لا أحد يتمنى نجاح الولاياتالمتحدة في مغامرتها العراقية وهذه ما انفكت صفة المغامرة تصح عليها يوما بعد يوم، ولا أحد يريد لها الفشل فعلا. أما النجاح، فمعلومة تبعاته ومحاذيره: استئساد الولاياتالمتحدة على العالم بأكثر مما فعلت حتى الآن. إمعانها في الإطمئنان إلى أن الحق حيث قوتها، صنوا لهذه الأخيرة ورديفا يضارعها، مع إنهاء الحياة الدولية، كما عهدها العالم خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ونسف مؤسساتها وهيئاتها والتشريعات والأعراف التي قامت عليها. ثم، وعلى الصعيد المحلي في الشرق الأوسط، فتح الباب أمام مشروع إنشاء ذلك "القوس الديموقراطي" الذي يفترض فيه، حسب ما تفقت عنه أذهان دهاقنة "المحافظين الجدد"، أن يمتد من إسرائيل إلى أفغانستان، بعد أن يودي بأنصبة ماثلة وبأنظمة قائمة بعضها اضطلع بدور الحليف الموثوق في العقود الماضية وربما بكيانات وبحدود. وهذا مشروع يخشاه الكثيرون، في المنطقة وخارجها، ولربما رأوا أن لا عاصم منه ولا رادع له، سوى الفوضى العراقية الراهنة. وأما الفشل، فلا تريده غالبية العراقيين ولا دول الجوار. فهو، بالنظر إلى واقع الحال وإذا ما أفضى إلى انسحاب أميركي مبكر وغير مرجح على أية حال، وقد الرئيس جورج بوش في خطابه يوم الثلثاء الماضي سيطلق لا محالة جحيم الاقتتال الأهلي، ويؤدي إلى أفغنة العراق أو إلى صوملته، ويغذي أحقادا مكبوتة، ونزاعات كتلك التي لاحت نذرها قبل أيام، عندما تواجه التركمان والأكراد. وبديهي أن التعدد الإثني والمذهبي العراقي، جيوبوليتيكي بطبيعته، متداخل مع الجوار، على نحو يهدد بانتقال عدوى الاضطراب أو يستدرج التدخل. يمكن النظر إلى الأمر هذا من وجهين. أولهما أن الولاياتالمتحدة قد أخذت العالم رهينة لمغامرتها العراقية، بأن أنشأت في ذلك البلد وضعاً يجعل من الواقع الاحتلالي الذي فرضته أمرا لا مفر منه ولا بديل، دونه استشراء الفوضى العارمة والطوفان، أهليا وإقليميا وفي ما وراءهما. كل ما هو متاح أمام بقية العالم، والحالة هذه، هو الشماتة بالولاياتالمتحدة، ولسان الحال يقول "ألم نقل لكم؟ ألم نحذركم؟"، لعجزها عن السيطرة على الأوضاع، ولإخفاقها في إنفاذ الإصلاحات التي أزمعتها، ولما يصيب جنودها من أعمال قتل يومية. وهذا في حين أن العالم ذاك، في نهاية المطاف، وعندما يجدّ الجد، لا يسعه إلا المصادقة على ما اعترض عليه والإقرار به، من إسباغ سمة من شرعية على الاحتلال إلى اعتراف مجلس الأمن بمجلس الحكم الانتقالي، صنيعة الأميركان في نظر مناوئيه الكثر، في العالم العربي وخارجه. وفق وجهة النظر هذه، ربما أمكن الولاياتالمتحدة أن تكون متفائلة بأن احتلالها العراق في طور التطبيع، وأن العالم بصدد الإقرار به، عمليا، وإن رفع عقيرته استنكاراً وإدانة أو مجرد تحفظ. أما الوجه الثاني، فهو الذي مفاده أن العملاق الأميركي قد وقع في الفخ العراقي، وأنه يواجه في ذلك البلد حالة من التفكك والتحلل الداخليين لا تترك له مجالا في التعاطي معها غير التصرف على ما هو فاعل الآن. ورطة تكبّل الفعل الأميركي بين "خيارين" لا قبل له بأي منهما، بل بين استحالتين: استحالة الانسحاب، مع ما يعنيه من هزيمة لا يمكن للقوة العظمى الوحيدة أن ترتضيها، وهي الساعية إلى فرض أرجحيتها على العالم بأسره، كما لا يمكن لمصداقيتها، سياسيا وعسكريا، أن تقوم لها بعدها قائمة، مهما كلفها وجودها في العراق مالياً بليون دولار في الأسبوع الواحد وبشريا حيث فاق عدد القتلى الأميركان في العراق منذ نهاية الحرب ما بلغه إبانها، وذلك أقله في المستقبل المنظور، وما لم ينشأ تيار داخلي قوي يضغط باتجاه إنهاء هذه المغامرة، أسوة بما حدث خلال حرب فيتنام. ومن ناحية أخرى، استحالة استتباب الأمور للأميركان في العراق، نتيجة لسديمية أصابت الكيان، تطال كل شيء، وقد لا تكون الأعمال العسكرية أكثر أوجهها دراماتيكية، في نظر العراقيين لا من حيث وقعها الإعلامي ممن يواجهون صعوبات يومية أكثر حدة وأكثر مباشرة، تساهم بدورها في جعل مهمة الأميركان أعسر وأشق، وتُعمل في سلطتهم تقويضا بأكثر مما تفعل المقاومة ربما. البعض، لسهولة استدعاء السابقات التاريخية والولع بها، يتوقع للولايات المتحدة في العراقفيتناماً جديدة. وهو ما يلوح تشبيها متعجلا. فحرب فيتنام كانت، بالرغم من أهميتها المعلومة ومن المنزلة التي تبوأتها في الذاكرة الأميركية والبشرية، في المحصلة الأخيرة، مجرد معركة في مواجهة أوسع وأشمل، هي المتمثلة في الحرب الباردة التي كانت تقودها واشنطن ضد الاتحاد السوفياتي. فيتنام كانت معركة أساسية بالنسبة إلى الأميركان، لكنها لم تكن المعركة الفصل، تلك التي تحسم مصير الحرب. لذلك كان ممكناً الركون إلى الهزيمة فيها وتجرعها، مهما بلغ من الإيلام ومن الشعور بالإهانة. المغامرة العراقية غير ذلك، فقد خاضتها الولاياتالمتحدة ضد العالم بأسره، وجعلتها فعل التأسيس للنصاب الدولي الجديد الساعية إلى إرسائه، وهي لذلك ليست في وارد التراجع في شأنها بسهولة، خصوصا وأن ما يواجهها من مصاعب، يبقى حتى الآن، وبمقاييس القوة الأميركية وما تتمتع به من احتياطي اقتصادي وعسكري وسياسي، محدودة، ناهيك عن أن الوجود الأميركي في العراق، ضمن ظروف الاضطراب الراهنة وما تُنذر به، حاجة يستشعرها الجميع، وإن أحجمت الغالبية عن الإقرار بها. لذلك، يبدو أقصى المرغوب حاليا، هو استمرار الورطة الأميركية في العراق في نصابها الراهن، أو في نصاب يدانيه، لا يفضي إلى انسحاب لا أحد يريده، ويبدو على أية حال متعذراً، ولا إلى نجاح في إحكام السيطرة لا أحد يتمناه. قد تكون هذه هي الاستراتيجية التي تواضع عليها العالم، عن وعي أو عن غير وعي، لدوافع من قبيل موضوعي. المفارق في هذا الأمر، إن صح، أنه يمثل، بمعنى من المعاني، استئنافا للسياسة التي كانت متوخاة، منذ غزو الكويت وحرب تحريرها، حيال الدكتاتور العراقي السابق ونظامه. فهذا الأخير، مع اعتبار كل الفوارق طبعا، كان يجري التعاطي معه، حتى إقدام الولاياتالمتحدة على حربها المعلومة، انطلاقا من نفس النظرة "الواقعية": مقاطعته والتحفظ عنه بما يحول دون إعادة تأهيله بين الأمم، مع الحرص على بقائه خشية على تصدع الكيان العراقي والمنطقة برمتها. وجه اللقاء الأساسي بين الإستراتيجيتين المذكورتين، حيال الدكتاتور السابق وحيال الاحتلال الراهن، أنهما يأخذان في الحسبان كل الاعتبارات الممكنة، من جيوستراتيجية واقتصادية وسواها، عدا أمرا واحدا هو الشعب العراقي وما عاناه ويعانيه في أمنه، بل في أبسط مقومات وجوده. وهو ما يعني في نهاية المطاف، وفي الحالتين، تواطؤا مع الوضع القائم، وإن اتخذ هيئة الاعتراض ولبس لبوسه.