صادرات كوريا الجنوبية ترتفع 13.5% خلال سبتمبر    الخارجية الفلسطينية: نثمّن الدور السعودي في الاعترافات المتتالية بدولة فلسطين    إيران والترويكا الأوروبية تبحثان الاتفاق النووي في نيويورك وسط ضغوط متصاعدة    الشرع في نيويورك: دعوة لتوحيد الصف السوري في أول مشاركة رئاسية منذ 58 عاماً    ارتفاع أسعار النفط    تعليم المدينة المنورة ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال 95    وزير الخارجية يشارك في الاجتماع التنسيقي لوزراء خارجية دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية    الشرقية تتزين ب 26 ألف عنصر جمالي ليوم الوطن    عزنا بطبعنا.. تجسيد لمسيرة التطور والعطاء    الشجاعة تصنع القادة    اليوم الوطني.. معاً خلف قيادتنا لبناء السعودية العظمى    أوروبا تتوتر وألمانيا تسرع دفاعاتها.. بوتين منفتح على تسوية أوكرانية    غارات الاحتلال تتسبب في مقتل العشرات بغزة    استثمارات طبية فرنسية في سدير.. «مدن» تنشئ مركز التميز للذكاء الاصطناعي    العالم يترقب حفل توزيع الجوائز.. ديمبيلي ويامال يتصارعان على الكرة الذهبية    ميسي يسجل ثنائية ويتصدر هدافي الدوري الأمريكي    الهلال يسجل ليوناردو مكان المصاب كانسيلو    برنامج تقني لتهيئة الخريجين للعمل    القبض على شخصين لترويجهما «الشبو» بالشرقية    المرور: 3 مسببات ل«الحوادث بالطرق»    الطريق مسؤولية الجميع    وفاة الفنان حمد المزيني    السعودية تستضيف مسابقة «إنترفيجن» للموسيقى    فاحص ذكي يكشف أمراض العيون    تبتلع قلمين بسبب الوسواس القهري    إطلاق الربط الرقمي بين البلدين.. تعاون سعودي – سوري في المجال الصحي    وطن المجد.. في عامه الخامس والتسعين    مجلس إدارة جمعية بناء يعقد اجتماعه الثامن والخمسين    سعود بن بندر: المشاريع التنموية والخدمية في الشرقية ركيزة في مسيرة التنمية الشاملة    وزير الشؤون الإسلامية يوجّه بفرش 23 جامعاً ومسجداً بالمدينة    15 ألفا لأغلى جدارية بالأحساء    العنب الياباني الطلب يفوق العرض والأسعار تتراجع    6.3 ملايين حاوية بالموانئ وينبع أولا    دب يتسوق في دولار جنرال    شبكة عنكبوت على المريخ    الباطن يقصي الاتفاق.. الأخدود يتجاوز الرائد.. التعاون يتغلب على الفيصلي    روبوت علاجي يدخل الجسم    6 مجالات في ملتقى رواد الشباب العربي    الجلوس الطويل يبطئ الأيض    مخاطر الألياف البلاستيكية الدقيقة على العظام    «البحر الأحمر السينمائي» تكشف عن فائزي تحدّي «صناعة الأفلام»    السكن الجماعي تحت المجهر    نائب أمير منطقة تبوك يرعى حفل مدارس الملك عبدالعزيز النموذجية باليوم الوطني ال95 للمملكة    نائب أمير منطقة تبوك يطلع على تقرير عن أعمال الهيئة الصحة العامة بالمنطقة    شبابنا في اليوم الوطني.. عزّنا بطبعنا    اختتام الدراسات الأولية للشارة الخشبية لقائدات وحدات فتيات الكشافة    تشكيل الهلال المتوقع أمام العدالة في كأس الملك    مكتبة الملك عبدالعزيز تطلق معرض "الموحّد" في اليوم الوطني 95    القبض على (7) مخالفين لنظام أمن الحدود لتهريبهم (105) كيلوجرامات من "القات"    أمير الرياض يطلع على التقرير السنوي لهيئة تطوير محمية الإمام عبدالعزيز بن محمد الملكية    مطلع أكتوبر: انطلاق مزاد نادي الصقور السعودي 2025    جمعية تحفيظ القرآن بطريب" تعقد اجتماعها الدوري وتصدر قرارات لتطوير أعمالها    القيادة تهنئ الحاكم العام لبيليز بذكرى استقلال بلادها    رسالة المسجد في توطيد اللحمة الوطنية    الأمن العام: ضوابط مشددة لصون مكانة العلم السعودي    40 فعالية في احتفالات اليوم الوطني بمركز«إثراء»    خطيب المسجد الحرام: استحضروا عظمة الله وقدرته في كل الأحوال    النصر يقسو على الرياض بخماسية ويحافظ على الصدارة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوسف شاهين يخرج "كاليغولا" في الپ"كوميدي فرانسيز". تراجيديا رومانية في نهايات قرننا المحتضر
نشر في الحياة يوم 16 - 03 - 1992

انها المرة الاولى التي يخوض فيها السينمائي المصري يوسف شاهين تجربة الاخراج المسرحي، تلبية لدعوة جاك لاسال مدير مسرح الپ"كوميدي فرانسيز" الباريسي العريق. وقع اختيار شاهين على"كاليغولا" للكاتب الفرنسي البير كامو، وهو يطرح من خلالها اسئلة جوهرية راهنة على الوجدان الغربي و العربي المعاصر.
ذهبنا الى المسرح ليلة الافتتاح، ويدنا على قلبنا. اذ ليس حدثاً عادياً، ذاك الذي تشهده الپ"كوميدي فرانسيز" هذه الأيام، رغم اعتياد المكان على المواعيد الاستثنائية. فيوسف شاهين حلّ ضيفاً على المؤسسة المسرحية الفرنسية العريقة، حيث تُقدم مسرحية البير كامو المعروفة "كاليغولا" بإخراج جديد يحمل توقيعه. ها هو الرجل إذن، بعد كل هذه السنوات، يعود الى حبه الأول. فالمسرح طالما دغدغ احلام الفتى الاسكندراني الذي قصد الولايات المتحدة حينها لدراسة فن الدراما في فيلادلفيا، قبل ان يختار تحقيق نفسه من خلال الفن السابع.
ذهبنا لمشاهدة "كاليغولا" ويدنا على قلبنا، فالمغامرة بالنسبة لصاحب "باب الحديد" و"الارض" اشبه بالامتحان الصعب. ليس لأن السينمائي المصري البارز غير متملك من ادوات تعبيره، او عاجز عن مواجهة مثل هذا التحدي، الذي قبله لنفسه، في عقر دار المسرح الفرنسي. غير ان الانتقال من السينما بإمكاناتها التقنية ولغتها ومنطقها وقوانينها، الى المسرح وهو بطبيعته فن متقشف وإبن لحظته ليس امراً بهذه السهولة.
في إيقاع أيامنا
اسئلة كثيرة تتبادر الى الذهن، خصوصاً ان شاهين اختار تقديم نص تنقصه الشفافية والسلاسة، مما يزيد في العوائق والمطبات التي تعترض سبيله. فكامو المسرحي أقرب الى كامو الفيلسوف منه الى الروائي. ونص "كاليغولا" بالذات في منتهى الذهنية، اعتبره البعض مجموعة افكار ورموز تنقصها الحياة، ولو ان هذا الرأي فيه شيء من المبالغة. فقد اضطر ابرز الذين قاموا باخراجه الى اعادة النظر ببعض اجزائه والتصرف بها، ابتداء من جان فيلار نفسه، حين فكّر بتقديم العمل عام 1943.
وهذا ما سيفعله شاهين ايضاً، على طريقته، مع انه لا يعتبر ابداً ان هذه المسرحية بطلت موضتها او مر عليها الزمن. فقد وجد في النص أصداءً لتساؤلاته وهمومه، اتهاماته ومعاناته… وإذا به يدخل بجنونه الى المسرح الرصين، ليعيد قراءة المسرحية انطلاقاً من ذاتيته، وعلى ضوء الراهن السياسي والفكري والانساني، كما يمكن لفنان عربي بالتحديد ان يعيشه.
لا بد من الاشارة في هذا السياق الى ان المسرحية قدمت اكثر من مرة في العالم العربي. في تونس مثلاً، قام الراحل علي بن عياد بإخراجها وتمثيل دور كاليغولا اواسط الستينات. في بيروت تألق انطوان ملتقى بعده بسنوات في الدور نفسه، ولفت الانظار بإخراجه الاختباري المبتكر. ومن غريب المصادفات قيام الفنان المصري سعد أردش هذا الموسم، باخراج المسرحية نفسها، وتقديمها على خشبة "أوبرا القاهرة" من بطولة نور الشريف.
من هو "كاليغولا"؟
حين كتب البير كامو "كاليغولا" كان في الخامسة والعشرين من عمره نفس عمر بطله حين وصل الى الحكم، قد اتم دراسة الفلسفة، وأسس مسرحاً، وعمل كممثل، ونشر محاولاته الفلسفية الاولى. كان صاحب "اسطورة سيزيف" يقرأ في تلك المرحلة مؤلفات نيتشه وكيركيغادر ويعمل في الجزائر، حيث ولد تحت الاستعمار الفرنسي، محرراً في صحيفة "ألجي ريبوبليكان" الجزائر الجمهوري. خلال الحقبة نفسها كان قد بدأ يدوّن الملاحظات الاولى لرواية "الغريب". وحين كتب المسرحية، كان يحلم بتأدية دور كاليغولا، اي انه كان يتماهى في مكان ما مع بطله. نفس علاقة التواطؤ مع الطاغية - الضحية سنجدها في قراءة شاهين وفي الخطاب الذي حمّله للعمل.
كاليغولا في التاريخ احد قياصرة الامبراطورية الرومانية. هو كاييوس جرمانيكوس المولود عام 21 للميلاد والذي اصبح امبراطوراً وهو في الخامسة والعشرين من العمر، فعرف بطغيانه، ولم يحكم الا أربع سنوات مات على اثرها اغتيالاً على يد احد الاعيان المقرّبين. تروي المسرحية رحلة الشاب الرقيق والمثالي نحو التطرف والتسلط الدموي والجنون، في قالب تراجيدي يتوسله الكاتب فرصة للتأمل في مسائل وجودية وفلسفية عامة: السلطة، الحرية، السعادة، الضعف البشري والعدالة. من هذا القالب سيغرف شاهين بمهارة مادته المشهدية، ويصقل رؤياه المسرحية.
تتطور الاحداث في شكل سجال فلسفي بين كاليغولا والعالم، بينه وبين نفسه، بينه وبين الآخرين: إيليكون مرافقه الامين الذي سنحت له الفرصة اخيراً ان يتحكم بالباقين على رغم اصوله غير النبيلة، شيريا اكثر اعدائه تماسكا والذي يعترف لقيصر انه يقود الحركة الهادفة الى خلعه عن عرش روما، سيبيون آخر اصدقائه، سيزونيا الحبيبة الانتهازية التي تتحمل كل نزواته… وتتصاعد رحلة التطرف او الانتحار الفلسفي الواعي اذا شئنا فتصل بصاحبها الى نقطة اللارجوع. هذا السباق المجنون مع المنطق، مع الوقت، من اجل "جعل المستحيل ممكناً" بتعبيره، سيؤدي بالبطل الى ذروة المأساة حين يكتشف انه اختار طريقاً خاطئة، ويكتشف لا جدوى الاشياء وزوالها. انها لحظة الصفاء القصوى، لحظة الحقيقة التي تسبق الموت. هكذا سيطيح أعيان روما بقيصرهم الطاغية والمجنون، فيرتقي سيبيون الى عرش الامبراطورية، وتتابع عجلة التاريخ دورتها الرتيبة. من هذه المادة الاولية يبني يوسف شاهين استعراضه، مستخرجاً من النص كل العناصر التي تشكل صدى صارخاً للراهن. يصوغ رؤياه انطلاقاً من موقف مسبق، محدّد سلفاً هو التعاطف مع كاليغولا. انه المفصل الذي يتخذ معه العمل بعده الخاص، ونقطة الانطلاق التي تحدد كل عنفه الانفعالي وزخمه الجمالي. ككل ابطال التراجيديا، كاليغولا متطرف ومنحاز، وفي سلوكه ما يبهر ويغري: لماذا وكيف تحول القيصر الرومنسي الى ديكتاتور يهذي، وأين تكمن نقطة الانعطاف؟ جعل المخرج من هذا السؤال العمود الفقري لعرضه. فهو لا يدين بطله ولا ينظر اليه بطريقة سلبية.
تصوّر شاهين الاخراجي يبدأ من السينوغرافيا، من الديكور وأبعاده، ولا ينتهي عند تقنيات التوليف وتقطيع المشاهد واللقطات الموازية، المقربة او العامة… بل ان السينمائي لا يتوانى عن اللجوء الى كل المؤثرات والتقنيات التي من شأنها ان تخلق "صدمة جمالية" تدفع المشاهد الى الوعي آيزنشتاين: المونتاج الجاذب.
من هذه المؤثرات، استعمال العرض السينمائي لاستكمال السرد على طريقة بيسكاتور الملحمية، او لتضخيم الطاقة التأثيرية. كما يلجأ، لتخفيف الوقع الفلسفي للحوار، الى سلسلة من الاختراعات البصرية والتنميق الاستعراضي وسائر عناصر الفرجة: رقص تعبيري، ألعاب بهلوانية، طقوس جنائزية، أسلبة الملابس وجرأتها، الدخان، الايهام، الآلات، مكبرات الصوت، الپ"بلاي باك"… ولا شك ان الموسيقى التي وضعها الفنان المصري محمد نوح خصيصاً للعرض، تلعب دوراً أساسياً في هذا المجال.
المسرح عبارة عن ورشة بناء حديثة: واجهة زجاجية هائلة من مادة الپ"بلاكسي غلاس" المستعملة في تشييد المباني العصرية. لكن العمارة قائمة على بقايا بناء تقليدي قديم، من قناطر وأقواس حجرية. الى يسار الخشبة اطياف عمارات حديثة وناطحات سحاب الديكور من تصميم: فرنسواز دارن. العمال بلباسهم المعاصر وخوذهم الواقية، يجمعون عتادهم بعد نهار العمل تأهباً للمغادرة. رجل شارف عقده السادس يعتمر قبّعة ويرتدي بذلة من ايامنا ايضاً، يتقدم ببطء، يتأمل في المشهد ويتفحص المكان، يلمس الحجارة… طفلان يلهوان، معهما صورة، يعرضانها على العمال، فتجيء ردة فعل هؤلاء لا مبالية. يعرضانها على الرجل الغريب، فيتأمل ملياً، يبدي دهشته ويعلن: "كاليغولا!!". فجأة تتغير الاضاءة، تظلم الخشبة، تدخل شخصيات بأزياء مستوحاة بتصرف من العصور القديمة الأزياء من توقيع جان - بيار دليفير. يمر موكب جنائزي: نعش محمول على الاكتاف، ندّابات ونساء متشحات بالسواد، على انغام شرقية تعلن عن المأساة وتشكل مناخاً تراجيدياً اكيداً.
المسرحية تبدأ اذن من نهايتها، ثم نتفرج على احداثها كنوع من التذكر او الپ"فلاش باك". يوسف شاهين يعتمد لعبة الازمنة والمستويات: هناك الزمن الطارئ من جهة، وزمان المسرحية من جهة اخرى. هكذا تتقاطع مستويات السرد، كأن هناك حكاية كاليغولا داخل حكاية اخرى الشخصيات المعاصرة: ولدان من عصرنا يتابعان فصول "الحدّوته"، الرجل ذو القبعة، عمال البناء، العسكر والميليشيا من ايامنا هذه، والمصوران التلفزيونيان يلتقطان بالكاميرا بعض المشاهد، فتنعكس آنياً على واجهة البناء التي تتحول الى شاشة تعكس الحكاية الاولى من زاوية نظر اخرى…. وهناك طبعاً حكاية ثالثة، حكايتنا نحن، "الآن وهنا" لحظة التلقي، نخرج من كل ذلك بعرض متكامل يخاطبنا، واصلين بين الامكنة والازمنة المختلفة في لعبة مرايا لا حد لها.
من كل هذه التناقضات يستمد العرض ديناميته وإيقاعه المتأرجح بين شاعرية المونولوغات او المواجهات الثنائية، وصخب المشاهد الجماعية التي تصل بنا الى الفعل المأسوي الاقصى. نرافق كاليغولا تمثيل: جان - إيف دوبوا في احلامه المجنونة "أردت القمر. لم احصل عليه. لذلك انا متعب"، "اتظنني مجنوناً؟ - يسأل اليكون - كل ما في الامر انني اطلب المحال. الاشياء كما هي لا ترضيني. لم اعد احتمل العالم…". الامبراطور ينتفض بوجه الانحطاط المحيط به. بلباسه المعاصر، بينما الشخصيات الاخرى متلفعة بأزياء رومانية، يبحث عن معنى لوجوده، يبحث عن حريته، يهز كل ما ومن حوله بسأم وسخرية مرة، يقتل ما طاب له كي يملأ الفراغ الذي يحاصره، ويدفع عنه الضجر.
يوسف شاهين يجعل من كاليغولا بطلاً شكسبيرياً، قريباً من هاملت، هذه الشخصية التي تسكن السينمائي المصري منذ الصبا مشهد "نكون او لا نكون" كما يؤديه محسن محيي الدين الذي يمثل دور شاهين نفسه في "إسكندرية، ليه؟" - 1978. فهو شاب مثله، مثالي مثله، لم يخلق ليحكم، ولا ليقتل. كلاهما ضحية لغياب العدالة، وفريسة الاسئلة الميتافيزيقية المقلقة التي تختصر وجودنا. كلاهما يزج بنفسه في جنون هو ذروة الصفاء وعين البصيرة. الفرق الوحيد ان كاليغولا سيقرن النظرية بالممارسة، فيذهب في الفعل المأسوي الى اقصاه. شاهين يجعل من كاليغولا، بطلاً معاصراً وحديثاً، في زمن موت اليقين وتصدّع الايديولوجيات. فالخيبة وفقدان الاوهام، يدفعانه للهروب الى الامام، بهذه السلبية الانتحارية، كمن يتفرج على موته في مرآة العالم المحتضر، مرآة تعكس صمت الآخرين، تواطؤهم، تخاذلهم، عجزهم ودناءاتهم. الا يذكرنا كل ذلك بأشكال التطرف التي تجتاح عالمنا العربي، كإعلان إفلاس؟… ربما بنى المخرج رؤياه ايضاً، انطلاقاً من هذا الواقع بالذات.
الرؤيا الشاهينية
ويغلف يوسف شاهين عرضه بعناصر احتفالية، طلباً لمتعة الفرجة، متعة التمثيل تبرز كاترين سامي في دور النبيل العجوز…، موفقاً في خلق المناخات السحرية الملائمة. مناخات هي مزيج من التضخيم والتغريب، من الواقعية والغرائبية، من الاسلبة والشعرية، قد يختصرها مشهد خطاب كاليغولا العائد الى قصره، خير اختصار: يسود جو من اللغط تقوم خلاله عناصر من الجنود بلباس "الميليشيا"، برقصات والعاب بهلوانية. انه احتفال خاص سيعلن فيه القيصر قراراته الى الشعب.
مشهد النهاية يجسد بلا شك اقوى لحظات الرؤيا الشاهينية. بعد ان يطرد كاليغولا سيبيون صديقه، ويقتل سيزونيا الشاهد الاخير على ضعفه، على فشل مشروعه، على رقته المخجلة، يشعر بقرب نهايته. تبدو له الحياة "مثقلة بالجثث". وسط الاضاءة الخافتة، يلفظ مونولوغه الاخير. "تسعة وعشرون عاماً فقط!"… يشعر بالوحدة فجأة، بهباء الاشياء: "حتى الالم لا يدوم. لا شيء يدوم". ينادي إليكون. لا احد. وإذا به يقبض على نفسه متلبساً بالجرم المشهود، يخاف كالآخرين، ككل هؤلاء الذين يحتقرهم. وحده ويخاف وليس من يخاطبه الا القمر. على حين غرة تهجم في الظلام اشكال بشرية ملثمة، تحيط به من كل جهة، وتنهال عليه طعناً بالخناجر.
وعندما يعود الضوء، نرى الاعيان في وقفة تذكارية، وقد احاطوا بسيبيون الذي نصّبوه امبراطوراً. اما كاليغولا، فمثله مثل ايكاروس في الاسطورة القديمة… اما كاليغولا، فقد احترق بأحلامه، كفراشة في الضوء، بعد ان لامس المطلق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.