حظر «الرموش الصناعية» على العاملات في تحضير الأغذية    هيئة الصحفيين السعوديين يقيم ندوة "المواقع الإخبارية التحديات والآمال"    جامعة الملك سعود تُتوّج ببطولة الرياضات الإلكترونية    الخليج يطرح تذاكر مواجهة الاتحاد .. في الجولة 32 من دوري روشن    عساك «سالم» يا عميد    الجدعان يرأس وفد المملكة في اجتماع المجلس الاقتصادي والاجتماعي التحضيري للقمة العربية ال 33    «الإسلامي للتنمية» يصدر صكوكاً بقيمة مليارَي دولار أمريكي خلال الربع الأول من هذا العام    نحو سينما سعودية مبهرة    البصمة السينمائية القادمة    سلمان بن سلطان يرعى حفل تخريج الدفعة ال 20 من طلاب وطالبات جامعة طيبة    برعاية ولي العهد.. قمة عالمية تبحث مستجدات الذكاء الاصطناعي    50 مليار دولار فرص استثمارية بمطارات المملكة    681 مليون ريال انخفاض مبيعات النقد الأجنبي بالمصارف    سيدات الأهلي يحصدن كأس الاتحاد لرفع الأثقال    طائرة الأخضر إلى نهائيات كأس آسيا    تحسينات جديدة في WhatsApp    الذكاء الاصطناعي يتعلم الكذب والخداع    نسيا جثمان ابنهما في المطار    إبادة بيئية    جامعة «مالايا» تمنح د. العيسى درجة الدكتوراة الفخرية في العلوم السياسية    إنقاذ ثلاثيني من إصابة نافذة بالبطن    مواد مسرطنة داخل السيارات    وفاة أول زارع كلية خنزير    انتخابات غرفة الرياض    جدة .. سحر المكان    تطوير 12 مشروعاً للعوالم الافتراضية    نائب أمير الرياض يرعى حفل تخرج طلبة كليات الشرق العربي    سنابل (روشن) زرقاء..!    أرتيتا يحلم بتتويج أرسنال بلقب الدوري الإنجليزي في الجولة الأخيرة    أرسنال يسقط اليونايتد ويستعيد الصدارة    استقبل محافظ دومة الجندل.. أمير الجوف يشيد بجهود الأجهزة الأمنية والعسكرية    بعض الدراسات المؤرشفة تستحق التطبيق    " الأحوال" المتنقلة تواصل خدماتها    محافظ جدة يدشن مبادرة " العمل والأسرة"    تدريب 18 ألف طالب وطالبة على الأمن والسلامة في الأحساء    «الأحوال المدنية المتنقلة» تقدم خدماتها في 48 موقعاً    هنأت رؤساء روسيا وقرغيزيا وطاجيكستان.. القيادة تعزي ملك البحرين ورئيس الإمارات    رعى حفل الأهالي وتخريج الجامعيين.. أمير الرياض يدشن مشروعات في المجمعة    أمير تبوك يطلع على إنجازات "التجارة"    مركز الملك سلمان يواصل مساعداته الإنسانية    كبسولة السعادة .. ذكرى ميلادي الرابعة والأربعون    تنمية المواهب في صناعة الأزياء محلياً    لؤلؤ فرسان .. ثراء الجزيرة وتراثها القديم    أمير نجران يكرّم المتميزين في «منافس»    إنهاء إجراءات المستفيدين من مبادرة طريق مكة آليًا    مختبرات ذات تقنية عالية للتأكد من نظافة ونقاء ماء زمزم    القوات المسلحة تشارك في«الأسد المتأهب» بالأردن    تحضيري القمة العربية يناقش خطة فلسطين للاستجابة الطارئة    نائب أمير الشرقية يستقبل مدير فرع عقارات الدولة    روتين الانضباط وانقاذ الوقت    المراكز الصحية وخدماتها المميّزة    نيابة بمطار الملك خالد على مدار الساعة    نائب أمير مكة يناقش مستوى جاهزية المشاعر لاستقبال الحجاج    سمو أمير منطقة تبوك يترأس اجتماع لجنة الحج غداً    الأرصاد: استمرار التوقعات بهطول الأمطار على عدد من المناطق    الماء    طريق مكة    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ عبدالله بن سلمان بن خالد آل خليفة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سينما الحرب من "كاميريا" و"مولد أمة" الى "بيرل هاربور" و"انقاذ المجند رايان" . الأفلام حين تعكس تاريخ الحروب والأميركيون حين يكونون الأقدر على النقد الذاتي
نشر في الحياة يوم 12 - 10 - 2001

منذ كانت السينما، مع نهايات القرن التاسع عشر، كانت الحرب واحداً من مواضيعها الأثيرة، ولنتذكر هنا "كابيريا" و"مولد أمة" و"تعصب"، والروائع الروسية مثل "الدارعة بوكمكين" ثم "الكسندر نفسكي"... و"انقاذ الجندي رايان" و"يوم القيامة الآن". مروراً ب"حروب النار" و"الوهم الكبير" و"أفضل سنوات حياتنا"، و"ثلاثة ملوك" و"بلاتون" وصولاً الى "بيرل هاربر"... لنكتشف كيف ان كل الأزمان، وكل حروب الأزمان، عرفت كيف يكون لها صدى في السينما. ولا سيما في السينما الأميركية، التي ستظل، الأكثر قدرة جمالياً، ولكن أيضاً فكرياً... وبخاصة في مجال النقد الذاتي.
اليوم، هناك حرب جديدة تندلع، والسؤال: في خضم الصورة الغامضة للحرب الجديدة، هل سيقيض لهذه الحرب أن تكون لها أفلامها؟ لعله من المبكر طرح هذا السؤال... ولكن ذلك لا يخرج عن سياق التاريخ الطويل، الذي نستعرض في بعضه هنا، العلاقة بين السينما والحرب.
عندما اندلعت حرب الخليج الثانية التي شنت فيها قوات التحالف الدولي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية هجمات لإخراج القوات العراقية من الكويت، ومن ثم "الحد من قدرة جيش صدام حسين على القيام باعتداءات أخرى"، كان من الصعب تصور أن تكون تلك الحرب صالحة لمادة سينمائية، بالنسبة الى المراقبين، كانت حرباً من دون وجه، حرب شاشات تلفزيونية من الصعب العثور فيها على جوانب درامية انسانية. والحال ان مثل هذه الجوانب كانت دائماً عنصراً أساسياً في تلك السلسلة الطويلة من أفلام الحروب، من دونها يصعب على فيلم حربي ان يكون مقنعاً، أو مسلياً، أو مؤثراً. غير انه ما ان مضت سنوات قليلة على تلك الحرب، حتى تمكن المخرج الأميركي راسل تايلور، من العثور على موضوع يتحدث عن تلك الحرب. وكان فيلم "الملوك الثلاثة" ذو الحبكة الملتبسة والسمات الغاضبة ضد الحرب. كان الفيلم نمطياً هوليوودياً، استعاد ذلك الحس المدين في شكل عام للحروب، منطلقاً من أن كل حرب، مهما كانت درجة عدالتها، تحمل قدراً من الظلم لضحاياها، ولكن حتى لمن يشنها!
اليوم يكاد الأمر نفسه ينطبق على هذه الحرب الجديدة: أولى حروب القرن الحادي والعشرين، الحرب التي، مرة أخرى، تشنها أعظم وأحدث الأجهزة التكنولوجية في العالم، ضد أشباح يبدون وكأنهم آتون مباشرة من ادغال العصور الوسطى. نكتب وهذه الحرب، حرب أفغانستان التي تشنها قوات التحالف الدولي، بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، ضد "البنى التحتية" لحركة "طالبان" الحاكمة في أفغانستان، والحامية لمنظمة اسامة بن لادن الارهابية.
اليوم من الصعب تصور القدرة على تصوير هذه الحرب سينمائياً. فهي، حتى اليوم، تبدو من دون وجه. من دون موضوع. من دون دراما أو اثارة. هل ستبقى كذلك لفترة طويلة؟ لا أحد يمكنه ان يجد جواباً. ولكن الأمر الوحيد المؤكد، هو ان السينما سوف تنتهي الى أن تعثر على موضوعها، وأكثر من هذا: على صورها. ذلك ان الحرب هي أولاً، صورة، ثم موضوع. ونعرف ان السينما عرفت دائماً كيف تعثر على ما تحتاج اليه من صور ومواضيع، وان بصعوبة. وسينما الحرب أكفأ من غيرها في هذا المجال.
بين الفن والايديولوجيا
إذا استثنينا موضوعة الحب، التي تهيمن عادة، أو تطل برأسها أحياناً من خلال، الغالبية العظمى من أفلام السينما، يمكننا ان نقول ان موضوعة الحرب كانت - ولا تزال - الشغل الشاغل لنسبة كبيرة من آلاف الأفلام التي حققت طوال القرن العشرين، عصر السينما بامتياز. بل ليس من المبالغة القول ان السينما، الأميركية وغير الأميركية، تبدو وكأنها سجلت الحروب كلها، منذ أقدم الأزمنة، وحتى اليوم... وأكثر من هذا لم يفتها ان تتحدث عن حروب المستقبل. والمهم في هذا كله هو ان الجمهور تبع دائماً ذلك الدفق. وأفلام الحرب تبدت دائماً ناجحة. دموية ولكن ناجحة، مؤلمة ولكن ناجحة. وليس من الصعب، طبعاً، ادراك الأسباب السيكولوجية العميقة التي تكمن وراء تلك الرغبات الجامحة التي تدفع المتفرجين، بعشرات الملايين الى صالات السينما لمشاهدة أفلام الحرب، في تنوعها التاريخي والايديولوجي. فمن ناحية هناك فكرة التعويذة أشاهد الحرب على الشاشة لكي أتفادى مشاهدتها في الواقع، وفكرة التلصص أشاهد الدماء والقتل والخراب وأنا آمن في مقعدي، اضافة الى عناصر أخرى أقل سيكولوجية، كحب التعرف والفضول والنزعة الوطنية وما الى ذلك.
في هذا الإطار، وعلى عكس ما هي الحال بالنسبة الى أنواع سينمائية أخرى البوليسية، التشويقية، الرومانطيقية، الميلودرامية، الكوميديا الموسيقية، رعاة البقر، التاريخية... الخ، من الواضح ان أفلام الحرب ليس لها موسم معين. كل المواسم مواسمها. ولا فائدة هنا في البحث في أي سياق تسلسلي.
ولئن كانت الحرب شكلت موضوعاً أثيراً في شتى السينمات القومية في معظم بلدان العالم ومناطقه، وكانت أفلامها أبرز أفلام تلك السينمات سواء كانت حروباً معاصرة، أو حروباً تاريخية، من المؤكد ان السينما الأميركية تظل في هذا المجال السينما الأكثر بروزاً، الى جانب بعض السينمات الأوروبية. بل الأكثر أهمية أيضاً، وذلك لسبب قد يبدو هنا غامضاً بعض الشيء هذا هو قدرة السينما الأميركية، أكثر من أي سينما قومية أخرى، على ان تنظر الى الحرب، حتى ولو كانت "حرباً وطنية" تشكل جزءاً من التاريخ الرسمي للبلد، نظرة محايدة موضوعية، ان لم يكن نظرة ناقدة، وبعنف، كما سنرى.
الحرب في بعدها الفردي
السينما الأميركية - والانكلوساكسونية في شكل عام، اكسسوارياً مع صعوبة التفريق أحياناً بين السينما الأميركية والانكليزية في هذا المجال، واكبت الحروب كلها وأرخت لها، ولكن غالباً انطلاقاً من العنصر الفردي، الحرب كما ينظر اليها الفرد، كما يعاني منها الفرد. وعموماً، كما يخوضها الفرد، حتى إذا كانت الحرب حرباً عامة وجماعية، فإن السينما الأميركية عرفت دائماً - وهنا يكمن سحرها - كيف نحولها الى قضية فردية. وفي هذا التحويل نفسه، كمن القسم الأكبر من حس النقد الذي به جابهت السينما الأميركية مفهوم الحرب وواقعها. فهل نحن في حاجة هنا، حقاً، الى التذكير، بأن آخر الأفلام الحربية الكبيرة، زمنياًَ، في تاريخ السينما الأميركية كان "انقاذ المجند رايان" لستيفن سبيليرغ، هذا الفيلم الذي أوصل النظرة الفردية الى الحرب، الى الذروة، حين حول جزءاً قاسياً وعنيفاً من الحرب، الى مجرد مهمة هدفها انقاذ مجند فرد من أتون الحرب، لمجرد ان أمه كانت فقدت أبناءها الآخرين؟
"انقاذ المجند رايان" فيلم حربي، لكنه أيضاً فيلم ايديولوجي، ونزعته في الدرجة الأولى انسانية، المتفرج العادي قد يصعب عليه ان يصدق هذا الجانب من احداث الفيلم. ولكن ألم يحدث هذا حقاً في الواقع؟ وألم يستقي سبيلبرغ أحداث الفيلم من حكاية حصلت حقاً؟
في جانبه الآخر، الأقل ايديولوجية وانسانية، يُنظر الآن الى فيلم سبيلبرغ هذا باعتباره من أفضل الأفلام الحربية في تاريخ السينما، وكأفضل فيلم أنجز عن الحرب العالمية الثانية، وتمكن من التعبير - ولو فقط خلال ثلث الساعة الأول منه - عن الحرب كمجزرة تختلط فيها الدماء والأجساد والضحايا بحيث يصبح من الصعب البقاء عند القسمة "المانيكية" بين الصديق والعدو، الطيب والشرير، الحرب، خلال تلك الدقائق القاسية مجزرة عامة، لا وجه لها، لا لون لها، لا طعم لها سوى الموت. وفي يقيننا ان سبيلبرغ قال في تلك المشاهد ما كان يجب عليه أن يقوله ضد الحرب، وضد الموت الذي لطالما صرخ المبدعون في وجهه "أيها الموت... أين هو مجدك".
حرب فييتنام: النقد الذاتي
في هذا يكون سبيلبرغ قد انضم، شاء أم أبى، الى زملائه من مبدعي الموجة الانتقادية في السينما الأميركية، وقال، بالصورة الملموسة، وتقريباً من دون أي شرح أو تعليق، ما كان أمثال فرانسيس فورد كوبولا واوليفر ستون وستانلي كوبريك، ومايكل تشيمينو، ولا سيما بيتر واتكنز، قد قالوه من قبل. صحيح ان أفلام هؤلاء الرئيسة تعاملت مع حرب فيتنام بخاصة، تعامل الرفض والفضح، غير ان شمولية الموقف في أفلام مثل "حديقة الحجر" و"يوم القيامة الآن" كوبولا، و"صائد الغزلان" تشيمينو و"بلانون" و"مولود في 4 تموز" ستون و"غطاء معدني كامل" كوبريك... الخ، تقترح علينا ان ما يقال عن الحرب هنا، يمكن ان يقال عن الحرب في كل مكان وزمان: الرفض المطلق، الادانة من دون استئناف، وصولاً الى القول بأن ما من قضية، مهما كانت عادلة تبرر موت انسان بريء، أو طفل، أو حتى مجند اقتيد قسراً الى القتال.
لا يمكن القول، طبعاً، ان هذا الوعي الإنساني بلا جدوى الحرب، وبأنها مجرد حفلة قتل، لم يولد الا بعد حرب فيتنام، التي رأى فيها المبدعون، الأميركيون بخاصة، فرصة سانحة للتنديد بالحروب كلها، غير ان حرب فيتنام، لأنها كانت عبثية، وحرب هزيمة - بالنسبة الى الأميركيين - أطلقت من عقالها كل تلك المشاعر المناهضة للحرب، التي كانت تطل برأسها، سواء بشيء من الخجل، أو وسط رفض قومي عام، في أفلام رواد رأوا باكراً - من دون ان ينتظروا الهزيمة - ان عليهم ان يرفضوا الحرب. ومن هؤلاء ستانلي كوبريك، الذي منع فيلمه "دروب المجد" في فرنسا، لأنه "جرؤ" على ادانة النزعة العسكرية الفرنسية خلال الحرب العالمية الأولى، وويليام وايلر في "أفضل سنوات حياتنا" الذي يرسم بسخرية وقلق مصير جنود أميركيين يعودون الى الوطن بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية ليجدوا ان حياتهم وشبابهم ولّيا، وانه لم يعد لهم مكان حقيقي في المجتمع. ومن هؤلاء أيضاً لويس مايلستون الذي اقتبس بنجاح، واحدة من أعظم روايات مناهضة الحرب: "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" لاريك ماريا ريماركي... الخ.
انها أكثر الأفلام
لقد كان هؤلاء وعشرات غيرهم، جزءاً من موقف المبدعين ضد الحرب. فهل نحن في حاجة الى أن نذكر بأن المبدعين - ولا سيما السينمائيين منهم - قد وقفوا دائماً ضد الحرب؟
ان القول ان عدد الأفلام السينمائية المتحدثة عن الحرب، يفوق، قطعاً، عدد الأفلام المتحدثة عن أي موضوع آخر، لا يعني بالطبع ان السينما مجدت الحرب... يعني، الى حد كبير، انها وقفت ضدها... أو على الأقل، صورت قسوتها وعبثيتها. ولئن كان من الصعب هنا التوقف عند الأفلام كلها، لأن مجرد تعدادها قد يحتاج الى مجلدات، يمكن التركيز على الكثير من الأعمال النموذجية، على الأقل. ولعل النماذج الأهم في تاريخ سينما الحرب، هي تلك التي قد لا تشكل المعارك جزءاً أساسياً منها. هنا تكون الأفلام أكثر قسوة وفضحاًَ للحرب، لجنونها ولعبثيتها ولما تتركه من آثار سيئة على انسانية الانسان. وحسبنا هنا ان نفكر في أفلام مثل "هيروشيما ياجي" لان رينيه، و"دكتور سترانجلاف" لستانلي كوبريك، و"الساموراي السبعة" لأكيرا كوروساوا و"لورانس العرب" لدايفيد لين، و"معركة الجزائر" لجيلو بونتكورفو، وصولاً الى "الخيط الأحمر الرفيع" لتيرنس مالك...
ولو تحرينا اللائحة كاملة، سنجد ان هناك عدداً كبيراً جداً من أفلام الحروب، التي صنعت في شكل جيد، سواء أكانت مناهضة للحرب، حيادية تجاهها، أو داعية اليها. وسيبقى طبعاً، من قبيل الأسرار الغامضة ذلك الدافع الذي يجعل المبدعين السينمائيين يصلون الى قمة ادائهم حين يحققون فيلماً عن الحرب، وكذلك يفعل الممثلون، الذين يعطون عادة هنا، أفضل ما لديهم وأفكر هنا بتوم هانكز في "إنقاذ المجند رايان" ولكن ايضاً في بيتر اوتول في "لورانس" ودايفيد نيغن في "جسر على نهر كواي" وإريك فون شتروهايم في "الوهم الكبير" وفردريك مارش في "أفضل سنوات حياتنا"، وحتى في فرانك سيناترا في "من هنا الى الأبدية"... وأفكر كيف ان جوائز الأوسكار كانت دائماً في الانتظار. واللافت انه من هؤلاء، الى بيرت لانكاستر وكيرك دوغلاس وشين بن وعشرات غيرهم، ما من ممثل إلا وجرّب حظه في سينما الحرب. وما يقال هنا عن الممثلين الذكور، لا يمكن ان يقال طبعاً عن الممثلات الإناث، وذلك طبيعي لأن الحروب وقذارتها مسألة رجالية، نادراً ما كان للنساء دخل فيها، إلا إذا كنّ ممرضات جولييت بينوش في "المريض الإنكليزي" أو ملحقات بالرجال ديبورا كير في "من هنا الى الأبدية" أو ضحية للحرب سكارليت اوهارا/ فيفيان لي في "ذهب مع الريح"...الخ.
تراتبية غير ممكنة
قلنا ان هناك عدداً كبيراً جداً من الإفلام الحربية الجيدة. وهذا ما يحول طبعاً دون التمكن من القيام بوضع جردة حقيقية ترسم سلم افضلية. ومع هذا يجرؤ البعض احياناً على هذا. وفي هذا السياق مثلاً، نذكر ان مجلة "توتال فيلم" البريطانية الشعبية، عمدت منذ فترة الى إصدار ملحق. أوردت فيه - من وجهة نظرها، التي يمكن، الى حد ما، تبنيها - قائمة ب"أعظم أفلام المعارك في تاريخ السينما". وقد يكون من المفيد إيراد هذه اللائحة هنا، وقد رتبت زمنياً، لتتحدث عن الأفلام كما تناولت تباعاً، الحروب منذ أقدم التاريخ وحتى الزمن الراهن فالمستقبل.
هناك أولاً الفيلم الذي يتحدث عن حرب لا زمن لها، حرب تقف خارج كل زمن وتاريخ: "الامبراطورية تشن هجوماً معاكساً" 1980. بعد ذلك يأتي فيلم "سبارتاكوس" 1990 لستانلي كوبريك، ومن إنتاج وبطولة كيرك دوغلاس، وهو فيلم تدور احداثه في روما في العام 71 ب.م. ايام حروب العبيد ضد الامبراطورية، وتقفز اللائحة بعد ذلك نحو 12 قرناً لتصل عبر "بريغهارت - ذو القلب الشجاع" 1995 الى حروب الاسكتلنديين ضد سيطرة الإنكليز، كما تصورها ميل غيبسون، ممثلاً ومخرجاً ومنتجاً في الوقت نفسه. وهذا يقودنا الى شكسبير الذي اقتبس عنه كينيث براناه، وأيضاً مخرجاً وممثلاً ومنتجاً، مسرحيته الرائعة "هنري الخامس" ليحولها الى فيلم 1989 يتناول حروب اوائل القرن الخامس عشر في بريطانيا، وخيانات تلك الحروب ودمويتها، قفزة اخرى في الزمن مقدارها قرنان تقريباً، ونجد انفسنا في خضم الحروب، داخل القارة الأميركية، في فيلم "آخر الوهيكان" المقتبس عن رواية فينيمور كوبر الشهيرة، التي همها ان تعيد الاعتبار الإنساني الى هنود حمر لطالما ظلموا في التاريخ الواقعي، كما في السينما والأدب. وبعد اقل من ثلاثة ارباع القرن تطل معركة واترلو، الشهيرة التي وضعت حداً لتطلعات نابوليون إذ هزمه الإنكليز. والفيلم الذي، بين افلام عدة عن المعركة نفسها، تحدث بأفضل ما يمكن عنها كان - بحسب اللائحة - "واترلوا" الذي قام فيه رود ستيغر بدور نابوليون، وحقق في العام 1970، وأخرجه الروسي سيرغاي بوندارتشوك. واللافت هنا ان هذه اللائحة اختارت لفترة الحرب الأهلية الأميركية وما سبقها فيلمين ليس بينهما "ذهب مع الريح"، الذي يعتبر عادة من أنجح افلام تاريخ السينما، وسينما الحروب. والفيلمان هما "آلامو" 1960 الذي اخرجه جون واين بنفسه، وندر ان نظر إليه اي ناقد جاد، نظرة جدية. اما الفيلم الثاني، فهو "المجد" 1989 الذي اخرجه ادوارد زفايك، وتكمن خصوصيته الأساسية في كونه يركز على المعارك التي خاضتها اول فرقة سوداء في الجيش الاتحادي الشمالي، خلال الحرب الأهلية الأميركية. ومع هذا الفيلم الذي ينتمي الى نوع من التجديد في العقلية السينمائية الأميركية، لم يعد الأسود، خادمة طيبة كما في "ذهب مع الريح" بل صار قوة فاعلة، ولعل هذا ما يضفي على هذا الفيلم اهميته، ويفسر سبب عدم نجاحه لدى المشاهد الأميركي بما فيه الكفاية!
آخر العنقود
بعد ذلك، من داخل اميركا الشمالية - اذ انتهت حروبها الداخلية وبدأت حروبها الخارجية، منذ الحرب العالمية الأولى وما تلا ذلك - الى القارة الافريقية في فيلم "زولو" 1964 الذي يصور فيه المخرج الإنكليزي ساي اند فيلد معارك جنوب افريقيا، خلال بدايات الربع الأخير من القرن التاسع عشر. وقفزة بعد ذلك الى الحرب العالمية الأولى. نجد عشرات الأفلام عن تلك الحرب، ومعظمها تتبنى مواقف ناقدة منها: من "دروب المجد" لكوبريك، الى "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" للويس مايلستون، ولكن بخاصة: "الوهم الكبير" لجان رينوا. غير ان اللائحة اختارت هنا فيلم "لورانس العرب" لدايفيد لين، الذي تدور احداثه في الشرق الأوسط، ومحورها ازاحة الوجود العثماني في المنطقة. ونعرف ان هذا الفيلم شهد بدايات عمر الشريف العالمية، ولا يزال حتى يومنا هذا، من اكثر الأفلام إثارة وإقناعاً.
ترى هل يمكن لأحد ان يحصي الأفلام التي تحدثت عن الحرب العالمية الثانية؟ يقيناً إنها تعد بالمئات... أضف الى هذا انه إذا كانت معظم الحروب الأخرى قد نسيت، وصارت مجرد صور سينمائية تبرز بين الحين والآخر، فإن الحرب العالمية الثانية لا تزال في البال، تشغل المخيلات، وحسبنا ان نذكر هنا ان السنوات القليلة الماضية شهدت ظهور ثلاثة افلام كبيرة - بين افلام عدة اخرى حول الموضوع نفسه - تناولت بعض جوانب تلك الحرب: "إنقاذ المجند رايان" و"الخيط الأحمر الرفيع" ثم "بيرل هابور" آخر العنقود في هذا السياق، والذي كان عرضه لا يزال طازجاً، حين دمر الإرهابيون برجي مركز التجارة العالمية في نيويورك وأصابوا مبنى البنتاغون، ما ذكّر الأميركيين مباشرة بكارثة بيرل هاربور، التي كانت بدورها "اعتداء على الأنفس والكرامة الأميركية" وأوقعت ألوف الضحايا، وأدت يومها الى دخول الولايات المتحدة أتون الحرب العالمية الثانية. وتتحدث اللائحة عن ثلاثة فقط من الأفلام باعتبارها "أفضل ما تناول تلك الحرب": "إنقاذ المجند رايان"، ثم تورا تورا تورا" الذي ساهم فيه اكيرا كوروساوا في إنتاج اميركي 1970 ويصور حكاية الصراع الأميركي - الياباني بحرياً خلال تلك الحرب، ثم "جسر بعيد جداً" 1977 عن رواية كورنيليوس رايان...
بعد ذلك تأتي بالطبع حرب فيتنام. ولئن كانت اللائحة تتوقف، بالنسبة الى هذه الحرب، عند "يوم القيامة الآن" 1979 لفرنسيس تورد كوبولا، فمن باب التمثيل لا الحصر طبعاً، علماً بأنه يمكننا ان نعتبر هذا الفيلم واحداً من الأقوى والأهم في تاريخ سينما الحرب، شكلاً وأسلوباً ومضموناً ورسالة ايضاً. لكنه ليس الوحيد بالطبع، وقد سبق ان ذكرنا افلاماً أخرى عدة حول الموضوع نفسه.
يبقى هناك فيلم واحد... ولكن عن حروب مستقبلية تدور في القرن الخامس والعشرين، وهو فيلم "قوات سفينة الفضاء" الذي حققه فيتر فرهوفن في العام 1998، ويعتبره كثيرون "كيتش فضائي" وفيلماً في المستوى المتدني على رغم انه كلف اكثر من 100 مليون دولار.
نحو صورة ما
تتوقف اللائحة هنا. وفي إمكانها طبعاً ان تتواصل الى ما لا نهاية. ونحن يمكننا ان نضيف إليها، وإلى ما ذكرنا عشرات الأفلام. ولكن أليس من الأفضل التوقف عند نقطة محددة؟ حسناً، ستكون هذه النقطة، ذلك الفيلم الرائع الذي حققه ستانلي كوبريك في العام 1963، ولا يزال في الإمكان اعتباره اقوى صرخة في وجه الحرب وجنونها وعبثيتها: "دكتور سترانجلاف، أو كيف تعلمت ان أكف عن القلق وأحب القنبلة". إن هذا الفيلم لا يتحدث عن حرب محددة، بل عن تلك الحرب التي عاش العالم، عقوداً وسط مخاوفها وهاجسها: الحرب النووية بين القوتين الأعظم في ذلك الحين، وبالنسبة الى الفيلم كان هناك إمكان واحد لاندلاع الحرب: ان يجن جنرال نازي سابق يعمل الآن مع الجيش الأميركي، ويطلق القنبلة الذرية في اتجاه الاتحاد السوفياتي...
طبعاً، الحرب الباردة انتهت، والقنبلة الذرية لم تنطلق. لكن الإرهاب، ذلك الجنون الآخر، حل مكان ذلك كله، وها هو الآن يقود العالم الى مصير جديد. إنه الإرهاب نفسه الذي لم يكن، مهماً، في حسبان سينما الحرب، لكن افلاماً عدة حذرت منه... ما يشكل موضوعاً آخر.
هنا فقط، نود ان نختم، بأننا لئن كنا قصرنا الحديث، تقريباً على السينما الأميركية، فذلك لأنها - والسينما الأنغلوساكسونية - كانت دائماً الأفضل، والأكثر قدرة على النقد الذاتي. هذا النقد الذي عادت وتعلمته السينمات الأخرى، ولكن في حركة شديدة البطء، اما في عالمنا العربي، فنعرف ان سينما الحرب كان لها افلامها ايضاً، سواء كانت تتحدث عن حرب الجزائر او حرب فلسطين والحرب اللبنانية، أو حرب حزيران يونيو 1967، أو حرب تشرين اكتوبر 1973. وعلى رغم ان افلام هذه الحروب لا يمكن ان تعد شيئاً بالمقارنة مع ما ذكرنا، فإنه قد يكون من المسلي والمفيد - الى حد ما، ان نعود إليها في كلام لاحق. اما هنا فنكتفي بهذا متسائلين: ترى، هذه الحرب الجديدة، حرب اميركا والعالم على حركة طالبان والتنظيمات التي تعيش تحت حمايتها، ستكون لها صورة حقيقية مقنعة ذات يوم؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.