أمير الشرقية يرعى ملتقى "التميز في خدمة المستفيدين"    المملكة في صدارة الدول بالترفيه الرقمي ب34 مليون مستخدم    أمريكية تقتل طليقيها في يوم واحد    ممثل شهير يعيش مشرداً في الشوارع    في دوري أبطال آسيا 2.. النصر يدك شباك الزوراء العراقي بخماسية    في المجموعة الخامسة بأمم إفريقيا.. المنتخب الجزائري يفتتح مشواره بفوز عريض على السودان    مدرسة صينية تكافئ طلابها بأطقم مفروشات    هندية تصلح عطلاً برمجياً في حفل زفافها    «الجوازات» تصدر 17.767 قراراً إدارياً بحق مخالفين    موسم جازان هوية ثقافية ومنافسة شبابية    درة تعود للدراما ب«علي كلاي»    لوحات مجدي حمزة.. تجارب من واقع الحياة    الإطاحة بطبيبة المشاهير المزيفة    تركيا: طائرة رئيس الأركان الليبي أبلغت عن عطل قبل تحطمها    14 دولة تدعو إسرائيل إلى وقف التمدد الاستيطاني    أوروبا تندد بحظر أميركا منح تأشيرات لشخصيات من القارة    ثورة الخوارزميات الرحيمة    "كلاسيكو" الاتحاد والشباب يشعل الجولة 11    الشباب يعلن غياب مهاجمه عبدالرزاق حمد الله لقرابة شهرين    نيفيز يُشعل الصحف الأوروبية.. انتقال محتمل يربك حسابات الهلال    غالتييه: أحترم النجمة.. وهدفنا الفوز    "خيسوس": قدمنا أداءً مميزاً رغم التوقف الطويل    إنجاز تقني يجسد الريادة    11 شكوى يوميا بهيئة السوق المالية    السعودية تتصدر سوق القهوة ب 5100 علامة تجارية    الشتاء والمطر    مدير تعليم الطائف يتفقد مدارس شقصان وبسل    عبدالعزيز بن سعود يدشّن عددًا من المشروعات ومركزًا تاريخيًّا لحرس الحدود بمنطقة الجوف    نائب أمير تبوك يواسي أسرة الخريصي في وفاة الشيخ أحمد الخريصي    عبدالعزيز بن سعود يلتقي أهالي منطقة الجوف    الصالحاني يضع أسس البداية عبر «موهبتك لا تكفي»    معرض «وِرث» ينطلق في جاكس    «النسر والعقاب» في ترجمة عربية حديثة    مرحوم لا محروم    موسكو ودمشق تناقشان التعاون العسكري    النيكوتين باوتشز    مؤسسة كأس العالم للرياضات الإلكترونية توقّع مذكرة تفاهم مع "غدن"    العثور على مسجلات طائرة تحطمت في تركيا    القبض على (3) باكستانيين في جدة لترويجهم (3) كجم "حشيش"    هياط المناسبات الاجتماعية    مساعدات إنسانيّة سعودية جديدة تعبر منفذ رفح متجهة إلى غزة    سفير المملكة في جيبوتي يسلّم درع سمو الوزير للتميّز للقحطاني    أمانة القصيم تصادر 373 كيلو من المواد الغذائية الفاسدة خلال الربع الأخير للعام 2025م بمحافظة الرس    30 مليار ريال مبيعات التجارة الإلكترونية في أكتوبر الماضي    فيصل بن بندر يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية "مكنون" لتحفيظ القرآن الكريم بالرياض    كلية الطب بجامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل تحتفي ب50 عامًا من العطاء في يوبيلها الذهبي    الجوازات تصدر 17.767 قرارا إداريا بحق مخالفين لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود    10.5 مليون ريال إيرادات السينما السعودية في أسبوع    مسجد القبلتين.. شاهد على التاريخ    موجز    رعى «جائزة مدن للتميز»..الخريف: الصناعة السعودية ترتكز على الابتكار والاستثمارات النوعية    القيسي يناقش التراث الشفهي بثلوثية الحميد    الضحك يعزز صحة القلب والمناعة    المشروبات الساخنة خطر صامت    نجاح أول عملية للعمود الفقري بتقنية OLIF    فلتعل التحية إجلالا وإكبارا لرجال الأمن البواسل    الكلام    إنفاذاً لأمر خادم الحرمين الشريفين.. وزير الدفاع يقلد قائد الجيش الباكستاني وسام الملك عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللبنانيون : قدر الجغرافيا ومزاعم التاريخ
نشر في الحياة يوم 19 - 07 - 2009

الرواية"البيئية"للأديبة البريطانية دوريس ليسينغ نوبل 2007، وعنوانها"مان ودان"اسما البطلة والبطل، تحكي عن التغيرات المناخية المدمّرة، من جفاف وفيضانات، وأثرها على حياة بطَلَي الرواية وسيَر من حولهما من اشخاص التقيا بهم طوال رحلة هروبهما من اقاصي الجنوب الافريقي حتى شماله، على ضفاف المتوسط.
واللافت في الرواية هو الاختلال الذي قلبَ حيوات هؤلاء الافراد وتوازنات نظامها السابق وتراتبيته"فرفع من شأن جماعات وحطّ من شأن اخرى. حدة الانقلاب هذا اوجدت في الرواية مناخات وحالات غير عادية. في صفحات عديدة منها غالباً ما يكون الحكام والاسياد الجُدُد هم الأقل جاذبية وجمالاً، الأثقل ظلاً، الأقل ذكاء وبريقاً، الأقل إبداعاً في ادارة شؤون لهوهم ولذتهم ويومياتهم، وهم بالطبع المخدومون. اما خدمهم، او عبيدهم في بعض الاحيان، فهم على العكس، اصحاب بشرة برونزية، ذوو عيون سوداء واسعة، وقامات رشيقة ممشوقة"ويتمتعون بذكاء حاد وقدرة على مداراة كبريائهم بإبداع وخيال واحياناً بخفّة ظل...
ما هو الجدير بالانتباه في هذه الوضعية الدراماتيكية؟ الشبه بين حالة فئة الخدم الجُدد في الرواية وبين اللبنانيين. شعب جميل ومتدبّر، يخدم شعوباً أقل حيلة منه، أقل بعثاً للبهْجة. كيف حصل هذا مع ان بعض ابنائه يدّعون انهم اصل الكون، ومنارة العلم والنور، وأنهم تاقوا يوم استقلالهم الى بناء صيغة، هي مرساة المنطقة وعزاؤها من الضجر الذي تُصاب به اوطان الاستبداد الشرقي المديد؟ وهذه كلها صفات لا تضع افرادها الا في موقع ريادي ما، أو نموذج ما، او انها تجعلهم المثَل، ولا تؤهّلهم ليكونوا خدماً، سياسيين أو ماليين او اي شيء آخر، لمن هم اقل منهم خيالاً ...
والمقصود هنا ب"الخدمة"معناها المباشر وغير المباشر: الخدمة غير المحسوسة، ذات الأقنية غير المرئية، والتي لا نرى منها غير النتائج. ومثل التحوّلات البيئية ذات الآثار المدمرة على وضعية الجماعات تجاه بعضها، فإن هناك بالتأكيد سبباً من الحجم نفسه أفضى الى ما نحن عليه الآن: في خدمة غيرنا، لا انفسنا، بعدما زهَونا باستقلالنا، ووعدنا أنفسنا بتحقيق انفسنا: انه التقاتل الأهلي المعروف، الساخن والبارد، منذ ما يقارب الاربعة عقود.
ماذا فعل اللبنانيون طوال هذه العقود من الخدمة المجانية وغير المجانية لغيرهم؟ اضاعوا مشروعهم الأولي، تنازلوا عن الدولة، صاهرة طاقاتهم. فبلغوا ما بلغوه من فردية، لا ينال منها غير طوائفهم. لكن مصيرهم وطرق عيشهم يختلفون فيها عن اولئك الذين حكموا ابطال الرواية البريطانية. لهم مسارهم الخاص، وقد صنعوا منه مفارقة، بل قل مفارقات، اقلها اختفاء عن النظر الوضعية التي اوجدوا بها عاصمتهم. فعلى رغم انهم شوّهوها، تبقى المكان الأكثر جاذبية عندهم وعند المحيطين بهم: المغتربين المشتاقين والمقيمين الممسكين عن الهجرة، على رغم إلحاحها الامني والاقتصادي، وكذلك الباحثين عن سياحة"قريبة"... على رغم بشاعة جديدها وقلّة روحه، ومن تهلْهل قديمها، فإن العاصمة وجبالها ووديانها تزدحم بهم، تختنق بهم.
اللبنانيون حيويون واصحاب مخيلة، ومحبون لتعبيرات الحياة"وهم في الآن عينه في خدمة غير انفسهم. ولتتصور قدرتهم على صنع المزيد من المفارقات، إبحث عن اسباب جاذبيتهم وجاذبية أمكنتهم. واليك بعض الجواب على لسان صديق مصري يزور لبنان كثيراً، وهو، بطبيعة الحال، لا ينفك يقارن بين بلاده وبين لبنان. لغة واحدة، مسافة قريبة، ديانتان مشتركتان... ومع ذلك، اختلافات من النوع العجيب: اكثر ما يدهشه،"المنقوشة"، تلك العجينة الرقيقة او السميكة المغمّسة بالصعتر وزيت الزيتون، اطيب الإفطارات، يستغرب ان الغني والفقير بوسعهما ان يدفعا ثمنها عند كل صباح."تصور"، يتابع،"ان يكون في وسع ال80 مليون مصري ان يتناولوا هذه الفطيرة الشهية كل صباح وعلى اختلاف زيتها وصعترها وعجينتها!".
أمرٌ آخر يلفته:"بحر البلاش". البحر المجاني. لاحظَ وهو في طريقه الى احد الأندية البحرية، اشخاصاً ذوي هندام متواضع يتوجهون نحو شاطئ الرملة البيضاء المجاني. فقراء او افضل حالاً بقليل يسبحون في الصيف، فيما الكثيرون من نظرائهم من الطبقة نفسها، الذين لا يرتادون الشواطئ، لهم بيوت في الجبل الرطب او السهل الجاف، او يستأجرون بيوتاً. وفي الجبل يرى اهله وسكانه يعيشون مثل أهل المدن؟!"لبنان بلد الامتيازات؟!"، يستنكر بل يصحّح:"لبنان التفاوت الطبقي الأقل حدة! لبنان جنة الغني والمتوسط واحياناً الفقير". ثم يستدرك:"وكل هذا بالنسبية اللازمة...".
في الشارع، تزيد دهشته. دهشة بمن يمشي في الشارع. بهندام الناس، الرجال والنساء. النساء خصوصاً. حجم الاهتمام العفوي بالهندام. حجم التفنّن والتزيّن... والرشاقة. مع كل عيوب المغالاة يبقى الهندام لذّة للنظر، أو هذا هو المسعى اليومي لغالبية اللبنانيات، ومع الوقت، اللبنانيين.
لماذا؟ يتساءل صديقي المصري، لماذا انتم هكذا؟ تفقدون قراراتكم المستقلة، تخدمون بلاطات غيركم... ولكنكم لا تفقدون الجاذبية؟ ولا الحيوية؟ ولا البهجة؟ ولا تعرفون الضجر الذي نكابده؟ كيف نصِفكم؟ لا انتم هذا ولا انتم ذاك. انتم خليط مضطرب من الاشكال والالوان. خليط يعتاش من عدم الاستقرار. يتعالى دائماً على الانحطاط ويداوي قلقه بالتنوع والاختلاف... ومكتوب عليه ان يبقى هكذا طالما استمر محيطكم بالاهتزاز، موفِداً اليكم لاجئيه وموجاته العاتية. ويبدو انكم مثلنا ابناء جغرافيا في الاساس، قبل ان تكونوا ابناء التاريخ الذي ندعي، نحن الاثنين، أنه يقضّ مضاجعنا.
نشر في العدد: 16907 ت.م: 19-07-2009 ص: 23 ط: الرياض


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.