"حفلة الموت"للكاتبة العمانية فاطمة الشيدي دار الآداب هل هي رواية أم قصيدة حب؟ هذا السؤال يطرح نفسه عليك كلّما أوغلت في القراءة حتى إذا ما شارفت النهاية يكون الجواب أن"حفلة الموت"رواية وقصيدة في آن معاً، فمن جهة، ثمة بنية روائية تتمظهر في أحداث تنمو، وشخصيات تتحرك، وعلاقات تقوم بينها. ومن جهة ثانية، ثمة لغة شعرية تجسّد علاقة الحب بين الراوية وحبيبها. بالدخول الى الرواية من عنوانها الضدي، تضيف الكاتبة كلمة"حفلة"المنتمية الى الحقل المعجمي للفرح والحياة الى كلمة"الموت"، ولعلها أرادت بهذه الإضافة الشعرية أن تشير الى علاقة التلازم بين الحياة والموت فهما وجهان لعملة واحدة ووجود أحدهما شرط لوجود الآخر. فهل تتحقق هذه القراءة في المتن الروائي؟ تحكي فاطمة الشيدي في"حفلة الموت"علاقة حب معلّقة بين أمل راوية الرواية وحبيبها أحمد، وكلاهما رسام يتخذ الرسم سلاحاً يشهره في وجه واقع قاس، وأداة للتوازن وعدم السقوط. على أن ما جعل العلاقة معلّقة رواسب وموروثات وآليات قمع ضغطت على أحد طرفيها حتى إذا ما تحرر هذا الطرف منها بعد مخاض عسير وموت موقت تعود العلاقة لتنمو وتأخذ قسطها من الحياة، فموت الجزء شرط لحياة الكل، والتحرر من بعض الماضي جواز دخول الى المستقبل. هذه الرسالة تقولها الراوية من خلال جملة أحداث تتمحور حول أمل الراوية وأحمد الحبيب. وهي أحداث يختلط فيها الواقعي بالسحري، والذاكرة بالمخيلة، والحسي بالميثالوجي. وتتخذ العلاقة بين هذه الثنائيات شكل الصراع أحياناً داخل الشخصية الواحدة أو بين شخصيتين اثنتين حتى إذا ما انجلى هذا الصراع عن انتصار أحد طرفي الثنائية تكون الرواية شارفت نهايتها. تمثل أمل الحقل الذي يدور فيه الصراع وحوله، فهذه المرأة المولودة في مجتمع ذكوري شعبي تنوء بإرث ثقيل من آليات القمع يُبقي علاقتها بنفسها وبالآخر/ الحبيب معلّقة حتى تتمكن بعد مخاض عسير وموت موقت وپ"جراحة"جذرية من التحرر من هذا الإرث. لقد عرفت أمل في صباها تواطؤ الأب ومعلّم الدين عليها في تحالف بين السلطتين البطريركية والدينية. وهي ثمرة اغتصاب الأب أمها، فذاكرتها مثقلة بالممارسات الذكورية الموروثة، ونفسيتها مثخنة بالجراح المكتسبة المعيشة. ينجم عن هذا الموروث والمكتسب/ المعيش تداعيات ونتائج تطبع شخصيتها وتشكل عقدة تتحكم بمواقفها وتصرفاتها، وأبرزها: حقد كبير على الأب يتمظهر بإطلاق صفات: القاتل، السجان، الجبار، العنصري، الطبقي عليه، وبرفضها الاعتراف بأبوّته. وما تلبث أن تعمم هذا الحقد ليشمل جنس الرجال، فهم، من وجهة نظرها، تجار الرقيق، والكلاب المسعورة، والحمير التي ورثت النهيق، والثيران... على أن أخطر ما في هذه التداعيات والنتائج معاناتها من فصامٍ معيّن فتشعر بأن ثمة شبحاً يسكنها ويحول بينها وبين ممارسة حقها في الحب والزواج. لذلك، وحين يظهر أحمد في حياتها، وتنجذب إليه، يُشكّل الموروث والمعيش في علاقتها بالذكر حدّاًَ دون نموّ العلاقة وتطورها وبلوغها خواتيمها المنشودة، فتحس بعجزها عن الارتباط به، وتراوح العلاقة مكانها زمناً. وحين تقرر الانتفاض على الماضي والأب والأشباح والسحرة والشياطين، وتحقيق حلم أحمد بالزواج منها، تنهار، وتسقط بين يديه، وتدخل المستشفى. وفي هذه المرحلة تدخل الأحداث نقطة حرجة يختلط فيها الواقعي بالغرائبي، وتتحقق معجزة عودة أمل الى الحياة بعد موت موقت، لكنها تعود معافاة هذه المرة وقد تحررت من الشبح الذي سكنها، والماضي الذي طاردها، ويكون الموت الموقت سبيلاً الى حفلة الحياة، ويكون أول قرار تتخذه البحث عن أحمد لتحقيق حلمهما المشترك. وهكذا، تقول الرواية إن التحرر من الماضي بأشباحه وذكوره وشياطينه، وإن اتخذ شكل الموت الموقت، هو شرط للدخول في المستقبل وبناء العلاقة السليمة. ثمة مستويان لغويان يمكن الكلام عليهما في"حفلة الموت"، مستوى مباشر يظهر في تعرية القمع الذكوري وآلياته ووصف العالم ما تحت الأرضي والأحداث الغرائبية، وينحدر هذا المستوى الى محلية واضحة في لغة الحوار. ومستوى شعري يبرز في رصد علاقة الحب ونموّها وانعكاسها على داخل الراوية وخارجها، وهذا المستوى يستخدم اللغة التصويرية والتشابيه المبتكرة وينزع نحو المبالغة، والعبارات القصيرة، ويستبطن لغة نزار قباني وغادة السمان وأحلام مستغانمي في عملية تناص مموّهة تمارسها الكاتبة ببراعة تخفي أكثر مما تظهر من بصمات هؤلاء، وهي عملية مشروعة إبداعياً، فليست ثمة لغة صافية. على أية حال، تقدم فاطمة الشيدي نصاً روائياً مقنعاً، يُشكّل مادة سائغة، سهلة الهضم، دانية الإمتاع. وقد عرفت كيف تجعل من"حفلة الموت"حفلة للحياة. نشر في العدد: 16743 ت.م: 2009-02-05 ص: 29 ط: الرياض عنوان: العمانية فاطمة الشيدي تحتفي بالحياة في "حفلة الموت"