لم يتردّد مدير إحدى الصحف العربية البارزة في لندن، في خضم نقاش شخصي، القول أن أولاده عبروا مراحل الدراسة الابتدائية والتكميلية من دون شراء دفاتر، بل أنهم نادراً ما يستعملون الأقلام. وقارن المُدير هذا الأمر مع الكميات الكبيرة من الدفاتر المتنوعة والأقلام التي دأبت على خلب لبّه خلال عبوره تلك المراحل عينها. وقد لا يبدو منطقياً القول أن التكنولوجيا المعاصرة ربما أدت الى اختفاء الورق من التداول اليومي، إذ تشير أرقام التجارة العالمية إلى زيادة كبيرة عالمياً في الطلب العالمي عليه. ويتساءل البعض هل أن الجيل الذي يكبر راهناً وأيديه تتعامل يومياً مع الكومبيوتر والخليوي، سيوصل استعمال الورق الى نقطة الصفر في مستقبل قريب؟ والحق أن المستعمل العادي للأدوات الالكترونية المعاصرة، بات يستغني عن الورق في كثير من التعاملات، وخصوصاً البريد الالكتروني والفواتير وحجز بطاقات السفر وتعبئة الاستمارات المتنوعة. ويتشارك الكومبيوتر مع الأنواع المتطورة من الخليوي في تحفيز الجمهور الالكتروني على الاستغناء عن الورق. فمثلاً، لم يعد حجز بطاقة طائرة يحتاج غير رقم الحجز الالكتروني. ولا يحصل مستعمل أجهزة الصيرفة الالكترونية سوى ورقة صغيرة عليها أرقام الأموال التي تداولها. كما حلّ الكتاب الالكتروني ومجموعة كبيرة من أدوات تخزين المعلومات والبيانات والصور محل الكتاب التقليدي. وفي الغرب، استُبدلت أطنان الكتب التي تحتوي على خرائط للشوارع والمدن والبلدات، بخرائط رقمية تظهر على شاشة الهاتف النقّال أو على أجهزة متخصصة بات لها ركن في طرف السيارة قرب السائق. ويزيد من انتشار تلك الأجهزة ان معظمها يتصل بالأقمار الاصطناعية ويرشد السائق الى حال المواصلات واختناقات المرور، إضافة الى ربطه مع البوليس. بقاء الورق و"صموده" هل تؤشر هذه الإنجازات الالكترونية إلى قرب اختفاء الورق من الأسواق؟ وهل صحيح القول إن انتشار الوسائل الالكترونية يخفض الطلب على السلع المصنوعة من الورق؟ لا يبدو أن الإجابة إيجابية، إذ تؤكد أرقام مؤسسة"فوريست ستيواردشب كاونسل"Forest Stewardship Council العالمية المتخصصة في صناعة المنتجات الورقية، ان استهلاك الغرب من تلك السلع تزايد في الاعوام القليلة الماضية بنسبة تراوح بين 40 و60 في المئة! وتضاعف استهلاك كندا 3 مرات خلال العقود الثلاثة الماضية ليصل الى قرابة 7 ملايين طن خلال عام 2006. ويبلغ استهلاك الفرد الأميركي من الورق سنوياً 344 كيلوغراماً. ويبلغ الرقم عينه 221 كيلوغراماً في كندا و183 كيلوغراماً في دول الاتحاد الأوروبي. ويبلغ ذلك الرقم في الوطن العربي 215 كيلوغراماً، لكنه يتوزع بصورة متفاوتة بين تلك الدول. فيبلغ 38 كيلوغراماً في الكويت و0.6 كيلوغرام في السودان، مع معدل وسطي مقداره 13.6 كيلوغرام. ويستهلك العالم العربي 4 ملايين طن ورقاً سنوياً، تستعمل في طباعة قرابة 1.3 مليون كتاب ودورية. واستُقيِتْ معظم الأرقام السابقة من ندوة عن النشر الالكتروني استضافتها القاهرة أخيراً. وتشير تلك الأرقام إلى أن الثورة الرقمية أبقت جبلاً من الورق قيد الاستعمال، ولو أن العلاقة مع الورق دخلت فعلياً في منعطف تاريخي، وخصوصاً لجهة تضاؤل تعامل الأجيال الشابة معه. وفي مقال نشرته إحدى الصحف الكندية أخيراً، أشار صحافي متخصّص في المعلوماتية الى أنه لم يعد يحتفظ من الوثائق الرقمية سوى بجواز السفر والانجيل والشهادات المدرسية. وكخلاصة، يبدو أن من المبالغة الإعلان عن وفاة الصناعة الورقية. والأرجح أن الاستغناء عنها عملية تجرى عبر تدرّج كبير زمانياً. قد لا تُعجب تلك الكلمات بعض المتحمسين للثورة الرقمية، خصوصاً الذين يراهنون على اختفاء الورق من معظم المؤسسات التجارية والخدماتية والتربوية والثقافية والاستعمالات اليومية في زمن لا يرونه بعيداً. ويرى هؤلاء في الاستغناء عن الورق ما يُشبه انتقال البشر من عصور الحجر والفحم والبخار والآلة اليدوية إلى عصر المعادن والكهرباء والذرة. ولا يترددون أيضاً في الإشارة الى أن التقدم بين الأمم بات يُقاس بمدى استهلاك الفرد للانترنت وبموقعه داخل المنظومة الرقمية، وكذلك بالمسافة التي تفصله أو تدنيه من حدود القرية الكونية الالكترونية. علي حويلي