قد يبدو عنوان الديوان الأول للشاعر اللبناني رامي الأمين"أنا شاعر كبير"دار النهضة العربية، بيروت 2007 صادماً للوهلة الأولى، لكنّ مَن يقرأ القصيدة التي تحمل العنوان نفسه يدرك البعد العبثي أو الساخر الذي سعى الشاعر الى ترسيخه، مستهلاً القصيدة بجملة تناقض العنوان قائلاً:"أنا شاعر صغير". لكنه لن يتوانى عن ايراد جملة العنوان"أنا شاعر كبير"موضحاً أنّه"كبر البارحة"وأصبح في"حجم عائلي". وهذا يعني أن الكبر هنا هو التقدّم في العمر والانتقال من المراهقة الى الفتوة. وما يزيد من السخرية"الوجودية"أن الشاعر ما برح في مقتبل العمر. الشاعر"الصغير"إذاً يتمسك بالعمر الصغير كذريعة للّعب بالكلمات كما يقول وپ"تلوين القصيدة بأقلام الشمع". فهو يحق له ما لا يحق"لكبار الشعراء"، يحق له أن يسرق من محمود درويش مقطعاً من قصيدة"ريتا والبندقية"وفي يقينه أنه لن يحاسب على فعله السيئ هذا لأن الله يحب الصغار وپ"يكره محمود درويش/ وأدونيس/ لأنهما كبرا أكثر ممّا ينبغي". قد تكون هذه القصيدة خير مدخل الى باكورة رامي الأمين، هذا الشاعر الفتّي أو الشاب الذي استطاع منذ هذه الإطلالة الأولى أن يفرض صوته اللطيف والخافت والهامشي والخاص جداً. هذه القصيدة التي ينتفض فيها على صورة الآباء الشعريين المتمثلين في شاعرين محمود درويش وأدونيس هي بمثابة الإفصاح عن مفهومه للشعر الذي ليس هو في جوهره إلا لعباً بالكلمات وانفتاحاً على الشعريّ بصفته حقلاً عاماً وإرثاً مفتوحاً يصنعه الشعراء عبر تعاقبهم. والانتفاض على أبوة الشعر ليس قتلاً"أوديبياً"للشعراء الآباء ولو اقترن بالقليل من السخرية، كأن يعلن رفضه مثلاً لقصائد محمود درويش التي تتكلم عن فلسطين والحافلة بالحجارة والصعتر، كما يقول. فالشاعر هو ظل الأب الذي يحضر في قصائد عدّة حضوراً طريفاً خلواً من الكراهية والحقد ولكن محفوفاً بالإحساس اليقظ بالصراع الأزلي، المعلن أو المضمر، بين الأب والابن. وأجمل ما يميّز صورة الأب هو تجلّيها في إطار كادر عائلي تمثله القصائد التي يمكن وصفها بپ"العائلية". لكنها قصائد شبه واقعية، شبه يومية، بعيدة من أي شرْكٍ وجداني أو"أخلاقي"إيتيكيّ. إنها في أحيان أشبه بشرائط مصوّرة يبرز فيها الأفراد وكأنهم شخصيات أو أشخاص في فيلم صامت وبلا قصة:"الابن الأصغر مصاب بداء العائلة"وپ"الابن الأوسط ضخم الجثة..."... أما الأم فپ"يصورها"تدخل"المنزل"حاملة أكياس الخضر"تضعها أرضاً"وتستلقي فوراً على الكنبة...". حتى الجدّة تحضر:"تلك البائسة المتدلية كثريا عتيقة من سقف المنزل". هذا ملمح من جو القصيدة العائلية، قصيدة"العائلة السعيدة"التي يغطي الغبار صورها كما يكتب الشاعر. ولا يغيب البيت نفسه عن صورة العائلة، البيت الذي يشبه القبو مثله مثل البيوت الحديثة ذات"السقوف المنخفضة". غير أن الحضور الأقوى يظل وقفاً على الأب بصفته الطرف الآخر للعلاقة بينه وبين الابن البكر الذي هو الشاعر نفسه، هذا الابن الذي"يؤلم أيضاً"في"حياة مليئة بالأمور المؤلمة". لكن الشاعر لا يأخذ بمقولة سارتر المعادية للأب ليس هناك من أب صالح: رابطة الأبوة فاسدة لكنه لا يأمن لپ"غرفة الأب"بحسب الشاعر الألماني نوفاليس. قد يكون الشاعر الابن ذا نزعة كافكاوية في هذا الصدد،"يتبرّم"من الأبوة أو يشكوها كما فعل كافكا خصوصاً في رسالته الى"الأب". يقول الأمين:"الأبناء يعيقون مشاريع آبائهم"، وهذا أمر طبيعي ومعهود في أحيان كثيرة. وعوض أن يمتدح الابن"الرمز"الذي يمثله الأب يرسم له صورة"إنسانية"لا تخلو من الرأفة:"مصاب بالتعب من خمسين عاماً أمضاها في منازلة الحياة على حلم غامض لم يتحقق". ويضيف:"في الستين من عمره يبحث عن حلم علق بين دفتي كتاب". ويشبه الابن نفسه بپ"الخفاش الصغير"الذي من عادته أن يألف العتمة ويعيش في طياتها، فيما يقول عن الأب إنه لا يحبّ العتمة. وعدم حبّ الأب للعتمة يستحيل هاجساً لدى الابن الذي يقول:"هناك أشياء أخرى أكثر أهمية تشغل بالي: لماذا أبي لا يحبّ العتمة؟". ويدخل الشعر كقدر في صميم هذه العلاقة: الأب ينعت الابن"بالعبقري استهزاء"، فهو كان يريده أن يغدو مدرّساً للرياضيات كما يقول، ثم يضيف:"خيّبت أمله وصرت شيئاً آخر". صار الابن شاعراً رغماً عن أبيه. وكلما أشار الأب الى فشل ابنه كان الابن"يبتسم". أما القصيدة التي حملت عنواناً طريفاً هو"أبي لا ينزل عن الشجرة"فيبدو الشاعر كأنه يحاول فيها"فصل"الأب عن سيرته الطفولية التي يستعيد أجزاء منها. فالأب يقطن في أعلى الشجرة فيما الابن ? الطفل"يحبو"على الأرض. يجمع شعر رامي الأمين بين التلقائية والتأمل الخفي جمعاً غريباً. يظن القارئ أن شعره يتدفّق ببساطة وإلفة لكنه سرعان ما يكتشف أن وراء هاتين البساطة والألفة عيناً تراقب وتلحظ وتضبط. عين أو ذائقة أو وعي داخلي بالقصيدة والعالم ترافقه أحوال من العبث والسخرية، من الألم والقنوط، من اللعب والهجاء:"أنا أقف في الحمام، إذاً أنا موجود". هكذا يضرب الشاعر"المقولة"الفلسفية الشهيرة عرض الحائط، جاعلاً من الموقف الفلسفي الذهني موقفاً عبثياً حياتياً يخفي الكثير من الهزء الوجودي. وفي قصيدة طريفة يجعل من كتاب الشاعر الفرنسي رينه شار"المطرقة بلا معلّم"وسيلة لاصطياد ذبابة يعجز عن اصطيادها فيما هو يقلّب القصائد من دون أن يقرأ حرفاً واحداً منها، كما يقول. يستخدم الشاعر ما يمكن أن نسمّيه لغة الحياة، برقتها وقساوتها، برخائها وشدتها، إنها اللغة البسيطة العذبة الخالية من التعقد اللفظي والصنعة المجهدة. يكتب الشاعر مثلما يعيش أو مثلما يتنفس ويتأمل ويرى ويعاين ويسخر ويحلم. إنها التلقائية التي تفسح المجال أمام الغريب والعادي والواقعي واللاواقعي، أمام السخرية من الذات والعالم، أمام الشخصي والتأملي:"نحتاج الى الوقت كي نفكر بالوقت وفيه وما يعنيه. كي نفكر بالموت والانتحار والذهاب الى المقابر"يقول الشاعر. ويكسر في احدى صوره الشعرية الطريفة الرمز الرومنطيقي أو الصوفي للقمر قائلاً:"القمر في البعيد/ يبدو عظمة". ويقول في قصيدة:"الكهرباء مقطوعة كرأس ماعز". هذا تشبيه غاية في الفرادة. والطريف أن ثمة أشخاصاً أو شخصيات تظهر في بعض القصائد وكأنّها"مقطوفة"من رواية أو قصة:"صديقي لا يحب الاستيقاظ صباحاً وبجانبه امرأة في السرير"، أو:"الفتاة المتفلسفة تقول لي: أذناك تشبهان أذني ألبير كامو"، أو:"فوزي/ في الخمسين، يخبرني/ أنه يريد أن يصير طبيباً/ عندما يكبر"... ويحضر الفيلسوف نيتشه في صورة الصديق، والشاعر الأميركي شارلز بوكوفسكي... وفي قصيدة طريفة يسخر من ثقافة"المرئي ? المسموع"التي باتت تسيطر على الكائن الحديث، معلناً أنه قرّر أن يطفئ التلفزيون الى الأبد وأنه"سيعتمد الراديو/ كي ينام/ تماماً كما في الأيام الخوالي". والراديو يعني غياب الجثث وحصول الموت سمعياً"كمواء القطط في العتمة". ثم يقرّر في الختام أن يتخلّص من الراديو أيضاً..."لكنّه فكر مطوّلاً قبل أن يقرّر/ سوف يرمي بنفسه من الشرفة/ بدلاً من الراديو والتلفزيون/ علّه ينطفئ". قد لا يخلو ديوان رامي الأمين"أنا شاعر كبير"من بعض ملامح الكتاب الأول، لكنّه ديوان حقيقي يملك من الخصائص ما يجعله أكثر من كتاب أول. هذا الشاعر الفتيّ والشاب يدخل عالم الشعر من الباب الواسع مزوّداً بالكثير من الجرأة والوعي والثقافة... وخطوته الأولى هذه ستشق أمامه الطريق الى أفق رحب في ميدان الشعر.