومي المتردي أساساً منذ عهد نميري وصولاً الى حكم الأحزاب. يضاف الى ذلك ان غالبية الموظفين يتعاطون أعمالاً أخرى بعد انقضاء فترات الدوام الرسمي، ما يتسبب في ضعف قدرتهم لاداء المهمات المطلوبة منهم في اليوم التالي.
عدد كبير من الموظفين الذين التقتهم "الوسط" قالوا ان الفاكهة من الكماليات، حتى المنتجة محلياً كالمانغو والجوافة والبطيخ والموز والبرتقال.
صلاح الدين والواقعية
الدكتور غازي صلاح الدين، وزير الدولة في رئاسة الجمهورية، استمع طويلاً الى الانطباعات الميدانية لپ"الوسط"، فعلق مبتسماً: "ان السودان يطبق نموذجاً حضارياً جعله مستهدفاً بالعداء اقليمياً ودولياً. والسوداني المسيس بطبعه يدرك ان معاناته هي الثمن الصعب الذي ندفعه كلنا لأننا اردنا تحرير ارادتنا. فإما الرفاهية والتبعية والسكوت على الاستعمار الجديد في المنطقة، واما الصبر لانجاح مشروعنا الحضاري". وما يلفت في ما يسوقه صلاح الدين من تبريرات، علماً انه طبيب قبل ان يصبح وزيراً، هو غياب الواقعية. ورد على حرمان المواطن من الفاكهة بقوله: "انا وزير دولة في رئاسة الجمهورية، ومع هذا لا استطيع شراء كل ما يطلبه أطفالي من فاكهة". علماً ان شعار "طهارة ثورة الانقاذ ونظافة كف عدد من رموزها" بات محط تشكيك المواطنين. "فالسوداني لا يعرف النوم اذا كان لديه سر في بطنه" كما قال احد الديبلوماسيين العرب. وأخبار الفساد تحولت الى مادة تسلية في كل بيت. والحديث عن استشراء الفساد في أروقة الحكومة ترتفع نبرته كل يوم. وكشف بعض هذا الفساد، حمل الحكومة على اقفال صحيفة "السوداني" الدولية مطلع الشهر الحالي، واعتقال صاحبها المحجوب عروة. علماً ان الصحيفة محسوبة على التيار الاسلامي. ويتردد همساً في الخرطوم ان رئيس تحريرها كان مستنداً الى جهات نافذة في الحكومة شجعته على الاشارة الخجولة الى "قمم الفساد" والابقاء على ما خفي من "جبل الجليد" في انتظار اللحظة المناسبة. فالفاتح عروة نسيب رئيس التحرير المسجون يقوم بمهمات مستشار لدى رئاسة الجمهورية، خصوصاً ان الرئيس عمر حسن البشير وعد الشعب في 30 حزيران يونيو 1989 بضرب الفساد. ويعلق بدرالدين سليمان، رئيس اللجنة الاقتصادية في المجلس الوطني، قائلاً لپ"الوسط": "هذه الثورة ذات برنامج اسلامي رائع التوجهات، لكن التطبيق شابه الكثير من الأخطاء. فعلى سبيل المثال ان فرض جباية العشور والزكاة معاً، وتطبيق سياسة الخصخصة وتحرير الأسعار في بلد يعاني من حرب اهلية منذ عشر سنوات يعتبر اثماً فقهياً. فالزكاة تجمع مرتين، ويدفعها ذوو الدخل المحدود". ورئيس ديوان الزكاة، كما قال مدثر عبدالرحيم، رئيس لجنة حقوق الانسان في المجلس الوطني، "يحقق له الافادة من صندوق الزكاة لأن راتبه دون حد الفقر الذي وضعته الدولة".
ولدى مناقشة الموازنة أمام المجلس الوطني في 3 نيسان ابريل الحالي حذر بدرالدين سليمان من مغبة المعالجة الاقتصادية التي توقع الغبن على المنتجين، مبيناً "ان هذه المعالجات ستؤدي الى اضرار كبرى بالاقتصاد الوطني، وذلك بلجوء المنتجين الى تهريب منتجاتهم، اضافة الى عزوف المزارعين عن الزراعة والتراخي في استخدام الامانة في الانتاج".
وقال سليمان لپ"الوسط" ان سياسة منح زراعة القمح الأولوية على زراعة القطن، وهو محصول يجلب العملة الصعبة، خربت الاقتصاد السوداني وأدت الى ندرة العملة الصعبة".
واعترف صلاح محيي الدين الوكيل الأول في وزارة المالية لپ"الوسط" بأن "تنفيذ موازنة العام المالي 93 - 94 يعتبر من اصعب المهمات، وذلك بسبب تنفيذها في ظروف بالغة التعقيد. حيث يعاني السودان من عزلة اقتصادية عالمية مفروضة عليه، اضافة الى بنية اقتصادية مشوهة، ونموذج مالي تعرض لاخطاء كبرى في التطبيق". فمعظم اصحاب الصادرات الصناعية تبددت أموالهم ما بين الزكاة والضرائب والرسوم الباهظة ونفقات الترحيل وارتفاع سعر صرف الدولار.
شركة لطبع العملة
في حزيران 1990 اصدر مرسوم يقضي بأن تكون المعاملات البنكية السودانية منسجمة مع الشريعة الاسلامية. ومنحت البنوك ستة اشهر لتحقيق هذا الهدف. ومع حلول هذا التاريخ تحولت كل المصارف السودانية عن النظام الربوي الى نظام اسلامي يعتمد نظام المرابحة والمشاركة المضاربة، واقيمت فيها وحدات مراقبة شرعية مهمتها السهر على تطبيق برنامج أسلمة الاقتصاد لئلا تتضرر مصالح المواطن. لكن وحدات المراقبة لا تلتزم كلها بشعار "طهارة الثورة" ولا تسعى الى تنفيذ دقيق للهدف الذي وضعته "ثورة الانقاذ". ما أدى الى ثغرات تتسرب عبرها ظواهر الفساد المسيئة الى التجربة في مجتمع يعاني ما يعانيه من مشاكل اقتصادية ومالية وعزلة. الى جانب "تماسيح السوق" الذي يحتكره تجار الجبهة الاسلامية، والى جانب السبل غير المنطقية التي لجأت اليها الحكومة حين موّلت عجز الموازنة بعجز جديد تتحدث الأوساط في الخرطوم عن الشركة السودانية لطباعة العملة الورقية للمرة في الأولى في تاريخ البلاد. ومن المفترض ان تعلن الحكومة ذلك في العيد الخامس لپ"ثورة الانقاذ". وأكد ابراهيم الدسوقي، المدير العام للشركة لپ"الوسط": "ان العمل في الانشاءات والمباني اكتمل بنسبة 95 في المئة، فيما اكتمل تركيب الأجهزة والمعدات بنسبة 90 في المئة اضافة الى تعيين ثلاثين موظفاً للمراكز القيادية، وعدد كبير من العمال والمهرة والمتخصصين في طباعة الأوراق المالية، بينهم 30 امرأة". وعلمت "الوسط" ان طاقة الانتاج للمشروع مصممة لتفي بحاجات البلاد حتى 25 سنة مقبلة. وتقدر كلفة المشروع بحوالى عشرين مليون دولار.
وقال وزير المال لپ"الوسط": "ان المشروع سيوفر على السودان اكثر من 20 مليون دولار سنوياً، اذ ينفق ما بين 40 و50 مليوناً على طباعة عملته الورقية. ومنذ فترة يتعامل المواطن بعملة ورقية جديدة دينار كانت مستخدمة في الممالك السودانية القديمة، في مملكة سنار وغيرها".
وفي المجال نفسه ابلغنا الدكتور صابر حاكم بنك السودان: "الاستعمار ادخل الجنيه الى السودان، فالجنيه بدعة، واعادة الاعتبار الى الدينار هو بمثابة عودة الى النبع وينسجم مع برنامج اسلمة الاقتصاد".
ولاحظت "الوسط" ان الدينار لا يصرف في الخارج وغير معترف به. الى جانب ان العملة الوطنية مرتبطة دولياً بالقوة الاقتصادية لبلدانها. مع هذا تسمع من كل الوزراء الذين تلقاهم عبارات المديح لپ"التوجه الحضاري السوداني" ومزاياه من "استقلال القرار الوطني"، "وتطبيق النموذج الاسلامي بهدف تحويل البلاد الى منافس للولايات المتحدة"!
على رغم كل هذه الممارسات غير المنطقية التي تعالج الخطأ بارتكاب ما هو افظع منه، يلاحظ ان السودان يشهد ظاهرة التوسع في اقامة البنوك التجارية، وتصديقات البنوك الاستثمارية، والبنوك المتخصصة على رغم تضخم العجز. وبلغ عدد البنوك 716. وقال هاشم عطا، الخبير الاقتصادي والاستاذ في جامعة الخرطوم، لپ"الوسط": "ليس هناك من مبرر للانتشار الجغرافي، فانتشار البنوك من دون استراتيجية واضحة لجذب مدخرات المواطن يؤدي الى تقاسم الكعكة المعروفة الحجم على كثير من المنتفعين، مما يؤثر سلباً في الاقتصاد الوطني".
الى ذلك يتعثر النظام المصرفي مرحلياً معانياً من اشكالات الانتقال من النظام الربوي الى النظام الاسلامي. وأطرف ما تسمعه في وزارة المال ان هناك توجهاً الى انشاء "بنك للفقراء"، اسوة بالبنوك المتخصصة المنتشرة في صورة ملفتة. لأن هذه الشريحة من المواطنين لا تجد طريقاً الى المصارف الاخرى بحكم شروط التعامل التي تقرها. ويتهامس اهل الخرطوم هذه الايام ان انخفاض انتاج القطن هذا الموسم قد يضطر الحكومة الى استيراد هذه المادة الاساسية لسد حاجة المصانع الوطنية. وضرب الحر موسم القمح. وتعاني محاصيل الذرة من آفة الكاسح.
الكاسح الماسح
وقال زعيم حزب الامة السيد الصادق المهدي لپ"الوسط": "اذا كانت هذه الحكومة تطبق فعلاً سياسة اقتصادية اسلامية رشيدة فلم ابتلاها المولى سبحانه بآفة لم نعرفها في السودان منذ عشرات السنين؟ ان آفة الكاسح والماسح هي حشرة طفيلية خطيرة تمتص عرنوس الذرة وسنبلة القمح من رحيقها وتترك السنابل وعرانيس الذرة خاوية جافة".
ومحصول الفول ضرب هذا العام ايضاً، ويتخوف اهالي الخرطوم من مجاعة آتية لا يعلمون كيف ستعالجها الحكومة المستعدة لاعلان برنامجها الاقتصادي الجديد. وتشهد مناطق غرب البلاد مجاعة صعبة، ويكابر الاعلام الرسمي، بعد اغلاق الصحيفة المستقلة الوحيدة، ويخفي الحقيقة ويتحدث العاملون في برنامج الاغاثة العالمي في الخرطوم بعجز ظاهر عن عدم اكتراث الامم المتحدة بالمجاعات الضاربة في انحاء عدة من الكرة الارضية. وابلغنا روبرت بانتر مدير مكتب وحدة الاغاثة العاجلة في برنامج الغذاء: "الكمية المخصصة هذا العام من المواد الغذائية لكل العالم 3 ملايين متر مكعب. واذا علمنا ان القرن الافريقي وحده يحتاج الى مليون واحد، والبوسنة - الهرسك ومناطق اخرى في العالم تحتاج الى مليونين امكن تصور حجم الكارثة التي نواجهها".
وكشف بانتر لپ"الوسط" ان "عشرات الآلاف من المواطنين السودانيين نزحوا عن قراهم ومناطق اقامتهم في غرب البلاد وسيدقون قريباً أبواب العاصمة".
والدولة تتكتم على هذه المأساة المتفاقمة، في حين يتنبأ المرصد الجوي في زيمبابوي والمتخصص بتتبع حركة حشرة الجراد في افريقيا، بسنة قاسية جداً سيكون بطلها الرئيسي الجراد الافريقي الذي لا تتوافر لدى الحكومة السودانية الامكانات لمكافحته. ويقول الصادق المهدي: "على رغم عدم اقبال الولايات المتحدة على التعامل مع حكومات العهد الديموقراطي لاسباب عدة ابرزها الغاؤنا مناورات النجم الساطع والتسهيلات الممنوحة لقوات التدخل السريع في بورتسودان، وهي عبارة عن مستودعات ضخمة، استطعنا عزل الولايات المتحدة بين حلفائها الغربيين الذين استمروا في التعاون معنا ومساعدتنا. اذ كانت لنا علاقات اقتصادية طيبة مع هولندا وبريطانيا وفرنسا وايطاليا والمانيا. ووطدنا علاقاتنا مع اليابان. ومع دول مجلس التعاون. وكان لنا قرابة مليون مواطن سوداني في هذه الدول ضخوا قرابة 3 بلايين دولار في الاقتصاد الوطني. وتواصلت المساعدات النوعية الاميركية على رغم احتجاج واشنطن على علاقاتنا المميزة مع ايران الاسلامية وليبيا. وكان حجم التنمية يزيد على بليون وثلث بليون دولار في العام خلال العهد الديموقراطي. ان العلاقات الحالية بين الخرطوم والصين نحن اسسنا لها في العهد الديموقراطي. ومشروع اعادة تأهيل معامل السكر الكنانة انجز خلال الفترة الاخيرة من العهد الديموقراطي، وجاءت الانقاذ لتقطف ثماره وتدعي زوراً انها انجزته. وبلغ دخل السودان من العملة الصعبة خلال عهد الديموقراطية ومن محصول القطن فقط، قرابة 200 دولار للفدان الواحد. وهذا ما لا يحققه محصول نقدي منافس. واذا كانت هذه الحكومة امنت سلعة القمح في الاسواق فلانها اعطت زراعته الاولوية على حساب زراعة القطن وضاعفت مساحات زراعته. مع هذا كان الاجراء خاطئاً بشهادة مؤتمر الاستثمار الذي عقدوه في العام 93 في قاعة الصداقة في الخرطوم. اما الانتاج الصناعي في سنوات الديموقراطية فقد فاق متوسط الانتاج في سنوات الانقاذ الاربع في كل الحقول الصناعية، الا في السكر".
يستمع الدكتور حسن الترابي، زعيم الجبهة الاسلامية الى كل هذه المعطيات ويعترف بپ"الصعوبات" التي تواجهها الحكومة، معلناً ان "غالبيتها تعود الى تبعات المشروع الحضاري الذي اختاره السودان وسط عزلة دولية عقاباً له على رغبته في تحكيم شرع الله على ما شرّعه الانسان".
وما بين الصادق المهدي وأرقام فترة الديموقراطية وتبريرات الدكتور الترابي، لا تتوقف معاناة المواطن خصوصاً صاحب رواية الدجاجة والقاضي احمد محجوب نور. ويتحمل السوداني متحصناً باعتزاز بالنفس وكبرياء ويقول همساً: "اعوذ بالله من البرنامج الانقاذي الآتي. لا نريد من الحكومة سوى اعادتنا الى ما كنا قبل ان تأتي وتنقذنا".
الهيكل الراتبي الجديد
الدرجة القطاع سنة سنة فئة علاوة غلاء الراتب النهائي مع
أولى رابعة العلاوة المعيشة العلاوات والمخصصات
بالجنيه السوداني
الأولى 8775/9135 8775 9135 120 1850 30 ألفاً
5930/6290 5930 6290 120 850
الثانية 8085/8445 8085 8445 120 1800 15 ألفاً و10 آلاف
5470/5430 5470 5830 120 800 مخصصات
الثالثة 7545/8025 7545 7905 120 1800 13 ألفاً
5110/5590 5110 5470 120 800
الرابعة 6220/6620 6920 7220 100 1700 12 ألفاً
4670/5070 4670 4970 100 750
الخامسة 6920/7320 6220 6520 100 1700 10 آلاف
4170/4570 4170 4470 100 750
السابعة 5070/5550 5070 5310 80 1600 9 آلاف
3370/3850 3370 3610 80 700
الثامنة 4390/4950 4390 4630 80 1600 8 آلاف
2890/3450 2890 3130 80 700
التاسعة 3540/4310 3540 3750 70 1550 7 آلاف
2240/3010 2240 2450 70 650
فئات وزراء، سفراء، مديرون عامون، خريجو خريجو الثانويات،
الموظفين وكلاء وزراء، نواب وكلاء الجامعات العمال، الكتبة
المحاصيل الزراعية الرئيسية في السودان وزارة الزراعة السودانية 1992
القمح الصمغ العربي القطن السنة
الانتاج المساحة الانتاج المساحة الانتاج المساحة
بالطن بالفدان بالطن بالفدان بالطن بالفدان
247 393 4425 13297 514 791 1988 - 1989
408 614 1536 9049 408 702 1989 - 1990
680 1104 1180 6570 239 438 1990 - 1991
895 917 3791 12862 277 444 1991 - 1992


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.