في العام 1970، أو قبله، كنت أتردد الى مكتب الصديق محمد سعيد الصكار في شارع الجمهورية ببغداد. كانت محاولات الصكار التشكيلية تبهرني بالبساطة التي يلجأ اليها في انجازها. كان يرسم الشيء، ثم يشوهه، كأن ينقعه في الماء، أو يمسحه او اجزاء منه بمواد أخرى، ثم يقدمه للمشاهد كلوحة قديمة، أو حديثة، كما يحب أن يتصورها. كانت محاولاته هذه تبدو لي لعبة فنية بارعة. وكان يختلف الى المكتب ايضاً، الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد. كان يجمعنا انتماؤنا الى جيل واحد، وعقيدة سياسية واحدة. وكانت تدور بيننا احاديث عن الفن، والشعر، والتيارات الحديثة في الفنون، ورغبة في أن نفعل شيئاً مشتركاً، يجمع بين النثر، والشعر، والعمل التشكيلي والتخطيطي. وعبدالرزاق عبدالواحد شاعر، كما هو معروف، وهو فذ في امتلاكه زمام اللغة، وربما كان في وسعه أن يتلاعب باللغة ويطوعها كما يريد. والصكار كان شاعراً أيضاً، وناثراً، وخطاطاً مجدداً، وفناناً اقتحم عالم الفن بطريقته الخاصة. أما أنا فكنت مثقفاً لا هوية خاصة لي، مع شطحات قلمية، وتطلعات غامضة. وفي تلك الأيام بدأت اهتماماتي بالحركة الدادائية Dada. وهذه عززت عندي النزعة الى اعتبار الفن لعبة، على رغم ما يند عني من سلوك محافظ في المظهر. وكنت يومذاك عدت الى تدريس الرياضيات، بعد انقطاع عشر سنوات عنها. صرت أدرّس موضوعي الهندسة التحليلية، والكالكولس حساب التفاضل والتكامل، في الصف السادس الثانوي. وكنت أجد لذة كبيرة في تدريس هاتين المادتين، فهنا أنت تستطيع أن تعبر عن المعادلات الرياضية التجريدية، بلغة الهندسة الحسية، أي أن تحول المعادلة الرياضية الى منحنٍ، أو ترتسم، وتحول المنحني أو المرتسم الى معادلة. إنها لعبة لا أجمل منها، ومذهلة في أبعادها. فالرياضيات، هنا، في وسعها أن تعبّر عن كل شيء في الطبيعة والحياة، تقريباً. وبدا لي أنني استطيع أن استخدم لغة الرياضيات هذه في التعبير عما أريد، مع شيء من التفنن، والتصرف، والتلاعب. لكنني كنت في الوقت نفسه مستدرجاً في تلك الأيام الى عالم الدادائية. فقمت بمحاولة تجريبية لكتابة قصيدة على نحو حلزوني، بدأتها هكذا:"رجل لولب امرأة تفترش الكون، فينفتق الوعي على الذات، وللذات، لأجل الذات... الخ". ووجدها الصكار محاولة تصلح بداية لمشروع دادائي، أو فنظازي. وخط القصيدة الحلزونية بخطه الجميل. ولعلي أرسلتها الى مجلة ألف باء لتنشر ضمن مقال كان خميرة لمشروع"الاطروحة الفنطازية". وفي غضون شهرين أو ثلاثة انجزت كتابة"الدادائية بين المأس واليوم"، و"الاطروحة الفنطازية"في صيغتها الأولى، التي تعين عليّ في ما بعد مراجعتها وإضافة اشياء اليها. زيارة نزار قباني وحملت المخطوطتين معي، وذهبت الى بيروت في صيف 1970 بأمل طبعهما هناك، وفي بيروت التقيت بالصديق الراحل، بلند الحيدري، الذي كان مقيماً فيها. وعندما التمست مشورته حول طبع الكتابين، اقترح أن نعرضهما على الراحل نزار قباني، الذي كانت لديه"دار نشر". ولدى مفاتحته بالموضوع، اعتذر مؤكداً أن داره للنشر مقتصرة على طبع نتاجه فقط. هنا عنّت لبلند فكرة، هي أن يشرع بتأسيس دار نشر، ويبدأ مشروعه بطبع كتابي عن الدادائية. أما"الاطروحة الفنطازية"فكانت تتطلب جهداً طباعياً من نوع خاص، لما تنطوي عليه من معادلات رياضية، وصور ومرتسمات كثيرة. وقبيل أن يحين موعد عودتي الى العراق، اقترح الصديق بلند أن نقوم بزيارة أدونيس، الذي كان يومذاك يسكن في الجبل. ولم تكن بيني وبينه معرفة شخصية. وصعدنا الجبل في سيارة بلند الصغيرة الخضراء، التي لا اذكر طرازها. وكان لقاء أدونيس ودياً جداً. وأمضينا سهرة جميلة أمام مائدة حافلة بالاطايب، تخللتها مختارات من الموسيقى الكلاسيكية، أذكر من بينها كونشرتو الكمان الأولى لباغانيني، وكانتاتا كارمينا بورانا لكارل أورف. وأذكر أن أدونيس أكد لنا أنه كان يتمنى لو أن الاخوين رحباني يستلهمان هذا العمل في تآليفهما، أو لعله فاتحهما بهذه الرغبة. وأحبّ أدونيس أن يبقي عنده مخطوطة"الاطروحة الفنطازية"ليقرأها، بعد أن أثارت اهتمامه. ولم يكن أمامي سوى يومين للسفر، فاتفقنا على أن نعود لاستلام المخطوطة في اليوم التالي. وفي اليوم التالي سلمني أدونيس المخطوطة، وهو يعرب عن أسف زوجته، السيدة خالدة سعيد، لأنها لم يتح لها أن تقرأها. في غضون ذلك، كنت التقيت - في شارع الحمرا - مصادفة بصديقي منذ أيام الدراسة في الولاياتالمتحدة، الدكتور في الرياضيات، وليد السلام، الذي كان يمضي سنة ساباتية في جامعة بيروت الأميركية قادماً من جامعة ألبرتا في كندا. وعندما قرأ المخطوطة لفت نظري الى كتاب رياضي مهم يقتني نسخة منه في بغداد، وخولني بأن أتسلمه من اقاربه وأحتفظ به. وكان هذا الكتاب، وعنوانه"عالم الرياضيات"مفيداً جداً، ألهمني في عدد من الأفكار والاستطرادات، مع أن مصادري الأخرى لم تقل أهمية. وبعد إعداد الكتاب من جديد، قدمته الى وزارة الثقافة والاعلام في بغداد، فطبع - في 1971 - طباعة أنيقة ضمن سلسلة الكتب الفنية. ولقي الكتاب اهتمام المثقفين من القراء بصفة خاصة، لا سيما المهندسين الذين وجدوا لذة في قراءة المعادلات الرياضية بأبعادها الأخرى، مع انني حرصت أيضاً، وقدر الإمكان، على ألاّ يبدو الكتاب للقارئ الاعتيادي مملاً أو عصياً على الفهم... لكن الكتاب لم يوزع في العالم العربي، ولم يطلع عليه من غير العراقيين سوى من كان يزور العراق من المثقفين العرب في المناسبات الثقافية. لذا كانت تحدوني رغبة لاعادة طبعه خارج العراق، ليتاح لغير العراقيين الاطلاع عليه. وأذكر أن الصديق فخري كريم بادر للقيام بهذه المهمة، وذلك في احدى زياراته الى بوادبست، يوم كنت أنا مقيماً فيها. كان ذلك في اوائل الثمانينات على ما أحسب، أي قبل أن يبدأ الصديق فخري بمشروع دار المدى للنشر، بسنوات عدة. واستلم مني نسخة من الكتاب، بأمل مفاتحة الراحل ياسر عرفات، مباشرة، أو من طريق أحد المثقفين الفلسطينيين، لإعادة طبعه على نفقة منظمة التحرير. ولعل الصديق فخري كريم تحدث في هذا الشأن مع الشاعر الراحل معين بسيسو. فقد اجتذب الكتاب اهتمام بسيسو، واحتفظ بالنسخة، ولم يعدها صادرها على ما يبدو! وانتهت محاولة اعادة طبع الكتاب عند هذا الحد. والآن، بعد أن توافرت فرصة اعادة طبع الكتاب في دار المدى، تلكأت أنا في مفاتحة الصديق فخري كريم بهذه المهمة، لأنني كنت افكر دائماً، ولا سيما الآن، في اعادة كتابته من جديد، كأن احذف منه أشياء، وأضيف اليه اشياء أخرى. ومن بين الاشياء التي أريد أن أضيفها: مفهوم كل من الصفر، واللانهاية، في الرياضيات، والفيزياء، والفلسفة. وهي مهمة أقعدني عن تحقيقها حتى الآن انشغالي باهتمامات اخرى. وبهذه المناسبة اعترف بأن موضوع الصفر واللانهاية بقي من بين اهم مشاريعي المؤجلة، وأعقدها. فهما مترابطان اذا قسمنا أي مقدار على صفر، فالحاصل يساوي اللانهاية، وهما يدخلان في باب الفلسفة، وحتى الدين حين يرمز البعض الى الصفر كمقابل للبداية، أو الخلق من الصفر، مع أن هذه الفكرة يمكن أن تنطوي على مغالطة، ليس هنا مجال الدخول في تفاصيلها. لأجل ذلك أشعر أن موضوع الصفر، بصفة خاصة، ينطوي على اهمية كبيرة، وهو لذلك يبقى شاغلي، ولا بد من أن اكتب عنه، سواء ضمن طبعة جديدة للاطروحة الفنطازية، أو بصورة مستقلة... على انني اعترف بأن كتاب"الاطروحة الفنطازية"كان من أحب تسلياتي في الحياة. وهذا، أيضاً، من بين أسباب فتوري في العودة اليه الآن، لأن المزاج الراهن لا يحتمل الترف.