الولايات المتحدة ساعية إلى مخرج من ورطتها العراقية، تقول المعلومات المتداولة والتحليلات السيّارة. تريد "تعريق" المواجهة الدائرة على أرض بلاد الرافدين، أي التحلل من الأزمة دون إنهائها. وهي لذلك، تستعجل تدريب وحدات محلية، كي تحل محل قواتها في أقرب الآجال وتتلقى الضربات عوضا عنها، كما تفكر في تسليم مقاليد الأمور، أو ما تبقى من تلك المقاليد، إلى هيئة عراقية، تعمل على ابتعاثها، إن اعتبرتها عديمة الوجود، أو على مدها بأسباب السلطة والقرار، إن اعتبرتها ممثلة في مجلس الحكم الانتقالي. وهي لذلك تحث الخطى في إقرار تلك المقاربة الجديدة: تنوي التسريع في نقل السيادة السياسية إلى العراقيين، في غضون ثمانية عشر شهرا على الأكثر، بعد أن كانت ترى أن المهمة تلك تتطلب ثلاث سنوات، كما أن عديد القوات الأميركية سينخفض، مع حلول الصيف المقبل، إلى مئة ألف رجل، ثم إلى خمسين ألف خلال سنة 2005. بعض المحللين الأميركيين اعتبر السياسة هذه هروبا واستراتيجية آيلة إلى خسران أكيد، ورأى فيها، كما فعل فريد زكريا في مجلة "نيوزويك"، وجه الشبه الوحيد والأنكى مع الحالة الفيتنامية، تلك التي لا يوجد، في ما عدا ذلك، أي سبيل للمقارنة بينها وبين نظيرتها العراقية. والتقييم هذا يبدو وجيها وصائبا، بل بديهياً. وليس للمرء أن يكون محللا في "نيوزويك" حتى يتبين بأن أقصى ما يمكن لتلك السياسة أن تدركه هو درء الضربات التي تتلقاها قوات الاحتلال الأميركية في العراق أو الحد منها. وذلك مطلب متواضع أشد التواضع بقطع النظر عن بعده الإنساني، أي بمقياس الكلفة البشرية لمن كان، شأن الولاياتالمتحدة، ذا نزوع إمبراطوري جارف. ولمن خرج مثلها إلى العالم، بمناسبة الحرب العراقية الأخيرة، وامتلك مشروعا متكاملا، اصطُفِي العراق قاعدة لانطلاقه، يتعلق بالشرق الأوسط، ويهدف إلى إعادة صياغته وإلى إرساء الديموقراطية في ربوعه و"تأمين" ثرواته النفطية وطرق إمداداتها. فهل تعني تلك السياسة الجديدة أن الولاياتالمتحدة تخلت عن كل تلك الأهداف، وأنها ما عادت تفكر إلا في سبل الخلاص من الورطة العراقية، في أسرع وقت وبأية وسيلة؟ سيعني ذلك، من قبل الولاياتالمتحدة، إقرارا بهزيمة لا يمكنها أن تتحملها لأن كلفتها، داخليا وخارجيا، ستكون باهظة، أشد وطأة من كل الخسائر التي تتكبدها حاليا في العراق، هذا فضلا عن أن الهزيمة تلك لم تحصل. فالولاياتالمتحدة تواجه مصاعب حقيقية هناك: تبدي عجزا عن السيطرة على الأوضاع، وبات حضورها، جنودا ومواقع، هدفا لضربات موجعة، ما انفكت تزداد جرأة وإحكاما في التنظيم. لكن الأمر لم يبلغ بها درجة الهزيمة العسكرية التي لا تترك لها من مجال سوى الانسحاب المهين، على متن مروحيات تقلع من على سقف مبنى "الحاكم المدني الأميركي" في بغداد، كما حصل في سايغون قبل نحو ثلاثة عقود. دون ذلك الكثير، وخصوصا وجود طرف في العراق يمكنه أن يجني ثمار مثل ذلك الاندحار الأميركي في صورة حصوله، أي وجود منتصر محتمل. وتلك من مفارقات الحالة العراقية أو من خاصياتها الفارقة: أن المقاومة يبدو محكوما عليها، ما استمرت بمواصفاتها الراهنة، بأن تظل مقاومة، ولا تبدو مشرعة على أفق سياسي، أو على مشروع محدد الملامح. فهي إن كانت صدّامية المصدر أو الهوى، ستصطدم عاجلا أو آجلا، مهما كانت أوهامها في ذلك الصدد، بعقبة استحالة عودة النظام السابق، تلك المتعذرة محليا ودوليا، وهي إن كانت بن لادنية، فهي تستند إلى ضرب من "جهادية" لا تحفل بسياسة ولا بتأسيس وتعوزها مثل تلك الثقافة، وقد لا تكون معنية بالعراق ككيان، بل هو لا يهمها إلا ك"قاعدة" من قواعد جهاد كوني "ضد الصليبيين واليهود"، لا ينتهي إلا بنهاية هؤلاء وخضوعهم "ذميين" يدفعون الجزية، وذلك هدف أقل ما يقال فيه إنه لا نهائي المدى، يهون دونه "التفصيل" العراقي. لكل ذلك، لا يمكن أخذ المقاربة الإميركية الجديدة والآنفة الذكر على محمل الجد. "تعريق" المشكلة العراقية، وإيكال أمر التصدي لها إلى "جيش عراقي" يصار إلى تدريبه على عجل، وسيكون بالضرورة محدود النجاعة، كما أشار أكثر من محلل، لن يحل المشكلة، بل أن أقصى ما يمكنه أن يترتب عليه هو "تأهيل" الأزمة العراقية، أي تحويلها إلى مواجهة أهلية، وهو بطبيعة الحال ليس في صالح الولاياتالمتحدة واستراتيجيتها. وذلك ما يُرجَّح بأن الإدارة الأميركية الحالية، بالرغم مما هو معلوم عنها من ارتجال ومما أبدته حتى الآن من خفة، أو مما يبدو بمثابة الخفة، تعلمه علم اليقين. كيف يمكن تأويل تلك المقاربة إذاً؟ لعل أحد أفضل مفاتيح القراءة في هذا الصدد هو ذلك المتمثل في التنبه إلى أن إدارة الرئيس بوش واقعة بين زمنين تسعى إلى الملاءمة بينهما: من ناحية، الزمن الانتخابي، وهو بطبيعته وجيز محسوب، ومن ناحية أخرى، الزمن الاستراتيجي، ذلك المتعلق بمستقبل العراق والمنطقة والنفوذ الأميركي في العالم، وهو تعريفاً طويل المدى. والمقاربة الأخيرة قد تكون وسيلة الملاءمة بين الزمنين ذينك، دون التضحية بأي منهما، وذلك من خلال التلويح بصيغة، قد تشفعها بعض إجراءات عملية، توحي بانسحاب وشيك من المستنقع العراقي، استرضاء لناخب بات يبدي الكثير من التململ حيال سياسة الرئيس بوش العراقية، ولا يؤتمن حتى وإن كان الحزب المنافس، الديموقراطي، لا يزال في حالة من الوهن بادية، متفرق الكلمة عديم الفعل، مع الإبقاء على الأهداف الاستراتيجية الأميركية الكبرى، والتي تعتبرها هذه الإدارة حيوية، وخاضت بمقتضاها مغامرتها العراقية بالضد من إرادة العالم بأسره. من المرجح أن الإدارة الأميركية قد أخطأت التقدير، في مبتدأ مغامرتها العراقية تلك، وتصورت بأن الزمن الانتخابي والزمن الاستراتيجي، أو بعضه، سيتطابقان تماما، وأن الرئيس بوش سيتقدم من الناخبين وهو مكلل بالنصر. ولما لم يتحقق ذلك، كان لا بد من المراجعة، لكن المراجعة تلك تتوقف عند ما سبقت الإشارة إليه، أي أنها ليست إعادة نظر جذرية في السياسة الأميركية، بل سعي إلى الملاءمة بين الزمنين المذكورين بطريقة أخرى. ولكن ما هي التبعات المتوقعة من ذلك على العراق؟ ربما تمثلت تلك التبعات، وإن على نحو مرحلي وانتقالي، في السعي إلى صيغة كتلك الأفغانية، تفضي إلى سلطة محلية، لا تتخطى العاصمة بغداد، وإلى تأمين النفط وطرق إمداداته، مع "التعايش" في بقية أنحاء البلاد مع سلطات أمر واقع، وإن لم تكن خاضعة تماما، أو إن كانت معادية، ومع الحد من الخسائر البشرية الأميركية والعمل على "سحب" الوضع العراقي من صدارة وسائل الإعلام. هل يمكن لمثل هذه السياسة أن تنجح؟ لم لا، ما دامت المشكلة مع الولاياتالمتحدة لا تتمثل فقط في قوتها، بل في انعدام من يمكنه أن يستغل وأن يستثمر ما تواجهه من مصاعب وما تعاني منه من نقاط ضعف.