اعتبر عدد من الحضور أن الشعر العربي شعر سماعي، يمارس سطوته على المستمع من دون حواجز أو رتوش من قائله مباشرة، فتظهر للعيان براعة الصور ونقاء التخييل على غير ما يقدم مكتوباً أو منقولاً. جاء ذلك مداخلةً من أحد الحاضرين الكثر، الذين تابعوا تدشين الفعالية الأولى للموسم الثقافي لأسرة إبداع في جمعية الثقافة والفنون في مدينة الطائف مساء الاثنين الماضي، بأمسية شعرية للشاعر علي الدميني أحد أقطاب الشعر السعودي الحديث، ويضطلع دور الأسرة للخروج بمتابعة حثيثة للتجربة الإبداعية المحلية عند بعض الرموز في مشهدنا الثقافي، وذلك ما حملته قائمة الأسرة للموسم الثقافي الحالي من مناشط، كانت هذه الأمسية أولاها، كما صرح بذلك مشرف الأسرة القاص طلق المرزوقي، في كلمة افتتاحية سبقت الأمسية، التي اكتظت بالجمهور، الأمر دفع المنظمين إلى فتح الصالة المجاورة لتغطية الازدحام، لكن الأمر ظهر أخيراً مطمئناً قليلاً امتلأت القاعة جميعها. أدار الأمسية الدكتور عالي القرشي، الذي قدم نبذة عن الدميني وتجربته الشعرية، وما أحاطها من بروز منذ البدايات. بعدها بدأ الشاعر في قراءة نصوصه، فقرأ قصيدة"معلقة الطائر الجاهلي"ثم"بروق العامرية"، ونص خاص جداً، ثم قصيدة"الشباك"، و"الصديقات"ويقول فيها:أصطفي لي من الجن عشرين عاشقة ومن الإنس ألف/ غير أني إذا ما أطلّت على البهو أغلى النساء/تطايرن كفاً بكف. وقرأ قصيدة بعنوان:"لوحة"، ومنها: في الفصل الأول من باب الألوان نبتت في أغصان اللوحة امرأتان قالت لي الأولى: حين أرى أوراق الشعر العاري / يورق في ذاكرتي ظِل أخضر/ هل ترسمني؟. وتلاها بقصيدة"قرير الجان"، وقصيدة"بلوزة"، التي يقول في أحد مقاطعها:لم أر من قبل /نهار بلد /ينحل في حديقة/حتى لمسته/متشحاً / بلوزة الصديقة. ثم قرأ الدميني نصاً جديداً، اتفق وحرُمه على تسميته"في الصف الأول"ومنه: ها أنا أتمرن من أول الصف كيف أعود أليفاً / وكيف أصير شفيفاً/ وكيف أشكِّل فاصلة تتكامل في دفتر العائلة؟، ها أنا أتعلم كيف أغطي الفراغات في لغتي والنتوءات في وحشتي؟، حين يدنو الضيوف من البيت أو يتركون الغريب وحيداً على دفة الباب مندهشاً من رنين الحنين الذي يتلألأ/ فوق بلاط الممر وفي ردهة الدار فوق المقاعد/ أو خلف ما يتركون من الجمر في المحبرة. وتوالت النصوص فقدم صاحب"رياح المواقع" نص"لذاكرة القرى"، الذي أهداه إلى روح صديقه الراحل عبدالعزيز مشري ومنه: مثلما سيطل الغريب على مخضرة سيطل ابن مشري على كفه فيرى شامخات الذرى/ تستفيق على غبش الصبح وهو يعلق أثوابه في القرى/ ياعزيز كل شيء سيخرج من قبره ويفيق/ والحكاية تزهر من باب جدك حتى حصون الفليق. ثم ختم الدميني أمسيته بنص بدايات وفيه يقول: سأبدأ من حيثما يكتب النص أحفادُهُ/شجراً يانعاً في رؤوس الجبال يدل الندى في الصباح إلى عشبه/ واليمام إلى سربه/ والمدينة نحو الكمال. وجوه ليلى العامرية وكان الجميل في الأمسية تحاور النقد مع الشعر في المكان نفسه، من خلال قراءة نقدية لنص"ليلى العامرية"، قدمها الدكتور محمد مشعل الطويرقي، بعنوان:"وجوه فنية في شخصية ليلى العامرية". للمرة الأولى في هذا المكان يتجاور ويتحاور النقد والشعر معاً، فلمن ستكون الغلبة؟ قراءة نقدية بعد حضور الشعر، هنا قالت العرب:"لا عطر بعد عروس" فقد خشي البعض من سقوط النقد في حضرة الشعر عن المتابعة، لكن الناقد استطاع أن يقف على ما ارتسم بالقصيدة العامرية الشهيرة من تناصٍّ تراثي، وتوظيف فني استحضر الإرث العربي بأكمله، لتكون بذلك القراءة شفرة أعادت للملتقى التحليق من جديد في عوالم الدميني الشعرية. وبعد ما قدمته القراءة النقدية من إثراء للأمسية، تداخل الحضور حول ما حمله الشاعر من عمق شعري مواز لتجربة طويلة، مع ثراء معرفي بالتراث العربي، من دون انحراف عن مفهوم التناص. ذكر بعض المداخلين ما يميز الدميني من اشتغال على قضية شعرية متواصلة، ومجايلة شخصيته للرموز الشعرية فجمعت بين جدية أدونيس وخلفية دنقل التراثية. وتحدثت مداخلة مكتوبة عن حداثة النص الشعري، كما أشادت مداخلات أخرى بنجاح القراءة النقدية، وما حملته من رؤية للنص خروجاً وعودة إليه، فكانت بمثابة إبداع على إبداع. بعد ذلك قدم مدير فرع جمعية الثقافة والفنون في الطائف عبدالله المرشدي درعاً تذكارية باسم"أسرة إبداع"للشاعر الدميني، الذي شكر الحضور الكريم، ثم تحدث لنا الشاعر حول الأمسية بقوله:"أعتبر هذه الأمسية من أنجح الأمسيات التي قدمتها منذ زمن، فهذا الحضور الكثيف شجعني لقول المزيد وأن أقدم آخر ما حملته في جعبتي الشعرية". وحول"أسرة إبداع"قال:"شاهدت تلك الأفكار والبرامج، التي اطلعت عليها بين يدي أعضاء الأسرة، وأشكر لهم حرصهم وتفاعلهم في جلب مثل هذه الأسماء المطروحة". وأشاد الدميني بالقراءة النقدية التي قدمها الطويرقي، وقال:"تعتبر القراءة المقدمة هذه الليلة، دعوة من الناقد في استعادة النقاد لدورهم الفعلي، في موازاة النصوص الإبداعية والتفاعل معها". وفي سؤال عن الأندية الأدبية ودورها المقبل قال الدميني:"أتمنى أن تنجز الأندية الأدبية ثقافة تقوم على الحوار، وتسهم في ترسية قيم الإبداع، الذي لا ينعزل عن واقع المجتمع، مع صياغة آلية كاملة لمفهوم العضوية، والمشاركة في قرارات الأندية وبرامجها.