إذا كان ثمة أمور كثيرة يمكن اعتبارها مشرّفة للفن السابع، الفن الأكثر تقدمية والأكثر إنسانية في طول القرن العشرين وعرضه، على رغم كل شيء، فإن مما يشرف هذا الفن في بعده الأميركي هو انه عرف كيف يقف دائماً ضد الحروب. ليس دائماً ضد حرب محددة، ولكن ضد الحروب عموماً، بوصف الحرب في نهاية الأمر فعل قتل وتدمير للإنسان بصرف النظر عمن ينتصر فيها أو يُهزم. وكثر يتناسون، عادة، هذه الحقيقة ليأخذوا على سينما أميركية يتخيلونها لأنفسهم بأنفسهم كونها مجدت الحروب والبطولات الحربية. هذا قد يكون صحيحاً، لكننا نعرف ان من بين معظم الأفلام الحربجية التي حققت في هوليوود، كانت نادرة تلك التي عاشت حقاً واعتبرت تحفاً. هذه الأفلام نظر اليها على انها شرائط مغامرات ودعاوة ايديولوجية. أما الأخرى، الأكثر أهمية، والأكثر بقاء وبالتالي تأثيراً في تاريخ السينما وتاريخ الفن عموماً فكانت أفلاماً ضد الحرب، ضد القتل وتقف الى جانب الانسان. وحسبنا أن نذكر هنا أن واحداً من أوائل الأفلام"الحربية"التي حققت بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية كان"خبزنا كفاف يومنا"الذي صور بؤس الجنود العائدين من الجبهة... بؤسهم على رغم انتصارهم في تساؤل واضح هو: هل ثمة في الحرب من منتصر حقاً؟ غير ان السينما الحربية الأميركية، كان عليها أن تنتظر انقضاء حرب فيتنام، أو مرور سنوات على بداياتها، حتى تقوم بانتفاضتها الكبرى، الانتفاضة التي عبر فيها كبار المبدعين عن موقف معادٍ تماماً للحرب، ولا سيما للحرب الظالمة التي شنتها أميركا ضد فيتنام، وستنتهي - كما نعرف - بإخفاق أميركي تام. سينما حرب فيتنام كانت الامتحان الأكبر والأصعب الذي خاضه السينمائي الأميركي بحثاً عن براءته وإنسانيته. ويقيناً ان هذا السينمائي نجح - غالباً - في امتحانه. صحيح انه كانت هناك أفلام مجدث الحرب والعدوانية الأميركية، لكنها كانت نادرة، ولعل أشهر علاماتها الفيلم السخيف"القبعات الخضر"لجون واين. لكن هذا الفيلم وقبضة من أفلام اخرى مماثلة له، لم يكن سوى الاستثناء الذي أكد القاعدة: القاعدة التي فحواها ان السينما الأميركية كانت صاحبة فضل كبير في فضح عدوانية الجيش الأميركي والتنديد بالنزعة العسكرية للسلطات الأميركية المتعاقبة. نقول هذا ونفكر طبعاً بأفلام لبيتر واتكنز "ميدان العقاب" وفرانسيس فورد كوبولا "حديقة الحجر"وپ"يوم الحشر الآن" وأوليفر ستون "بلاتون" ثم"سترة معدنية"لستانلي كوبريك. ومع هذا يظل الفيلم الأشهر عن حرب فيتنام وقسوتها، ليس على ضحاياها فقط، بل على"جلاديها"أيضاً، فيلم مايكل تشيمنو "صائد الغزلان". ذلك أن هذا الفيلم وأكثر، ربما، من أي فيلم آخر، عرف كيف يصور معاناة الإنسان كل إنسان أمام الحرب كل حرب من خلال تجربة جنود أميركيين انتزعوا من حياتهم الهادئة وحبيباتهم وديارهم ليرسلوا الى ما يبعد ألوف الكيلومترات ليقتلوا أناساً لم يسبق لهم أن آذوهم أبداً. ذلك هو الدرس الأساس الذي أراد مايكل تشيمنو أن ينقله الى متفرجيه بقوة وعنف وإن بقدر لا يستهان به من الالتباس أيضاً. الالتباس الذي جعل كثراً يسيئون فهم الفيلم، ما أثار في وجهه - في ذلك الحين، أي في أواخر سنوات السبعين من القرن العشرين ألف ضجيج وضجيج. "صائد الغزلان"هو، وقبل أي شيء آخر، فيلم لا يؤمن بالأسود والأبيض. أو لنقل بالأحرى انه، إن دنا منهما فإنه يضع الضحايا من الفريقين في كفة والجلادين في كفة أخرى. وبالنسبة الى الفيلم، الضحايا ليسوا فقط من الفيتناميين المعتدى عليهم، أميركياً، بل ثمة ضحايا أميركيون أيضاً. ثمة ضحايا من بين أولئك الشبان الذين تنتزعهم لعبة الأمم والجيواستراتيجيات من براءتهم لتحولهم مجرمين قتلة. وفي ذلك الوقت المبكر كان من الصعب على المتلقين في العالم ان يفهموا هذا البعد. ومن هنا شكل"صائد الغزلان"صدمة حقيقية. والفيلم يبدأ من بلدة صغيرة في ولاية بنسلفانيا الأميركية تدعى"كلايتون". في تلك البلدة يعيش رفاق ثلاثة من الطبقة العاملة عيشاً هادئاً بين مصنع التعدين، حيث عملهم، والغابات حيث يصطادون الغزلان. انهم مايكل ونيك وستيفن الذين بالكاد يعرفون شيئاً عن العالم خارج ديارهم. ومن بينهم ها هو ستيفن يستعد للاقتران من حبيبته انجيلا الحامل منه. والكل يستعد لحفل الزواج ولا سيما صديقان آخران للمجموعة هما ستان وأكسل. لكن حرب فيتنام كانت بدأت تلوح في الأفق. وها هم الرفاق يجندون مثل غيرهم من الشبان الأميركيين لنلتقي بهم معاً بعد زمن وقد غاصوا في المستنقع الفيتنامي... بل أكثر من هذا: ها هم الرفاق الثلاثة أسرى لدى الفيتكونغ. وهؤلاء يمارسون عليهم، كجنود اميركيين معتدين شتى انواع التعذيب بما في ذلك جعل الواحد منهم مستعداً لقتل رفيقه لكي ينجو. بعد ذلك يتمكنون من الهرب... لكن الثمن كان باهظاً... وليس فقط على الصعيد الجسدي. بعد هربهم سنلتقيهم بين سايغون وديارهم، أو سنلتقي من يبقى منهم، ذلك أن ستيفن كان قد فقد ساقيه، فيما فشل نيك في متابعة طريقه الى أميركا هالكاً في عاصمة فيتنام الجنوبية. أما مايكل فإنه يبقى وحده شاهداً متورطاً على ما حدث. انه الوحيد الذي يعود حقاً الى الديار... لكنه، أيضاً، الوحيد الذي يعيش كي يدفع الثمن. والثمن لن يطفو أول الأمر على السطح، بل سيكون متمسكاً بعمق أعماقه: ألماً داخلياً يعتصره الى الأبد، مكبلاً حياته ممسكاً في كل لحظة بخناقه، كاشفاً إياه أمام نفسه في لحظات وحدته. ان مايكل يرمز هنا طبعاً الى أميركا التي اعتقدت نفسها منتصرة في حرب فيتنام، لكنه يمثلها في الحقيقة في وهدة هزيمتها. بالنسبة الى مايكل لا يعود شيء كما كان في السابق، براءته انتهت. حياته انتهت. روحه انتهت. حتى وإن بقي منه الجسد يتمتع بما يمكن من ملذات الحياة، ولكن حتى هنا على حساب آلام رفاقه. ان بقاء مايكل نفسه يبدو وكأنه يطرح السؤال الخالد عن أي مجد للمنتصر؟ وهل الانتصار شيء آخر غير السير فوق جثث الآخرين كل الآخرين... بل على جثث الرفاق أكثر مما على جثث الأعداء؟ تلكم هي الأسئلة الأساسية الحادة والشائكة التي يطرحها مايكل تشيمنو في هذا الفيلم. ولأن الزمن الذي عرض فيه هذا الفيلم كان لا يزال زمن شعارات رنانة وصراخ نصر مدوٍّ، ازداد سوء التفاهم من حول"صائد الغزلان"حدة وخطورة. ذلك ان القوى المتنوعة من حول الحروب، سواء أكانت أميركية"عدوانية"أو تقدمية"منددة بالعدوان والامبريالية التي تشنه"، كانت لا تزال متمسكة بيقينات قاتلة. أما تشيمنو، وكما كان يجدر بالفنان الحقيقي أن يكون، فكان لا يرى أي يقين. كان القلق والسؤال عالمه وهاجسه. لكنه مع هذا عرف في الفيلم كيف يوازن بين القسوة والعاطفة، في شريط عرف في نهاية الأمر كيف يقول وحده، كل تلك الحرب بل كل الحروب. وهو، بدلاً من أن يستعرض أهوال الحرب في مناخاتها الصاخبة، آثر أن يصور أهوالها الداخلية، تأثيراتها في الروح. ومن هنا كان"صائد الغزلان"عملاً قاسياً حقيقياً وصادقاً. والحقيقة ان هذا لا يمكننا اكتشافه إلا على ضوء ما آلت اليه الحروب اللاحقة، حروب كل أنواع العدوانيات والحماقات والمغامرات، التي لم تتوقف عن الاندلاع في هذا العالم، مجددة رعب التاريخ بعد أن كان واحد من المفكرين المستعجلين تنبأ مع انتهاء الحرب الباردة، بأن التاريخ قد انتهى، زاعماً أن لا مكان للحروب وأهوالها في عالم اليوم والغد. ويقيناً ان هذا المفكر فهم كل شيء إلا حماقة البشر... تلك التي كان مايكل تشيمنو مواليد 1943 من الذين أدركوها باكراً.