يطرح ملحق"آفاق"محور المثقف والتلفزيون، علاقة تقوم على الانتقاء أم الاستسلام لسيل البرامج الجارف؟ يعتبر التلفزيون، بحسب عالم الاجتماع الفرنسي الراحل بيير بورديو، من أدوات"العنف الرمزي"الذي تمارسه طبقات اجتماعية على بعضها البعض، وأداة رئيسة للضبط والتحكم الاجتماعي في المجتمعات الحديثة. يرى بورديو أيضاً أن جزءاً من العمل الرمزي للتلفزيون يعبر عن فعل مزدوج المهام، أي يمارس عملية الجذب باتجاه حدث معين، بينما يسعى إلى إخفاء أحداث أخرى. هل يعي المثقف هذا الدور المزدوج - حال مشاهدته الفضائيات - أم يستسلم في دعة لما يبث أمامه؟ مع بداية الستينات الميلادية دخل التلفزيون كأداة ترفيهية للعالم العربي، دخل بصورة خجولة وحذرة، لأن بعض المجتمعات المنغلقة قابلته بالرفض لكونه حراماً ومنبته حرام. هكذا استقبل أخطر جهاز دعائي في الجزيرة العربية على أقل تقدير، ومع رسوخ وجوده، اتخذت كل سلطة هذه الأداة كوسيلة لبث رسالتها وأيدلوجيتها وتغذية مجتمعها بما تؤمن وتكفر به، فتشكلت أنماط ثقافية إقليمية ترى في ذاتها أنها الممثلة للحقيقة. هذه الاستراتجية التي انتهجتها كل الدول العربية كانت كارثية عليها حينما انفتح الفضاء. فالذي حدث أن كل دولة تبنت منهجاً ورسالة مؤدلجة منها الإسلامي والقومي واليساري والبعثي، وكل فكر من هذه الأفكار تأسس على رفض الآخر وسعى لإسقاطه، ما ولَّد صيغاً فكرية غير قابلة لتعايش جنباً إلى جنب، وولدت أفراداً ينظرون لمن يجاورهم على أنه كائن ناقص غير مكتمل ولا يمتلك الأهلية لصياغة فكر الأمة. وحين انفتح الفضاء كان التلفزيون هو الأداة الأكثر فاعلية للتواصل مع الجماهير المغيبة بفعل الايدولوجيا الواحدة، فوجد كل مجتمع فرصته للخروج من محاصرة السلطة له من خلال التغذية الثقافية طويلة الأمد، التي ربما لم يكن ليؤمن بها لو كان ثمة اختيارات متعددة أمامه. ولأننا مجتمعات خرجت للوجود وهي مكبوتة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، وجدت في الانفتاح الفضائي فرصتها لتعويض ما حرمت منه لسنوات طويلة، فتجد كل مجتمع عربي يبحث في البث الفضائي عما هو معاكس لنهج دولته، لاكتشاف ما كان مخبأً عنه. والمثقف هو جزء من ذلك المجتمع لم يختلف كثيراً في سلوكه مع التلفزيون، فحين كان الفضاء مغلقاً تبنى سياسة السلطة وثقافتها وإن أظهر أنه يقف في الضد أو على الخط الموازي، إلا أن سلوكه يشير إلى عجزه في مقارعة واقعه ومجتمعه، وعندما انفتح الفضاء وتراخت السلط في بسط نفوذها أخذ يجرب شجاعة من لم يدخل الحروب حينما أخذ في البحث عن المماثل أو من كان يؤمن بأفكاره سراً، إلا أن العري لم يدع شيئاً مستتراً، فكما تعرى الجسد من خلال البرامج والأغاني والأفلام كذلك تعرت الأفكار، وأخرج التلفزيون كل المخبوء عمَّا كان يمارس في الخفاء من الأنظمة والأيدلوجيات والزعمات والمعاهدات السرية.. هذا الاكتشاف المفاجئ كان قادراً على زلزلة القناعات الهشة لدى المثقف، ولكي يبقى متماسكاً بدأ في لحم ما انفك وترميم ما تصدع، إلا أن عجلة الاقتصاد وإعلاء القيمة الاستهلاكية في حياة الفرد والمجتمعات قادته للجوء إلى المهادنة والتعامل مع الأشياء بمنظور العلة والسبب. هذا التوصيف يمكن أن يكون مدخلاً لعلاقتي بالتلفزيون، فهي إضاءة لعلاقة نشأت مرتبكة في الأساس، وحين أصبح"الريموت كونترول"في يدي تكشفت عورات كثير من الأنظمة والأفكار والشخصيات والأحداث التاريخية، كان الزيف طاغياً. أعتقد أن"الريموت كونترول"هو الهبة الحقيقية للإنسان العربي في هذا الزمن، فعلى أقل تقدير أنه مكَّنه من عدم الإيمان بما يقال. أعرف أنني وازيت السؤال ولم أجب بطريقة مباشرة، وهكذا أردت أن تكون إجابتي... أليس في يدي"ريموت كونترول"؟