حاول النباح أول الأمر فكان مضحكاً، وبدا صوته ضعيفاً ومضطرباً. كنت أهشّه فيفر مختبئاً خلف المقاعد المتناثرة ويصرخ، يتأكد من ابتعادي فيعاود الظهور والنباح. انشغل به صاحبه، يداعبه ويمشط شعره ويعرِّفه بالمكان. كان طويل الشعر، جميلاً ومترهلاً حين يتقافز على الأرض خلفه ببطء، فيما لم يعد صاحبه يسبّ الخدم أمامي أو يبصق على الأرض ناظراً إليَّ، أو يجلس واضعاً ساقاً على ساق أثناء مروري كما كان يتعمد أن يفعل. لمحني على الطريق فواصل نباحه واحتد حتى بعدتُ منه. هششته كما كنت أفعل، فبرم ذيله ولم يجفل وخربش الأرض بساقيه. اقترب فبدت نظراته قاسية. اتضحت معالم القوة في صدره وسيقانه واختفى ترهُّل الجذع والبطن، وبدا أن شعره ليس طويلاً وليس جميلاً. اعتبرتُ نباحه المتواصل إهانة، خصوصاً أنه لم يعد يرتدع بالتهويش فاعتدتُ تجاهله، وبدأت ألزم الجانب الآخر للطريق. اعتاد النباح على ألا يتخطى الإسفلت، واستبعد جيراني أن يكون لصاحبه دور في تحريضه. حين فاجأني قاطعاً الطريق ومتجهاً هذه المرة إلى ساقي، لم أدر هل كانت خطوة واحدة هي التي قفزتها إلى الأمام تفادياً لأنيابه أم أنني هرولت، لكنني سمعتُ ربما في هذه اللحظة ضحكة قبيحة ومتهكمة، التفتُّ فرأيته جالساً هناك على أحد المقاعد المتناثرة، يضع ساقاً على ساق ويحرك سبابته. داخلني الشك في أنه يحرك الكلب بسبابته: يفردها فيهجم، ويلمّها فيتراجع، مثلما كان يرسل لأبي ثعابينه السامة، تلدغه أو تخيفه ثم يسحبها بخيوط رفيعة لا تبين. هوَّن جيراني الأمر، فهو مجرد كلب للزينة، لا يستحق أن أهرول أمامه، ولقمة مسمومة أو رصاصة كفيلة بإنهاء الأمر، فيما جاءني أبي غاضباً على مقعده المتحرك، يغرز سكينه الحاد في صدر دمية أو وسادة. صرختُ حين عقرني أثناء مروري على الجانب الآخر للطريق، من دون أن أثيره أو ألتفت إليه. شتمتُ أصدقائي وجيراني وجريت إلى دارنا وصعدت إلى حجرة أبي وأخرجت سكينه اللامع. حاولوا منعي، لكنني أقسمت بأن أقتله. منعني الكلب باستماتة، كان يتجنب طعنات السكين المتلاحقة ويهجم في شراسة. تقدمتُ، كان السكين حاداً ومخيفاً واكتشفت براعتي القديمة في المبارزة. رأيتُه جالساً هناك يحرك سبابته. أنزل ساقاً وانتصب واقفاً، كشَّ الكلب فاستكان خلفه، وفرد ذراعيه مبتسماً ومرحباً، وحائلاً في الوقت ?نفسه بيني وبين الكلب، هدّأني ثم جذب مقعداً ونادى: - قهوة يا ولد. "تعشَّم"ألا يزيد الحادث من كراهيتي له، وعرض ساقي على طبيبه الخاص، فقال بسيطة. قال إنه كلب للزينة ولا يدري سبباً لتغيره هكذا، اعتذر وأقسم بأن أخرج من عنده راضياً. بدا ناعماً أكثر مما توقعت، وكان كلبه مستكيناً تحت قدميه في براءة كلاب الزينة، تساءل في خبث وكان السكين مشرعاً في يدي: - سكين المرحوم؟ أومأت برأسي وأدخلته. قال بارتياح: - أعرفه. غمز للخادم بعينه، فناولني حبلاً في طرفه دائرة، وأشار الى الكلب فارتمى تحت قدمي وأدخل رأسه، كان مسالماً ودامعاً وكنت أحكم الحبل حول رقبته، ناولني حجراً ربطتُه في الطرف الآخر، سار بجانبي والطبيب والخادم خلفنا حتى حافة البئر، فبسط ذراعه على طوله وفرد كفه، قال وهو يحول الابتسام: - تفضل! دفعت الكلب والحجر في البئر، تابعتُ السقوط والصراخ ثم الفقاعات المتصاعدة. ناولني القهوة الباردة وحمَّلني اعتذاره الخاص الى الست الكبيرة، وأوصلني إلى أول الطريق. مات الكلب وكانت ساقي تؤلمني، ولم أشعر بالرضا إذ تكرر مجيء أبي - الذي علمني أصول المبارزة - على مقعده المتحرك صامتاً، يغرز سكينه الحاد في فخذيه ثم ينظر إليّ ويبكي. أغلقت حجرتي من الداخل، أحكمت إغلاق النوافذ حتى الثقوب الصغيرة، أرتعد، لا آكل ولا أشرب ولا أنام، أبصق شيئاً عالقاً في حلقي لا يخرج. أصرخ صراخاً متواصلاً كالنباح، أنتظر نهايتي في الغرفة المظلمة. أرتعد وأبصق، لكنني أرى الأشياء واضحة وحقيقية. أراه مخادعاً وناعماً، كلبه ليس للزينة، يسير في جنازتي دامع العينين، وحين يصل إلى أمي ينحني على يديها مقدماً العزاء. نشر في العدد: 16783 ت.م: 17-03-2009 ص: 26 ط: الرياض