يشعر قارئ رواية هالة كوثراني الجديدة "استديو بيروت" دار الساقي أنه داخل فيلم تصوّره الراوية جاعلة من السرد أداة تصوير أو كاميرا بالأحرى. فالراوية التي تعمل مخرجة أفلام وثائقية أصلاً لا تنظر الى العالم من حولها إلا نظرة سينمائية، وكأن عينها كاميرا متحركة. هذه النظرة تجعل الأشخاص الذين تبصرهم والذين يحيطون بها شخصيات في فيلم يُصوَّر ولكن من غير بداية محددة أو نهاية. وليس مصادفة أن تسمي الكاتبة روايتها"استديو بيروت"فالمكان الذي هو بيروت استحال في الرواية ما يشبه"الاستديو"الكبير الذي هو الوجه الحقيقي للعالم. إنها بيروت التي تشبه الحياة فيها فيلماً لا ينتهي يصوّره"مخرج لامرئي"كما تقول الراوية. بيروت التي لم تستطع الراوية ولا زوجها ربيع أن يكملا فيها حياتهما التي عاشاها سابقاً في مدينة مونتريال. لقد خرّبت بيروت هذه العلاقة الزوجية وحوّلتها حالاً من التوتر الداخلي والصمت والانقطاع... ربيع الزوج يريد أن يعود الى مونتريال بعد عام على رجوعهما الى الوطن. الراوية - الزوجة لا تحبّذ العودة وحلمها بل هاجسها أن تصبح أماً في مدينتها الأم. هاجس الأمومة لا يغادرها لحظة وقد يكون أحد الحوافز التي جعلتها تحيا أزمة وجودية على رغم عزائها السينمائي الذي يجسده عملها كمخرجة. يدخل حياتها أشخاص كثر ثم يخرجون. إنهم شخصيات أكثر مما هم أشخاص. يملأون أيامها بالصخب وعندما يغادرون تشعر بالفراغ، روحياً وجسدياً وعاطفياً. همّها الوحيد أن يتكوّر بطنها وتضع مولوداً تظنه الوحيد القادر على منح حياتها معنى. لكنّ حبها لزوجها ربيع لم يخبُ لحظة، بل هو يزداد احتراقاً كلّما شعرت أن البرودة تحلّ بينهما. تحاول أن تغريه وتجذبه علّه يبدّل رأيه ويعدل عن فكرة العودة الى مونتريال ويتواطأ في فعل الانجاب. إلا أنّ ربيع يعيش أزمة وجودية داخلية: إنه كاتب مأزوم، كاتب لم يبق قادراً على الكتابة بعدما عاد الى بيروت. هذه الأزمة تقض حياته وتقلقه. ويدرك أنه لا يستطيع أن يكتب في مدينة مثل بيروت من جراء العنف الذي يهيمن عليها مصحوباً بالخوف واللاطمأنينة. فقد الرغبة في الكتابة منذ أن فقد الشعور بالأمان، على خلاف زوجته الراوية التي كان العنف حافزاً لها على المضيّ في عملها وسط هذا"الاستديو"الكبير. رواية هي إذاً فيلم يصوّر ويكتب، بالعين والقلم أو بالكاميرا الخفية والقلم. حتى الراوية نفسها تطل وكأنها أمام كاميرا. تمشي حاملة كتابها"الأسود"كما لو أن مخرجاً آخر يصوّرها. حتى حياتها في البيت مع زوجها تبدو كما لو أنها لقطة سينمائية طويلة. أما الأمكنة الأخرى - مثل صالون التجميل - فتبدو أشبه بالديكورات المبنية ليتمّ فيها التصوير. السينما، واقعاً ووهماً، هي كل شيء ليس في حياة الراوية فقط بل في حقل الرواية أيضاً. الصحافية ريما التي تتصل بها بغية لقائها تعهد اليها ب"سيناريو"كتبته وتريد رأيها فيه. هذا السيناريو سيتحول بدوره الى فسحة متخيلة تعيش الراوية فيها وكأن بطلته - ريما - مرآة لها. ويبلغ بها التماثل حتى تتوهم نفسها الفتاة التي تركب الدراجة النارية وشعرها يتطاير في الهواء كما في السيناريو. بل إنها سرعان ما تجد في أولغا، السيدة الأوكرانية التي تعمل في صالون التجميل شخصية لفيلم مقبل. وترسم لهذه الشابة صورة وملامح وكأنها فعلاً شخصية سينمائية وتدفعها الى أن تروي قصتها بنفسها كما لو أنها أمام كاميرا. وقصتها تتراوح بين التراجيديا الشخصية والعبث. انتقلت أولغا الى"استديو"بيروت بعدما أمضت أعواماً في الشارقة وتزوجت من شاب لبناني لم يستطع أن ينفصل عن سلطة أمه حتى بعدما أصبح أباً. وفي الصالون هذا تتعرف الى هيام،"الآنسة"البعلبكية المأزومة عاطفياً في منتصف عمرها ثم تكتشف أنها خالة ريما الصحافية صاحبة السيناريو. وتبدو ريما شبيهة خالتها، شقيقة أمها التي فقدتها باكراً. لكنّ الأمر سيظل سراً ولن تدرك ريما ولا هيام أن الراوية هي"الجامع"بينهما وتظل كلتاهما على حدة. غير أن ريما وهيام وأولغا من ثم سيشكلن المثلث الذي تعيش فيه الراوية وتضيع في أرجائه. تجد الراوية في شخصية ريما الكثير من ملامح خالتها هيام وتكتشف في السيناريو الذي كتبته الكثير من سيرة أمها وخالتها مثلما تكتشف في قصة هيام بعض معالم سيرة ريما. إنها لعبة المرايا التي تعتمدها الكاتبة دافعة راويتها - أو بطلتها الى اكتشاف هويتها المتعددة في هاتين الشخصيتين كما في شخصية أولغا، على رغم اختلافها عنهن جميعاً. كلهن يسردن وكأنهن راويات، يتداعين ويكشفن معاناتهن. حتى سيناريو ريما وجدت الراوية فيه ما يشبه المونولوغ الطويل. ولعل ما يؤكد الطابع السينمائي الذي يهيمن على الرواية هو الختام الذي يبدو أقرب الى اللقطة الأخيرة، وفيها تحقق هيام أمنيتها الوحيدة عندما تتزوج من عماد الحبيب الأول والأخير الذي انتظرته أكثر من خمسة وثلاثين عاماً، وقد عاشها متنقلاً بين عشيقة وأخرى، وبدّد خلالها كل ما يملك. أما الزواج فيتم على ضفة النهر في مشهد سينمائي بامتياز. "استديو بيروت"رواية المدينة التي حوّلها الواقع المأزوم"استديو"كبيراً تضيع فيه الشخصيات والأدوار كما يضيع فيه"الأبطال"والممثلون وهم جميعاً ينتمون الى مرتبة الضحايا.