تجلس سهى في سريرها تداعب بطنها، تخبره حكاية، تقرأ له الشعر والنثر وتُسمعه الموسيقى. تنظر الى بطنها، تضحك الى حد البكاء. دموع تسيل على البطن المكوّر، فتمتد يد صغيرة لتمسحها. تلامس اليد وجه سهى. تمر الأنامل على وجنتيها، تغوص في شعرها، وتتأمل عينيها. تُمسك سهى اليد وتقبلها، تحتضنها ثواني قبل أن يعود صاحبها إلى"كهفه". تستلقي الصبية العشرينية على سريرها غير عابئة بما يدور حولها من أحداث. تشرد مبتسمة. تُبحر في خيالها بعيداً. تلامس بطنها، تُربت عليه. تحاول عبثاً تقبيله، لأنها لا تملك المرونة اللازمة. محاولات زوجها وتحرّشاته لا توقظها من حلمها بأنها ستصبح أماً، مطلع السنة المقبلة. ستُفرغ سهى ما في بطنها من أحاسيس ومشاعر وأحلام. وسيبصر طفلها الأول النور، بعد أن حفظ كل إرشادات السلامة، وتفاصيل المدينة، وتشبّع بالموسيقى الكلاسيكية، و"قرأ"الشعر. منذ أن حملت سهى وهي لا تفارق المنزل الا لزيارة طبيبها. تستمتع بكل لحظة مع بطنها. أعطته اسماً وباتت تناديه ريّان. صارت شديدة الحساسية، ومنعت نفسها من مشاهدة التلفزيون كي لا تزعج ريان بالصور البشعة التي تبثها تلك التكنولوجيا، على حد قولها. تتناول كل ما يُغذيهما، ولا تجهد نفسها في الأعمال المنزلية. لا تدخل في سجالات مع أحد، الوقت الذي ستهدره تفضّل قضاءه معه. تطلب سهى من الطفل ألاّ يُفاجأ حين يخرج. تُهدّئ من روعه، وتخبره عن زحمة السير وارتفاع درجات الحرارة وغلاء المعيشة والأزمة المالية التي تعصف بالعالم. ضربات خفيفة تتلقاها سهى من ريان وكأنها محاولة استنكار وشجب. الا أنها تعود الى متعتها في تعريفه الى كل ما يدور حولهما. العلاقة بينها وبين بطنها مرت في مراحل، فكلما زاد انتفاخاً وتكوّراً فهمت ان ريان بات اكبر وأسمن... وأوعى فتقول له:"حذار الطائفية. كن مواطناً صالحاً، لا تؤذ الناس. لا تسرق أو تنصب على أحد. طبّق ما علمتك اياه، ارسم واضحك والعب وتوار عن السلاح. كن معتدلاً...". شعورها بالجوع يعني أن ريان تعب من نصائحها، ويحتاج الى قسط من الراحة. تطعمه وتستلقي. تخرج اليد الصغيرة من جديد، تغمرها وينامان. تستيقظ أم ريان فزعة، حلم غريب راودها. تعود اليد سريعاً إلى مخبئها. تعتذر الأم وتناديه، لكنه لا يصغي. تبكي، فتعود اليد الصغيرة لتجفف الدموع. تبتسم سهى وتستأنف أخبارها. ما تفعله هذه الأم العشرينية، ييسّر، في اعتقادها، حياة الطفل ويخفف عنه قسوة العالم. وهي تؤكد أن الطفل في بطن أمه يسمع ما يجري من حوله، ويشم الروائح... ويبدي رأيه في مشاكل العائلة! ينظر ريان الى أمه وهي تعد له ملابس الشتاء، تحيك له سترة صوف، وقبعة حمراء، وجوارب بيضاً. تخبره عن بيروت، مدينتهما الأبدية، عن زواريبها وبحرها وناسها ومحالها وشوارعها وتناقضاتها. ولا تخفي عليه الحرب الأهلية وفظاعتها... ولا الدَينُ المستحق عليه يوم سيولد. تخبره عن المسارح والصخب، وحال الكهرباء لئلاً يفاجَأ بالعتمة يوم خروجه. كرة القدم وكرة السلة، مثل الأحزاب والاغتيالات والتفجيرات، هي من أركان روايات سهى، التي تؤرق ريّان، فتستعين بالموسيقى لتبديد توتّره. تحتار الأم بما ستخبر ابنها في الشهرين المتبقيين:"يا الله، أخبرتك أموراً كثيرة الا عن والدك"، تقول الأم لريان:"أريدك أن تكون نسخة عن والدك، بشعره وعينيه وشفتيه وعقله النير وطيبة قلبه وإخلاصه وتفانيه وأفكاره المعتدلة وكرمه وسخائه. أتعلم لقد اشترى لك والدك كل الألعاب وجهّز لك غرفة لتسرح فيها وتمرح". يبتسم ريان في"كهفه"، ويتمنى الخروج بأسرع ما يمكن. ثم تحذّره سهى من أن يرث عنها كثرة الكلام وحب الوحدة. لا تمل الأم المستقبلية الحديث مع بطنها. يوم تأكدت من حملها، طلبت إجازة من عملها بلا راتب، وقررت ان تتفرغ للاهتمام ببطنها ومراقبته. الكاميرا لا تفارقها، تلتقط له صوراً يومية. وحين تشعر أن ريان مل حديثها تصطحبه في جولة في الحي لتعرّفه الى الجيران. تنصحه بأن يشتري من دكان أبي ابراهيم، وأن يبتعد عن أبي داود. تخبره عن طعم الآيس كريم وكيف سيطلب منها شراء"قرن"، كلما مرا من أمام محل البوظة. "من هنا اشتريت لك الملابس الداخلية. في هذه المنشرة صنع لك عمك توفيق سريراً من خشب. من ذاك المحل تبضعنا ما يلزمنا من حلوى وشوكولاته للضيافة. عبر هذا الشارع، سأتوجه الى المستشفى لأخرجك الى الحياة يا حبيبي". يتحمس ريان ويشد أمه صوب المستشفى الا انها تهدئه، وتطالبه بالصبر شهرين. تقول له أن لا يخجل لحظة هبوطه عارياً،"لأننا كلنا نأتي عراة إلى الدنيا"، وأن لا يخاف من الطبيبة لحظة قصها حبل السرّة،"هذا الفعل ليس ارهابياً. لا تفزع يا حبيبي، والدك سيكون معنا في غرفة العمليات. لا تحزن على صراخي، فارتفاع صوتي سينتقل اليك، وستبكي معلناً مجيئك بسلام الينا. وسيسارع الى رؤيتك عمك وخالك وجدك وجدّتك وأولاد الجيران والأقارب والأصحاب، وستتناقلك الأيدي كدمية". يتعب ريان من أخبار أمه التي لا تنتهي، فيغفو متمنياً اجتياز الفترة المتبقية له في بطن أمه... بهدوء.