حتى وقت قريب كانت روايات الراحل إحسان عبد القدوس هي الأكثر مبيعا في العالم العربي، تتقدم على روايات المصريين وغيرهم، وخصوصا على روايات نجيب محفوظ الواقعية. كان إحسان عبد القدوس يبيع على رغم أن النقد لم يحفل به. ولم يفده وجوده على رأس مؤسسات صحافية مصرية كبرى أبرزها "روز اليوسف" و"الأهرام" في حض النقاد على الاهتمام برواياته الكثيرة. وهو كان يحضر في مخيلة غير المصريين باعتباره صحافيا يكتب روايات للنساء، أو باعتباره كاتب رواية يعمل في الصحافة، فلم ينظر إليه كصحافي بارز ولا كروائي بارز. وكان الناس الذين يقبلون على قراءة رواياته ويحضرون الأفلام المقتبسة عنها يقرأون اسم "إحسان عبد القدوس" فيعني لهم ما يعنيه اسم "حسن الإمام" المخرج المصري الراحل ويتوقعون دائما حكايات عن الفتيات وتعقيدات الحب بين الأهل والجامعة والنادي. وإذا بنا "نفاجأ" أن إحسان عبد القدوس هو الروائي العربي الوحيد الذي اهتم بالشخصية اليهودية وحللها، وانه رسم، إلى جانب بطلاته من فتيات الجامعة والنادي، صورة مقربة جدا للجماعة اليهودية المصرية في عهود متلاحقة، قبل العام 1952 وبعده، وقبل العام 1948 وبعده أيضا. هذا الروائي الذي "تخصص" بتصوير الهموم الوردية لفتيات المدينة المصرية، كشف رشاد عبد الله الشامي أنه غاص عميقا في الشخصية اليهودية المصرية، ما استحق دراسة مطولة كتبها الشامي وصدرت حديثا عن "كتاب الهلال" في القاهرة تحت عنوان "الشخصية اليهودية في أدب إحسان عبد القدوس". وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، نذكر أنه في الأيام المحمومة للاجتياح العراقي للكويت، حين كانت صورة سماء بغداد المتلألئة بالقذائف على شاشات تلفزيونات الدنيا، كتب الروائي اليهودي الكندي نعيم قطان من أصل عراقي عمودا في صحيفة "لودوفوار" تصدر في مونتريال تذكر فيه طفولته في المدينة المقصوفة وبالتحديد في مدرسة الأليانس التي كانت وزارة المعارف العراقية تفرض علها أستاذا للتاريخ يدرس المادة من وجهة نظر الوزارة. كان نعيم قطان التلميذ وكان علي مرجان هو أستاذ التاريخ، ويتذكر قطان أن أستاذه الكردي كان ضعيفا في اللغة العربية، ينطقها كنطق الأجانب. ويعلق الروائي الكندي حول أيام طفولته في بغداد بأن التلميذ اليهودي والأستاذ الكردي يمثلان قدم الفئات الموجودة في العراق ! إنها النظرة إلى العرب التي أشاعها كتاب غربيون ويشيعها أيضا كاتب مثل نعيم قطان له عن بغداد بالفرنسية رواية "وداعا بابل": نظرة ترى فيهم قوما عابرين في بلاد الشام فيما الأقوام التي أنشأت حضارة تلك البلاد طمست وأمحى ذكر معظمها. ولا نريد هنا فتح مساجلة تاريخية في غير موضعها، فنكتفي بالقول أن الحضارة العربية حيث سادت واستمرت هي نتاج مجمل الحضارات السابقة عليها، ومبعث السيادة والاستمرار ناشئ عن اعتراف العرب بمن سبقوهم، في حين أن الجماعات التي تسود وتطمس ذكر السابقين لا تستطيع إنشاء حضارة وسيادتها، بالتالي، تؤول إلى انحلال. ويبدو أن الكتابات الأدبية اليهودية عن العرب معظمها من النوع غير المنصف. والمثقف اليهودي العربي هو أحد اثنين: مندمج جدا إلى درجة العضوية في المجتمع الكبير فيكتب بصفته هذه لا بصفة اليهودي المتميز، ومعظم هؤلاء اعتنق الدين الإسلامي. أو هو منعزل جدا عن المجتمع الكبير حتى درجة الاغتراب، فيهاجر أو يصبح حارسا للغيتو، وفي أيامنا الحاضرة يندرج في صلب العصبية الصهيونية. أما صورة اليهودي في الكتابة الأدبية العربية فهي نادرة ومنصفة: نادرة لأن الكثير لا يبدي اهتماما كافيا بالقليل. ومنصفة لأنها تتضمن اعترافا بالآخر ناشئا عن سماحة الإسلام واعترافه بحق أهل الكتاب في المحافظة على عقيدتهم. وهنا يبدو العرب منصفين اذا قارنا صورة اليهودي النادرة في أدبهم عند أبي حيان التوحيدي أو عبد الحميد جوده السحار أو سواهما بتلك الكثيرة في الأدب الأوروبي حيث يظهر اليهودي كشخصية منفرة تتضمن في تركيبتها الأصلية مجمل أوجه الشر والفساد. ولكن صورة اليهودي عند العرب تغيرت بعد نكبة فلسطين، وجاءت غالبا في شكل ضابط قاسي القلب يطارد الفدائيين الفلسطينيين وينسف المنازل ويشرد السكان ويدنس الأرض. والواقع أن السينما الفلسطينية قدمت اكثر من الأدب الفلسطيني والعربي صورة ناضجة ومركبة لليهودي الإسرائيلي، فلا يزال الأدب العربي المكتوب يعتبر هذا الشأن خارج تقاليده. كيف تظهر الشخصية اليهودية في روايات إحسان عبد القدوس؟ ظهرت في خمس من قصصه القصيرة هي بعيدا عن الأرض - أين صديقتي اليهودية؟ - أضيئوا الأنوار حتى نخدع السمك - لن أتكلم ولم أنسى - كان صعبة ومغرورة. أما الرواية فهي "لا تتركوني هنا وحدي" صدرت عن دار روز اليوسف في القاهرة عام 1979. والشخصية اليهودية في رواية إحسان عبد القدوس تبدو في صورة امرأة يهودية محبة للمال والجاه تريد العيش في مستوى العائلات اليهودية الغنية في مصرعدس وشيكوريل وغيرهما ولذلك تعمد إلى الطلاق من زوجها اليهودي لها ولدان وتتزوج من غني مسلم وتنجب منه طفلة، وتعتنق الإسلام لترث زوجها بعد أن يموت. وتظهر الشخصية أيضا في صورة شاب يهودي اختار المحافظة على مصريته ولم يستجب لنداء الصهاينة بالهجرة إلى إسرائيل، وهو اعتنق الإسلام ليتزوج من مصرية مسلمة. بعد نكبة 1948 تبدأ الشروخ في الشخصية الأولى، حين يميل أولادها من زوجها اليهودي إلى إسرائيل وأحفادها أيضا في وقت لاحق وتتأزم ابنتها من زوجها المسلم، كما تحتل الأزمات مختلف لحظاتها: تغيرت مصر وصار الزمان غير زمان. وبعد معاهدة كامب ديفيد بدأت الشخصية الثانية تغير من نظرتها إلى مصريتها، فواقع الصلح يدفع الشاب للاتصال بأقربائه الذين كانوا سافروا إلى إسرائيل. ويتسبب هذا "التطول" في تدمير علاقته بزوجته المسلمة إذ تحس بالغربة عنه. ما يلفت في تصوير إحسان عبد القدوس للشخصية اليهودية المصرية ثلاثة أمور: -حياة اليهود المصريين في تفاصيلها الدقيقة، ساعدته على ذلك معرفته ببعض عائلاتهم أثناء طفولته في حي العباسية القاهري. -اختياره الشخصية الأولى في روايته ومعظم قصصه في صورة امرأة، وإحسان متخصص في الكتابة عن أحوال النساء، وهنا أضاف الهاجس اليهودي إلى الهواجس النسوية. -تركيزه على أن الشخصية اليهودية تتعدى اعتناق الإنسان لدين معين، فاليهودي، كما يرى إحسان في روايته وقصصه القصيرة، يبقى في العمق يهوديا حتى لو اعتنق دينا آخرا. واليهودية هنا تظهر كهوية اجتماعية وكطقس يطول أدق تفاصيل حركة الإنسان ونظرته إلى نفسه والعالم. إن "مفاجأة" إحسان عبد القدوس في العناية بتصوير الشخصية اليهودية المصرية روائيا تشير إلى "مفاجأة" أخرى هي عدم اهتمام نجيب محفوظ بالشخصية اليهودية المصرية، على رغم تخصصه في الكتابة عن المجتمع القاهري منذ أوائل القرن حتى زمننا الحاضر. والواقع أن الفارق يكمن في أن نجيب محفوظ عني بمجتمع المصريين في القاهرة، في حين أن الشخصيات النسائية في روايات إحسان عبد القدوس كانت تنتمي إلى مجتمعات متعددة تسكن مدينة القاهرة في العصر الليبرالي، فمن يكتب "النظارة السوداء" عن فتاة لبنانية متمصرة من الشوام لا بد له منطقيا أن يهتم بسيرة امرأة يهودية مصرية ويؤسس من خلالها نظرته إلى الشخصية اليهودية. ... والروائيون المصريون ومنهم إحسان عبد القدوس يستوفون مجتمعهم ولا يقصرون، فيما سائر المجتمعات العربية معظمها مجهول لم تكشفه أنوار الرواية .