إيقاع الخطة الاميركية حيال العراق في الارتباك يبدو ممكناً. لكن لذلك شروطاً وله كذلك حدود. وقد شهدنا في الأيام الماضية ما أصبح غير مأمول ابداً. فطوال أسابيع لاحت نذر حرب بدت حتمية ووشيكة ومتفلتة من أي ضابط أو رابط، ومهددة بدمار عظيم. وكانت الولاياتالمتحدة تستعد للذهاب الى الحرب بمفردها اذا لزم الأمر. ووُضعت الأممالمتحدة جانباً بسبب استعصاء علاقتها بالعراق بعد فشل العديد من جولات التفاوض حول عودة المفتشين. وكانت ممانعة دول كفرنسا وروسيا تتفتت، وتصرفت الدول العربية على أساس التسليم بالأمر الواقع، وراحت، هي وايران وتلك الدول الممانعة، تبحث في ترتيبات ما بعد الحرب، في ضمانات السلامة بالنسبة للبعض منها وفي تأمين كل منها لمصالحها في "عراق ما بعد صدام"، وهو التعبير الذي شاع واعتمد. انطلقت آلة الحرب ولم يكن واضحاً أبداً ان هناك ما يعرقل دورانها لولا ان اتخذ العراق بين ليلة وضحاها قراره الشهير بالسماح بالعودة غير المشروطة للمفتشين، وباشر مفاوضات مع لجنة الرصد والتحقق انموفيك قال على أثرها رئيسها هانز بليكس ان الشوط الذي قطع مع العراق غير مسبوق. ووقعت بذلك لحظة ارتباك أولى وظهرت الى العلن التناقضات التي تخترق الإدارة الاميركية نفسها، وتعززت التباينات بينها وبين سائر الدوائر في العالم، واكتسب التيار العام المعادي للحرب نفساً جديداً، ولعله لم يكن من الممكن ان تتحول التظاهرات التي خرجت الى الشارع في لندن وروما في الاسبوع الماضي، الى تظاهرات عملاقة بهذا الشكل لولا ان الولاياتالمتحدة بدت في موقع التجني الكامل الذي وضعتها فيه الموافقة العراقية على عودة المفتشين. إلا ان الولاياتالمتحدة تمتلك، وهي في طور صعود هجمتها التسلطية على العالم، ان تلتف على النجاح العراقي في تلك الجولة الأولى. وعنوان الالتفاف هو السعي الى اصدار قرار جديد من مجلس الأمن يعيد ترتيب شروط عمل لجان التفتيش في العراق ويجعل اللجوء الى القوة تلقائياً عند الخلاف. وشعار الولاياتالمتحدة اليوم هو ان نظام التفتيش السابق "فاشل". مهّد الرئيس الاميركي للجولة المقبلة التي ستدور في مجلس الأمن بخطاب امام قادة الكونغرس منذ ايام، تناسبت حدة لهجته التهديدية مع الحاجة الى تجاوز الارتباك الذي سببه الموقف العراقي. وعلى صعيد آخر، وانما في السياق نفسه، وظف الرئيس بوش هذا الخطاب في ابراز أهمية نجاحه في ترتيب شؤون البيت الأميركي: حصوله على تفويض بالحرب من قادة الكونغرس، وتوقع إقرار هذا التفويض في مجلسي الشيوخ والنواب. وعلى رغم ان هذه الخطوة كانت متوقعة، الا ان انجازها جزء من الاستراتيجية الاميركية في التحضير للمعركة. ستواجه الولاياتالمتحدة صعوبات جدية في حمل مجلس الأمن على اقرار مشروعها الجديد لنظام التفتيش في العراق. فما سُرّب منه حتى الآن يشير الى حالة من الاستباحة التامة وغير المسبوقة للأرض والناس، حالةٍ ستقيم ثنائية سلطة حقيقية في بغداد. لقد أبدى المفاوضون العراقيون في فيينا مرونة هائلة إذ أقروا بالسماح بتفتيش وزارة الدفاع العراقية ودوائر الاستخبارات ومقارّ الحرس الجمهوري وحزب البعث الحاكم. ولم يتمسكوا إلا بالاتفاق القديم حول استباق تفتيش المقارّ الرئاسية بإبلاغ مسبق وبمرافقة من مسؤولين عراقيين. إلا ان الولاياتالمتحدة اعتبرت ذلك غير كافٍ، وما تطلبه يضع أي سلطة قائمة أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما ان تتصرف بوصفها زائدة ومستقيلة واما ان تمانع فتضرب بغطاء قانوني! ولا شك ان مواقف فرنسا وروسيا والصين لا تتطابق مع الموقف الاميركي، وان هناك مجالاً ليس قليلاً للالتفاف على المشروع الذي تحمله الولاياتالمتحدة، وفرض تعديلات عليه أو حتى دفع مجلس الأمن للبحث عن مشاريع قرارات اكثر ملاءمة وأقل فجاجة. وسيتعين على الولاياتالمتحدة باستمرار ان تبرر موقفها وان تسعى لتحقيق توافق لا يجبرها على التفرد بقرارات خطيرة. ولكنْ، في المقابل، من المشروع تماماً الشك في قدرة العراق على مواكبة مستمرة وفي كل منعطف لآليات صناعة القرار هذه، وعلى الوفاء بمتطلبات التأثير في صياغته ايجابياً لمصلحته أو في التخفيف من آثاره السلبية عليه. كل ذلك مهم وضروري ويجب ان يُسعى اليه ويُمارس ويُطرق. الا انه لم يعد كافياً. ذلك ان العراقوالولاياتالمتحدة ليسا متساويين في قدرتهما على ممارسة خططهما والتحكم بالتكتيكات المطابقة لها. والمرحلة التي دخل فيها العالم منذ وصول جورج بوش والتيار الذي يمثله الى الإدارة، وما منحته هجمات 11/9 من زخم لتصوراتهم حول دور الولاياتالمتحدة في العالم، تجعل من العقيم ان يغوص العراق في أوهام حول قدرته على استعادة ولو معدّلة لوسائل السياسة السابقة التي مارسها على مدى اثني عشر عاماً وأفلح بواسطتها في تقطيع الوقت وتأجيل الحسم. وهنا، لا بد من التذكير بأن تلك الفترة الماضية لم تكن فترة سكونية بقيت فيها أحوال العراق مجمدة، بل هي فتتت بنيان المجتمع والدولة العراقيين ورمتهما في ضعف كبير، ومهدت، بذلك وباليأس الذي ترسخ لدى كل من تعامل مع النظام في بغداد، للوصول الى لحظة المأزق الراهن. لا يمكن للسلطة القائمة في بغداد ان تمارس المناورة والتهرب والتشاطر السابقين. ولا يمكنها ان تبدي مرونة اكبر مما أبدت، ومن الصعب تماماً ان تستجيب لما هو مطلوب منها اميركياً. وليس من مخرج إلا بمغادرة تلك الاساليب وهذه العقلية، وبالتواضع امام العراق، مجتمعاً وقوى سياسية وثقافية حية، بدلاً من احناء الرأس امام القوة الغاشمة أو تعريض البلاد للدماء... لا شيء يمكن ان يربك الخطة الاميركية أكثر، بل لا شيء أكثر قد ينجح في إفشالها.