لكل جيل تقليعاته وممارساته التي يحاول أن يثبت من خلالها أنه متحرر أو منفتح أكثر ممن سبقه على الموضة وتقليعاتها، فيتخذ نمطاً معيناً يعبر عن أفكاره وأذواقه، وربما كانت الموسيقى أحد أبرز هذه التجليات. ويمكن القول إن الموسيقى في تونس لها تأثير فعال في الشخصية، خصوصاً أن المجتمع التونسي الشاب يعد من الأكثر تذوقاً للموسيقى. فكثيراً ما تلاحظ في الشوارع شباباً يحملون آلات موسيقية، يتباهون بها، وبأشكالهم الغربية نوعاً ما. حذاء رياضي converse، سروال جينز فضفاض مع كنزة ملتصقة بالجسم، قبعة صوف تخفي تحتها شعراً طويلاً أشعث لم يقص منذ سنة على الأقل. أما اللحى فالبعض يطلقها والبعض يفضلها على شكل"سكسوكة"مع شارب حيناً أو من دون شارب أحياناً, إنما بسالفين طويلين. السيجارة في الفم لا ضير منها أو بين الأصابع بطريقة معينة،"فهي تضفي بعض الملامح على الشخصية"باعتقاد أنيس خريج المعهد العالي للموسيقى الذي يدرس في معهد خاص في منطقة المنزه ويقول:"هذه شخصيتي، وهذا أنا، أرتاح بهذا الشكل واراه يناسبني أكثر من غيره, وذلك ليس اقتداء بأحد وإنما بالجو العام الذي أعيشه مع أصدقائي". ويضيف:"ربما تستطيع القول أنه شكل يعبر عن الحرية، فأنا حر في تسريح شعري أو عدم تسريحه، سروالي تحت خصري، كل هذه الأمور أتعلق بها لأنها تميزني". أحياناً كثيرة تصادف شاباً أو فتاة في الشارع أو في الباص أو الميترو يضع سماعات الووكمان في أذنيه، لكن صخب الموسيقى يسمعه كل من يحيط به، إيماءات بالرأس، تمتمات يعتقد بأن أحداً لا يسمعها سواه، حركات بالايدي والأرجل، تظهر مدى الهوس بالموسيقى التي يسمعها، تكاد أحياناً تتأكد أن من يقابلك مجنوناً رسمياً. الجاز برأي أنيس هو الموسيقى الأكثر انتشاراً بين الشباب، فهو ارتجالي إلى حد يمكن عازفه من عدم التقيد بلحن أو نوتة موسيقية، ومن قول ما يريد، وهذا ما يفضله الشباب،"عدم التقيد والحرية في التعبير". بدايات موسيقى الجاز كما يقول أنيس كانت على يد الفرنسيين والإيطاليين في مطلع القرن العشرين، عندما كانت موسيقى العصر، لكن التونسيين رفضوها كونها جاءت على يد مستعمر. وفي الستينات راجت هذه الموسيقى لكن ضمن قوالب موسيقى الروك التي انتشرت مع انتشار الهيبيز وأفكارهم التحررية. وفي رأي أنيس أن هذا الرواج لم يكن نمطاً يحمل فكراً إبداعياً، بل كان مجرد قالب موسيقي، لكن بدايات الإبداع في هذا النوع من الموسيقى كانت في الثمانينات في القرن الماضي، وهي جاءت نتيجة انتشار الجاز بين فنانين تونسيين كبار أمثال فوزي الشكيلي، إضافة إلى مهرجانات الجاز التي تقام في أكثر من مناسبة كمهرجات مدينة طبرقة، الذي تشارك فيه فرق تونسية من المهجر أو المقيمين، ومن أكثر الفنانين التونسيين شهرة في الجاز أنور براهم ومحمد زين العابدين. وما عاد انتشار الفرق الموسيقية والعازفين في المقاهي يشكل ظاهرة، بل بات تقليداً راسخاً في كثير منها. وبدأت هذه العادة مع الفرق الموسيقية في شهر رمضان في فترة ما بعد الإفطار حيث تتحول المقاهي إلى ما يشبه المدرجات لكثرة الزبائن. ولاسم المقهى وطابعه دور في الموسيقى التي تعزف فيه. فمقهى سيدي بو سعيد على اسم المنطقة الساحلية في تونس يغلب على موسيقاه الطابع التونسي التقليدي بآلة المزود، أما مقهى الإليزيه في منطقة النصر فيقدم موسيقى هادئة على الغيتار تعزفها فرقة من الشباب اليافعين ممن لا تتجاوز أعمارهم العشرين سنة."أبو العبد"المقهى الشرقي بطابعه اللبناني الأصيل له حصته أيضاً، فيلتف الزبائن فيه حول عازف العود ممسكين بنرابيش نراجيلهم بينما يطلق العازف ألحان فيروز والقدود الحلبية وغيرها من الألحان الشامية القديمة. لكن هذه الحفلات ليست حكراً على المقاهي، فبلديات العديد من المناطق تعمد إلى استقبال بعض الفرق الصغيرة الشابة في ساحاتها حيث يتجمهر الناس من حولهم بالعشرات لسماع موسيقاهم، وأحياناً تستمر الحفلة لأكثر من عشر ساعات فتتوالى العديد من الفرق التي لا يتوانى أعضاؤها عن القفز والصراخ تعبيراً عن اندماجهم بما يعزفون ويغنون.