روى الطبري في تاريخه عن شداد بن اوس قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اقبل شيخ من بني عامر، وهو مدرة قومه وسيدهم، فمثل بين يدي النبي قائماً ونسبه إلى جده فقال: يا بن عبدالمطلب، اني أنبئت انك تزعم انك رسول الله إلى الناس، أرسلك بما أرسل به إبراهيم، وموسى، وعيسى، وغيرهم من الأنبياء، ألا وانك فوهت بعظيم وانما كانت الأنبياء والخلفاء في بيتين من بني إسرائيل، وأنت ممن يعبد هذه الحجارة والأوثان، فما لك والنبوة؟ ولكن لكل قول حقيقة، فأنبئني بحقيقة قولك وبدء شأنك. قال الراوي: فاعجب النبي بمسألته ثم قال: يا أخا بني عامر، إن لهذا الحديث الذي تسألني عنه نبأ ومجلساً فاجلس. واستقبله النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث فقال: يا أخا بني عامر إن حقيقة قولي وبدء شأني اني دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى ابن مريم، وأني كنت بكر أمي، حملت بي كأثقل ما تحمل وجعلت تشتكي إلى صواحبها ثقل ما تجد، ثم إن أمي رأت في المنام أن الذي في بطنها نور، ثم إنها ولدتني فنشأت، فلما أن نشأت بغضت الي أوثان قريش وبغض الي الشعر. وكنت مسترضعاً في بني ليث بن بكر، فبينما أنا ذات يوم منتبذ من أهلي في بطن واد من أتراب لي من الصبيان نتقاذف بيننا بالجلة، إذ أتانا رهط ثلاثةملائكة معهم طست من ذهب مليء ثلجا، فأخذوني من بين أصحابي فخرج أصحابي هرابا حتى انتهوا إلى شفير الوادي، ثم اقبلوا على الرهط فقالوا: ما أربكم إلى هذا الغلام؟ انه ليس منا هذا ابن سيد قريش، وهو مسترضع فينا، انه غلام ليس له أب، فماذا يرد عليكم قتله، وماذا تصيبون من ذلك؟! ولكن إن كنتم لابد قاتليه فاختاروا منا اينا شئتم فليأتكم مكانه فاقتلوه، فلما رأى الصبيان القوم لا يحيرون إليهم جوابا، انطلقوا هرابا إلى الحي يؤذنونهم ويستصرخونهم على القوم. فعمد أحدهم فأضجعني على الأرض اضجاعا لطيفاً، ثم شق ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي، وأنا انظر إليه فلم أجد لذلك مسا، ثم اخرج أحشاء بطني ثم غسلها بذلك الثلج فانعم غسلها، ثم أعادها مكانها، ثم قام الثاني منهم فقال لصاحبه: تنح، فنحاه عني ثم ادخل يده في جوفي فاخرج قلبي وأنا انظر إليه فصدعه ثم اخرج منه مضغة سوداء فرمى بها ثم قال بيده يمنة منه كأنه يتناول شيئاً فإذا أنا بخاتم في يده من نور يحار الناظرون دونه، فختم به قلبي فامتلأ نوراً، وذلك نور النبوة والحكمة، ثم أعاده مكانه فوجدت برد ذلك الخاتم في قلبي دهراً، ثم قال الثالث لصاحبه: تنح عني، فأمر بيده ما بين مفرق صدري إلى منتهى عانتي فالتأم ذلك الشق بإذن الله، ثم اخذ بيدي فأنهضني من مكاني إنهاضاً لطيفاً، ثم قال للأول الذي شق بطني: زنه بعشرة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بمئة من أمته، فوزنوني بهم فرجحتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته فوزنوني بهم فرجحتهم. فقال: دعوه فلو وزنتموه بأمته كلها لرجحهم. قال صلى الله عليه وسلم: ثم ضموني إلى صدورهم وقبلوا رأسي وما بين عيني، ثم قالوا: يا حبيب، لم ترع انك لو تدري ما يراد بك من الخير لقرت عيناك. فبينا نحن كذلك إذ أنا بالحي قد جاءوا بحذافيرهم، وإذا بأميحليمة السعدية أمام الحي تهتف بأعلى صوتها وتقول: ياضعيفاه! يا وحيداه! يا يتيماه! وهم أي الملائكة ينكبوا علي فيقبلوا رأسي وما بين عيني ويقولون: حبذا أنت من ضعيف! حبذا أنت من وحيد وما أنت بوحيد! إن الله وملائكته والمؤمنين معك! حبذا أنت من يتيم! ما أكرمك على الله، لو تعلم ما يراد بك من الخير! قال صلى الله عليه وسلم: فوصلوا بي إلى شفير الوادي، فلما بصرت بي أمي حليمة السعدية قالت: يابني ألا أراك حيا بعد! فجاءت حتى انكبت علي وضمتني إلى صدرها، فوالذي نفسي بيده، اني لفي حجرها وقد ضمتني إليها، وان يدي في يد بعضهم فجعلت أتلفت إليهم وظننت أن القوم يبصرونهم، فإذا هم لا يبصرونهم. يقول بعض القوم: إن هذا الغلام قد أصابه لمم أو به طائف من الجن، فانطلقوا به إلى كاهننا حتى ينظر إليه ويداويه. فقلت: يا هذا ما بي شئ مما تذكر، إن آرائي سليمة وفؤادي صحيح، ليس بي قلبة. فقال أبي- وهو زوج حليمة السعدية- ألا ترون كلامه كلام صحيح! اني لأرجوا ألا يكون بابني باس، فاتفقوا على أن يذهبوا به إلى الكاهن. قال عليه الصلاة والسلام: فاحتملوني حتى ذهبوا إلى الكاهن، فلما قصوا عليه قصتي، قال: اسكتوا حتى اسمع من الغلام فانه اعلم بأمره منكم، فسألني فاقتصصت عليه أمري ما بين أوله وآخره، فلما سمع قولي وثب الي وضمني إلى صدره ثم نادى بأعلى صوته: يا للعرب! يا للعرب! اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فو اللات والعزى لئن تركتموه وأدرك ليبدلن دينكم، وليسفهن عقولكم وعقول آبائكم، وليخالفن أمركم، وليأتينكم بدين لم تسمعوا بمثله قط! فعمدت ظئري- حليمة السعدية - فانتزعتني من حجره وقالت: لانت اعته من ابني هذا! فاطلب لنفسك من يقتلك فانا غير قاتلي هذا الغلام، ثم احتملوني فادوني إلى أهلي فأصبحت مفزعاً مما فعل بي، واصبح اثر الشق ما بين صدري إلى منتهى عانتي كأنه الشراك، فذلك حقيقة قولي وبدء شأني يا أخا بني عامر. فقال العامري: اشهد بالله الذي لا اله غيره أن أمرك حق، فأنبئني بأشياء أسألك عنها! فأجابه الرسول عما شاء وما بدا له حتى أجاب وأناب. وفي الحلقة القادمة سنعرف ماذا حل برسول الله بعد ذلك من مراحل طفولته عليه الصلاة والسلام.