نائب أمير الشرقية يستقبل مدير عام هيئة التراث بالمنطقة    أمير المنطقة الشرقية يدشن منتدى "الاستثمار البيئي ويستقبل أعضاء الجمعية السعودية لكتاب الرأي    نتنياهو: لا لإنهاء الحرب.. وقف القتال مقابل إطلاق الرهائن    ميسي يسجل ثلاثة أرقام قياسية جديدة في الدوري الأمريكي    القيادة تهنئ ملك هولندا بذكرى يوم التحرير لبلاده    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة تطلق جولتها القرائية الخامسة    قارئ ألف ليلة وليلة في أمسية أدبية بتبوك    تدخل عاجل ينقذ حياة سيدة في عنيزة    "عطاء التعليمية" تدشن المبنى المطور للمرحلة الثانوية بمدارس الرواد بالرياض    جدة.. زراعة أكثر من 15 ألف شجرة خلال الربع الأول من 2024    وزير «الموارد»: استحداث 11,171 وظيفة في «السلامة والصحة المهنية» خلال 3 سنوات    السعودية تستضيف اجتماعيّ المجلس التنفيذي والمؤتمر العام ل"الألكسو" بجدة    كاسترو يكشف موقف تاليسكا وغريب من مواجهة الهلال    20 ألف مستفيد من خدمات مستشفى الأسياح    ( مسيرة أرفى ) تعلن عن إنطلاق فعاليات شهر التصلب المتعدد    "تعليم تبوك" و"أرامكو" يطلقان حملة توعوية للوقاية من الحرائق    الأمم المتحدة تكشف: آلاف السودانيين يفرون يوميا من جحيم الحرب    قوات سعودية – أمريكية تنفذ تمرين "الغضب العارم"    رونالدو: لا أركض وراء الأرقام القياسية    تنمية جازان تفعل برنامجًا ترفيهيًا في جزر فرسان    "ميدياثون الحج والعمرة" يختتم أعماله    توقعات بهطول أمطار رعدية خفيفة على معظم مناطق المملكة    المملكة تعين وتروي المحتاجين حول العالم    الإيرادات تقفز بأرباح "تداول" 122%    اللحوم والبقوليات تسبب "النقرس"    السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة منظمة التعاون الإسلامي وتطويرها    القبيلة.. وتعدد الهويات الوطنية    بأمر خادم الحرمين.. تعيين 261 عضواً بمرتبة مُلازم تحقيق في النيابة العامة    «المظالم» يخفض مدد التقاضي و«التنفيذ» تتوعد المماطلين    مسؤولون وفنانون وشعراء ينعون الراحل    البدر «أنسن العاطفة» و«حلّق بالوطن» وحدّث الأغنية    الأرصاد: توقعات بهطول أمطار على أجزاء من منطقة الرياض    السعودية.. دور حيوي وتفكير إستراتيجي    تعديلات واستثناءات في لائحة ضريبة التصرفات العقارية    «الجمارك»: استيراد 93,199 سيارة في 2023    لا تظلموا التعصب    معالي الفاسد !    عضوية فلسطين بالأمم المتحدة.. طريق الاستقلال !    «كاكا» الصباغ صرخة سينمائية مقيمة    الطائي يتعادل مع الخليج سلبياً في دوري روشن    بتنظيم وزارة الرياضة .. "الأحد" إقامة المؤتمر الدوري للقطاع الرياضي    موسكو: «الأطلسي» يستعد لصراع محتمل    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    تحت رعاية ولي العهد.. وزير الدفاع يفتتح مرافق كلية الملك فيصل ويشهد حفل التخرج    وفاة صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز آل سعود    الذهب يتأرجح مع تزايد المخاوف بشأن أسعار الفائدة    تقدير الجهود السعودية لاستقرار السوق العالمية.. المملكة تعزز تعاونها مع أوزبكستان وأذربيجان في الطاقة    رعى حفل التخرج الجامعي.. أمير الرياض يدشن مشروعات تنموية في شقراء    منح تصاريح دخول العاصمة المقدسة    الهلال يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة الأهلي    يجنبهم التعرض ل «التنمر».. مختصون: التدخل المبكر ينقذ «قصار القامة»    النملة والهدهد    لا توجد حسابات لأئمة الحرمين في مواقع التواصل... ولا صحة لما ينشر فيها    وزير الخارجية: السعودية تؤكد ضرورة إعادة هيكلة «التعاون الإسلامي» وتطويرها    محمية عروق بني معارض.. لوحات طبيعية بألوان الحياة الفطرية    "الفقه الإسلامي" يُثمّن بيان كبار العلماء بشأن "الحج"    كيفية «حلب» الحبيب !    بيان صادر عن هيئة كبار العلماء بشأن عدم جواز الذهاب للحج دون تصريح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سركون بولص وبلاغة أمة مقهورة
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 2007

يذهب الكل ولكنه يبقى الاسم... هكذا قال سركون بولص في إحدى قصائده، فهل كان يفكر باسمه الغريب عن اللغة التي كان يكتب بها، سيكون هذا هو اكتشافه الأخير في ساعة خمود الأمة الأخرى التي كتب بلغتها، وهو المولود في الخزي الأكبر: إفلاس الاستقلال، وإفلاس الدولة، وإفلاس الأمة، ففي العام 1933 قررت الدولة العراقية قتل الآشوريين وتشريدهم وهم بناة العراق القديم، وفي العام 1965 أراد سركون بولص وظيفة في وكالة الأنباء العراقية فرفض طلبه لأن الدولة ذلك الوقت لا تسمح للآشوريين بالعمل في وكالة الأنباء أو التعليم أو الجيش، فهل هبط إلى اللغة الأخرى بياقة زائفة؟ كان عليه أن يجد نفسه معدوماً وسط دولة من المحاربين، دولة من السياسيين الموسوسين، والمكبلين بالطائفية.
هكذا عاش سركون بولص في العراق، عاش في عدم الأمة المقهورة وكان عليه أن يكتب شعره بلغة الأمة القاهرة، كتب شعره باللغة ذاتها التي كتب بها قرار تشريد الآشوريين وقتلهم ونفيهم، كتب باللغة التي قررت المصير المأسوي لهويته، وكان من القوة بحيث استطاع أن ينكر عدمه، أن ينكر نفيه في لغة الآخر، ليجعل من قصيدة النثر نوعاً من بلاغة الأمة المقهورة بلغة الأمة القاهرة، ومن ثم أن يجعل من خطاب النثر توحداً للمقهورين من كل الأمم، حتى مقهوري الأمة القاهرة، عبر نقوش، وصور، واستعارات من أعلى المجتمع ومن أسفله، عبر توثيق للحياة اليومية من مؤرخ ملهم، أو من ناسخ scribe متورط في الحوادث التاريخية، وهكذا كانت قصائده تسير، لا على الأفكار المتعالية من الفلسفة، والأفكار الغامضة من الوجود والعدم فقط، إنما من صبيان الفرانين، ومن الفلاحين في الشمال، ومن صناع الأحذية، من الكوازين، من المتقاعدين، ومن الأماكن المجروفة التي جاء قرار تشريد سكانها ونفيهم.
كان سركون بولص يدرك وهو في ذروة نفيه وعدمه، كان يدرك وهو في أعلى درجات إقصائه وتهميشه معنى توحده مع النثر، كان يدرك حتى اللحظة الأخيرة أن خروجه عن الإيقاع الثابت هو شكل من أشكال الخروج عن الثابت الذي يؤكد حضور السلطة في المركز، المركز الذي يؤكد إقصاءه وتهميشه، وكان يكتب بلغة المركز ولكن بعد حرفها وميلانها عن مركزها لا في إقصائها عن الإيقاع والمحددات الوزنية والكمية فقط، إنما في تغريبها عن سياقها وإنشائها، في تغريبها عن البلاغة الباقلانية ودفعها شيئاً فشيئاً نحو البلاغة الحديثة للغة المترجمة، كان سركون بولص يكتب بلغة مقتلعة تشبه لغة النصوص المترجمة أكثر من شبهها باللغة العربية السياقية، وهو نوع من التغريب داخل اللغة ذاتها، إنها نوع من البحث عن هوية مخالفة تشكل نفياً للغة المعيارية وتغريباً لها، فالتغريب هو قطيعة بامتياز، والقطيعة تجسد بصورة حقيقية لا استعارية فقط فكرة الحداثة، فقصيدته هي نوع من الحذف التدريجي للغة المعيارية، نوع من الحذف المنظم للاستعارة الدارجة، حيث تذهب القصيدة على الدوام إلى ما هو مدهش بلا زينة، بلا كبرياء، وبحياد كامل، لغة تذهب على الدوام إلى ما هو مدهش ومحايد، لأن نسق اللغة عنده، يرتكز على نوع من الصراع بين ما هو رغبة بالبوح وخوف منها، بين ما هو إشارات عابرة على الدوام، وجمل مرتخية وقابلة للمعنى تقريباً، بين ما هو ملاحظات عاطلة عن التصريح وعن المعنى الصريح وما هو معنى مطلوب ومرتجى يمكن التقاطه بسهولة.
إنه المعنى الذي يستمده من التاريخ التراجيدي لهوية أمة مقهورة... فخيار سركون بولص للقصيدة الهامشية هو توافق لهامشيته وإقصائه، إنه ممارسة أخرى ولعب بلغة أخرى... فهذه الأمة التي حافظت على لغتها القديمة اختارت المسيحية ديناً لها، والمشكلة أن هذه الأمة المنشقة لم تختر المسيحية في إطارها وانتشارها الكوني، إنما اختارت النسطورية، الفكرة الشقاقية التي لا تعترف لا بالتجسيد ولا بالتثليث، فنفيت حتى من المسيحية ذاتها، أما الشعوب الأخرى، فقد مزقت هذه الأمة المتمردة وذبحتها حتى ولغت في دمها، فقد ذبحتها الكتائب الفارسية حتى أنهت كيانها السياسي، وذبح الأتراك بقايا الآشوريين المشردين أصلاً وشردتهم مرة أخرى، إلى إيران والعراق، ثم ذبحهم الأكراد واغتصبوا نساءهم وصادروا أراضيهم، وأخيراً ذبحتهم الدولة العراقية مع العام 1933 في منطقة سميل والقرى المحيطة بها، صور سركون بولص مسيرة تشرد هذا الشعب وتمزقه من الأناضول إلى همدان، بكتابة هي أصلاً ضد الكتابة، لأنها ضد الموت، وهي بلغة الموت أيضاً. ولم تكن غايته هي غاية شعرية فقط إنما هي غاية وجود، لأن لغته القومية هي صدع في تاريخ وجودنا برمته، وهي المنفى بامتياز في تاريخنا. فكان يصنع الصورة من الكلمات، الصورة الحسية المتجسدة بقوة، يصنع اللغة المتدفقة عبر الألم، طالما هو يصنع اللغة التي تضيء، وتتمخض عن تيهان أمة في ردهات المجازر والاستئصال. طالما هو يكتب بالنار، أو بالرماد الغامض، طالما هو يضيء زاوية من التاريخ، حيث أمته كانت ترتمي في المجزرة السوداء، طالما ذاكرته تستيقظ وهو يسرد بصمت كامل، ويعرض علينا النساء المغتصبات محمولات على المحفات.
قدر الشعر هو قدر سركون بولص ذاته، قدر قصيدة النثر هي قدره، الشاعر الذي يقوم على خلخلة اللغة، معيد توقيتها مثل الساعة، مخطط الفكرة مثل مخطط الثورة، مطعم النص بالعقلانية المختلة، مصلح الحياة بروح الكلمة، الشاعر - المقذوفة صورته من غابر التاريخ إلى الحياة المعاصرة، المؤرخ الذي صنع من السوداوية بديلاً من الفرح الذي لم يطل زمنه.
نصوص سركون بولص هي إيذان بخروج القصيدة من عالم الهوية الخاصة إلى عالم الهوية الكونية، من العالم الضيق إلى العالم المفتوح، إنها عالم الحياة كما هي عالم اللغة، اللغة التي طوعها في نصوصه، اللغة التي أعاد اكتشافها مع كل نص، فاتحاً أمامها إمكانات غامضة، فحقيقة اللغة لا تتكلم إلا من ظل اللغة، وهكذا أعاد لظلال اللغة نصاً غائباً وهو يقلب نظامها الحقيقي واستعاراتها، دامجاً إياها مع اللغة المترجمة. إنها اللغة التي كتب بها قصائده: لغة تثبت وتقيس، لغة تصرح وتضمر، لغة معطى ولغة ممكن، لغة فوران حقيقي وهدوء قدري، لغة تعكس التحول الحقيقي في الذائقة والوجدان، لغة انسجام وغائية باطنية، لغة ارتياب حقيقي وهي تعدنا بشيء سيأتي ولا يأتي. لقد كتب سركون بولص قصائده بلغة كثيفة، لغة ترن مثل إناء مجوف، كتب نصاً يغور بشكل لا يقاوم، لا يستقر، لكنه طليق، لا يمنح نفسه ولكنه متفجر، متفجر لأنه يصل كل منطقة غير منتظرة.
أخيراً مات سركون بولص، مات هذا الشاعر الاتنولوجي بامتياز، هذا المختص بذكريات الأمم المقهورة، هذا الذي دفع من دمه ولحمه بناء الحكاية، وكان يدرك هذه اللعنة، لعنة الكتابة بلغة الآخر، ولم يتوقف إنما اتبع عقابه إلى الأبد، هذا العقاب الذي ذهب معه إلى منتهاه وهو يتألم منه، مات هذا الشاعر الذي ذهب مع لغة الاجتثاث، حيث استخرج منها معنى مسروراً وضاحكاً، غائراً وخائفاً، أنانياً ومهووساً، إنه بطل السقوط باحتراف كامل، بطل سقوط أمة، منذ نهاية كيانها السياسي، منذ أن أصبحت نهباً للأمم الأخرى.
* كاتب عراقي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.