كيف نهتدي الى الطريق القويم في عالم المعلومات الجديد، اثر إبرام محرك البحث"غوغل"اتفاق تسوية مع الناشرين والكتاب الذين ادعوا عليه بتهمة انتهاك حقوق النشر؟ ففي الاعوام الاربعة الاخيرة، نقل"غوغل"ملايين الكتب الورقية الى نسخ رقمية، وعدد كبير من هذه الكتب يحظر اعادة طبعه ونشره بموجب قانون حماية حق الكاتب والناشر. ويخلف اتفاق التسوية المبرم مع"غوغل"أثراً كبيراً في سبل توفر الكتب للقارئ والمطالع. والحق ان معالم مستقبل عالم المعلومات مبهمة. فاتفاق التسوية مركب ومعقد. وادراك خطوط هذا العالم الحقوقية والاقتصادية عسير. ويلقي النظر الى تجارب الماضي الضوء على سبل توفير المعلومات ومجموعات الابحاث أمام القراء، في أنحاء العالم. فالقرن الثامن عشر، وهو عصر التنوير، أعلى شأن المعرفة، والقوة المنبثقة منها، وسعى الى ارساء اسس"جمهورية الآداب"، وهي جمهورية مشرعة الحدود، وتتجاوز التفاوت الاجتماعي، وتحتفي بالمواهب. وجواز مرور المرء الى هذه الجمهورية هو الكتابة والمطالعة. ولكن هذه الجمهورية لم تكن في منأى من شوائب مجتمع القرن الثامن عشر، وأبرزها الامتيازات الاجتماعية. وهذه الامتيازات لم تقتصر على الطبقة الاريستقراطية. فعلى سبيل المثال، كانت الامتيازات"الطبقية"تشرع ابواب دور النشر يوجه أصحاب الامتيازات هذه، شأنها في عالم الآداب في فرنسا. فعلى خلاف مبادئها، أوصدت أبواب"جمهورية الآداب"في وجه من لم يكن يتمتع بامتيازات. وفي الآن نفسه، دعت هذه الجمهورية الى الانفتاح، والى رفع القيود عن المعلومات والمعرفة. وفي الولاياتالمتحدة، خطت عبارة توماس جفرسون رئيس الولاياتالمتحدة بين 1801و1809 على لافتة معلقة على مدخل مكتبة نيويورك العامة، وهي أعلنت أن نشر نور العلم والمعرفة هو افضل سبيل الى نشر الفضيلة وبلوغ سعادة الانسان... والى العمل بوحي من عصر التنوير. والحق ان المادة الاولى من دستور الولاياتالمتحدة، والقسم الثامن منها، يقر حقوق ملكية الناشر. ولكنه يقيد هذا الحق ب"وقت محدد". فالآباء المؤسسون لم يفرطوا بحق الأدباء والكتاب في جني عوائد عملهم الثقافي، ولكنهم قدموا المصلحة العامة على المصلحة الخاصة وأرباحها. وحذا الدستور الاميركي حذو الاجتهاد البريطاني في 1790، وقيد نفاذ الملكية الادبية ب14 عاماً قابلة للتجديد مرة واحدة. وفي 1998، حدد بند"سوني بونو كوبيرايت ترم اكستنشن"نفاد هذا الضرب من الحقوق بسبعين عاماً، تضاف الى عمر الكاتب أو صاحب العمل. وعليه، لم تسقط حقوق الملكية عن معظم الأعمال الصادرة في القرن العشرين. ويفترض أن يقتصر نقل ارثنا الثقافي الى كتب رقمية على تلك الصادرة قبل الاول من كانون الثاني يناير1923. وقد تبقى الامور على حالها ما لم تبادر شركات خاصة الى ابرام صفقات مع أصحاب الحقوق، ونقل أعمالهم الى العالم الرقمي، وبيع نسخ هذه الاعمال الرقمية بأسعار مرتفعة تعود بالارباح على مالكي الاسهم. وجليّ أن الابتعاد عن مبادئ الآباء المؤسسين، والانزلاق الى تبني ممارسات الصناعة الثقافية الراهنة يفضيان الى تقديم هرج الشركات الرأسمالية ومرجها، أو صخبها، على مبادئ التنوير. وليست مبادئ التنوير ترفاً تاريخياً يتحدر من الخيال وبناته. واليوم، تغير وجه جمهورية الآداب الموروثة من القرن الثامن عشر، وأصبحت جمهورية التعليم المهني والاختصاصي. وأبواب هذه الجمهورية مشرعة أمام الهواة، ومحبي العلم والمعرفة وبقية المواطنين. فرفع القيود عن المعلومات هو لسان حال هذه الجمهورية التي تنهل من مخازن المقالات الرقمية المتوافرة مجاناً على الشبكة الالكترونية، وفي أرشيفها، وأعمال الهواة المعرفية، مثل"ويكيبيديا". ويبدو أن نشر ديموقراطية المعرفة في متناول أيدينا. وفي وسعنا بعث مبادئ التنوير. ولكن شركات أعمال مثل"غوغل"لا ترى المكتبات معابد معرفة وعلم فحسب، بل محتوى ثميناً للاستثمار. وكلفة نقل مجموعات المكتبات الى نسخ رقمية زهيدة، ولا تتعدى بضعة ملايين دولار. فعلى خلاف المكتبات، وهذه شعارها"العلم للجميع"، تسعى شركات الاعمال الى جني الارباح. ومن شأن رقمنة الكتب وبيعها من دون حفظ حق وصول الجميع اليها مجاناً، تحويل الانترنت أداة تنقل المعرفة الى دوائر الخاص، وليس الى دوائر التداول العام. وليس في وسع يد خفية التدخل لتقويم اختلال التوازن بين كفة المصلحة الخاصة وكفة المصلحة العامة. ويجب أن تسن قوانين تحمي المصلحة العامة. فالمكتبات هي صنو الممتلكات العامة، وليست شركات أعمال، على رغم أنها تحتاج الى موارد مالية. ولا شك في أن رقمنة الكتب ضرورة ملحة. ولكن يجب تقييد هذه العملية بقيود تحفظ المصلحة العامة، واعادة صوغ قوانين الرقمنة. ولا أطعن في حق الشركات في جني الاموال، أو في حق الادباء في عوائد أعمالهم، وأقر بأهمية الملكية الادبية. وأرى أن قانون الكونغرس في 1790 أفضل من قانونه الآخر، الصادر في 1998. ولكني أدعو الى استلهام جمهورية الآداب في ارساء جمهورية التعليم الرقمية الديموقراطية. عن روبرت دارنتون أستاذ في جامعة هارفرد الاميركية ، "نيويورك ريفيو اوف بوكس" الاميركية، 12 /2/ 2009 نشر في العدد: 16756 ت.م: 18-02-2009 ص: 25 ط: الرياض