البعض ينحو باللائمة، في ما تشهده أفغانستان من استعار متجدد للعنف ومن عودة قتالية ملحوظة لحركة طالبان بعد أكثر من ثلاث سنوات من اجتثاث سلطتها، على فصل الربيع!... يذوب جليد الجبال، يقول أصحاب هذا الرأي، وتصبح الأودية سالكة فيستغلها المتمردون للمبادرة بالهجوم. من المرجح أن لا أحد يقنع بهذا"التفسير"، بمن في ذلك مردّدوه، لكنه قد يستشري، لولع الناس بالتعليلات البسيطة والتبسيطية، لأن الخطأ سريع الانتشار سهل الاستحكام، إذ ما يفعله"الآخر"، خصوصا ذلك الذي يُتَوهّم مطلق الغيرية، لا يمكنه أن يُعزى إلى"عقلانية"ما، بل إلى غرائز وإلى محدِّدات"ثقافية"لا فكاك له منها. وبذلك، قد نتردى أو يتردى أصحاب هذا الضرب من المقاربات، من نظرة"ثقافوية"رثة، معلومة شيوعا وإيذاءً، إلى نظيرة لها لا تقل رثاثة،"طبيعوية"أو"بيئوية"... من تلك التي تعيد كل شيء إلى ما يُعتقد أنه خصوصيات ثقافية جوهرية وثابتة، إلى تلك التي قد تنزع إلى ربط سلوك بشرية بعينها، توصم بالبدائية وبما دون التاريخية، ب"حتميات"طبيعية، فإذا سلوكها ذاك أشبه باشتداد فيروس من الفيروسات في فصل من فصول السنة دون غيره أو بما كان من قبيل ذاك. يبقى أن مثل ذلك، بداهةً، لا يفي، إلا كعامل من العوامل، كما قد لا تفي أسباب سياسية، على وجاهة بعضها أو على وجاهتها بمقدار، تُساق عادة في تعليل إخفاق كذلك الأفغاني، يتبدى جليا في أن الكيان ذاك لم يألْ إلى استقرار ولا إلى انتظام حول دولة تنهض به وتستوي تعبيرا عنه وشخصية اعتبارية له بين الأمم، وذلك بالرغم من أن رعاية دولية قد بُذلت، سياسية وعسكرية ومالية، وبالرغم من ابتعاث مؤسسات ومن تنظيم انتخابات، كتلك الرئاسية التي أجريت في 2004، وانتهت بفوز الرئيس حامد كرزاي في ما اعتُبر أول اقتراع ديموقراطي في تاريخ البلاد، وكتلك النيابية التي أعقبتها في 2005. قيل في تعليل الفشل الأفغاني، ومن آياته الكثيرة إخفاق الدولة في بسط نفوذها على سائر أرجاء البلاد وازدهار زراعة الأفيون مصدرا أساسيا للدخل كما لم يحدث منذ ما قبل استتباب الأمور لحركة طالبان، وعودة الأخيرة قوة عسكرية يُعتد بها واستعادة عنفوانها، كما دلت صداماتها الأخيرة مع القوات الأفغانية وتلك الدولية، بعد أن قيل إنه لم يبق منها غير فلول لاذت بالأقاصي وبالمناطق النائية... قيل في تعليل ذلك الفشل إنه عائد إلى تقاعس المجموعة الدولية، خصوصا تلك الغربية، عن الوفاء بما وعدت به من مساعدات ومن اعتمادات كانت سخية على الورق وفي التصريحات، شحيحة في الواقع. ولا شك في أن لذلك التقاعس مفعوله، وكذلك لصراع النفوذ الدائر حامي الوطيس، تخوضه قوى إقليمية ودولية، على صعيد تلك المنطقة من العالم وعلى الصعيد الأفغاني تخصيصا، إذ لا يُفهم استمرار حركة طالبان بعد اجتثاث حكمها، وانتقالها من طور الانكفاء فلولا إلى طور المبادرة بالهجوم قوةً منظمة على ما يبدو، دون دعم تلقاه تمويلا وخصوصا تسليحا... ولكن، ومع كل ذلك وعلى صحته الكاملة أو الجزئية، قد لا يُفسر ذلك الفشل الأفغاني حصرا بخصوصيات البلد، وبسمات تتعلق بتركيبته الداخلية وبالظروف الإقليمية على أهمية كل ذلك، بل ربما تعين استكمال كل ذلك بإدراج الحالة الأفغانية في منحى أعم وفي ديناميكية أوسع مدى، يبدو أنها تعتمل بقوة في أرجاء متعددة من ذلك الحيز الموصوف ب"جنوب العالم"، بعد أن أضحت تسميته ب"العالم الثالث"قاصرة لا تفي بالغرض. وهكذا قد لا يُفهم ما يجري في أفغانستان فقط في ذاته، بل أيضا على ضوء ما حدث في الصومال وما يحدث في العراق. إذ بين الحالات الثلاث وجه شبه من زاوية بعينها، قد يدفع بنا إلى المجازفة باستنتاج مفاده أنْ لم يحدث، في الحالات الثلاث تلك، أن صير إلى إعادة اللحمة إلى كيان تفكك، بل لم يؤد ذلك إلا إلى إمعانه في التفكك. يعود ذلك بطبيعة الحال إلى هشاشة تلك الكيانات، وذلك أمر معلوم مبتذل لا يكفي القول به تفسيرا وافيا، بل يتعين رفده باعتبارات أخرى قد تكون أكثر دلالة، أبرزها، من ناحية، أن الكيانات تلك قامت على"خرافة"قانونية، هي تلك التي نشأت إبان حقبة الحرب الباردة والاستقطاب الثنائي، تلك التي شهدت بلوغ غالبية بلدان الجنوب استقلالها، ولجأت إلى تعميم أنموذج الدولة-الأمة على نحو اصطناعي، فاعتبرت كل كيان آل إلى الاستقلال دولة-أمة، بصرف النظر عن توافر المقومات من عدمه، وتوسمت في القانون قدرة على تلافي أو اجتراح ما لم ينجزه التاريخ. ومن جهة أخرى، تبين أن مثل تلك الكيانات، أو الكثير منها، إنما قام واستمر، أو أوهم بالاستمرار لا حول دول نشأت وتمكنت من الاستتباب، بل حول أنظمة أو مجرد سلطات، حتى إذا ما تلاشت تلك الأنظمة وتلك السلطات، بفعل انهيار داخلي أو بتدخل خارجي، كما في أفغانستان منذ المغامرة السوفياتية ربما أو في العراق منذ الحرب الأميركية، تفكك ذلك الكيان وتعذر بعثه من جديد، أقله حتى اللحظة. وإذا ما سلمنا بذلك، فإنه يثير عددا من التساؤلات التي يتعين التوقف عندها. أولها حول ما إذا كان تعميم أنموذج الدولة-الأمة، واعتبار هذه الأخيرة اللبنة الأساسية التي يقوم عليها معمار الحياة الدولية، لا يعدو أن يكون ملازما لفترة الحرب الباردة، وإن كان، تاليا، مدعوّا إلى الزوال بأفولها، ما قد يعني أن عوالم الجنوب مقبلة على اضطرابات لا حدود لها، تعززها وتفاقمها يقظة الهويات، خصوصا تلك الصغرى النازعة إلى الاستواء انتماء حصريا أو شبه حصري؟ قد لا تكون الإجابة عن هذا السؤال بالأمر الذي تفي به هذه العجالة، لكن هذه الأخيرة يمكنها أن تتسع إلى تحذير، ذلك الذي مفاده ضرورة التبصر بمآلات التنطع إلى إسقاط بعض الأنظمة اعتبارا بالسابقة العراقية خصوصا وبمغبة الاستعاضة عن الأناة بالمغامرة... يُقال ذلك وفي الذهن سورية بطبيعة الحال.