أعلنت الولاياتالمتحدة منذ هجمات أيلول سبتمبر عام 2001 أنها في مواجهة مفتوحة مع الإرهاب. صنفت القوى المعادية لها بين حركات اصولية ذات صفة إسلامية على رأسها تنظيم"القاعدة"بقيادة أسامة بن لادن ونظام"طالبان"في أفغانستان وبين دول اطلقت عليها"محور الشر"وتمثلت في العراق وإيران وكوريا الشمالية. ويصر الرئيس جورج بوش على ادراج مكافحة الإرهاب من قبل حكومته في سياق مهماته"الرسولية". ولا تكتفي هذه المهمة"الخلاصية"بمنع وصول الإرهاب الى الدولة الأميركية، بل حددت لنفسها مهمة تحرير الشعوب من الديكتاتورية ونشر الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان. تحمل هذه الشعارات الكثير من الادعاء وتخفي أهدافاً أميركية توسعية لا علاقة لها بما هو مطروح. استنهض الخطاب الأميركي قوى سياسية أطلق عليها اسم"المحافظين الجدد"، تعتمد خطاباً اصولياً يستحضر الدين المسيحي بمذهبه الانجيلي، وترى فيه المسوغ الأساسي لمهماتها"الرسولية". لذلك تعيش الولاياتالمتحدة منذ سنوات توظيفاً للدين في سياستها الخارجية، بل تكاد تستخدم المنطق الاصولي الذي تقول به الحركات الإسلامية المتطرفة، في حربها ضد هذه الحركات نفسها، مما يوحي بمشهد عالمي راهن يضع البشرية بين فكي كماشة اصوليين يكملان بعضهما بعضاً: الاصولية الانجيلية الأميركية والاصولية الإسلامية المتطرفة. يتساءل كثير من الكتّاب والمحللين الأميركيين عن أسباب ودوافع هذا الانبعاث الديني في الولاياتالمتحدة ويدللون على ذلك بحجم المظاهر والطقوس الدينية الواسعة، وازدياد نسبة الذين يرتادون الكنائس، وصولاً الى الارتفاع الهائل في استخدام الرموز الدينية في الحياة الأميركية اليومية. ولا يخفي كثيرون قلقاً من هذا التغير في السلوك الثقافي وفي الفكر السياسي، ويرون فيه ما يشبه الارتداد عن القواعد والأفكار التي استند إليها الدستور الأميركي وتأسست عليها الدولة الأميركية. شكلت الثورة الأميركية ضد الاستعمار البريطاني أول تطبيق عملي لمبادئ"الأنوار"وتتويجاً للفلسفة العقلانية التي قال بها الفلاسفة والمفكرون الأوروبيون. وترجم دستور الولاياتالمتحدة الصادر عام 1776 مبادئ الحرية والعدالة والمساواة في قوانين وتشريعات، ووضع"الآباء المؤسسون"نظاماً اعتمد الديموقراطية أساساً للعلاقة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبين السلطة والشعب. وكرّس الدستور الأميركي مبادئ علمانية كان أبرزها اعتبار أن مصدر السلطة هو الشعب. وكانت الدولة الأميركية الوليدة أول قطع للتوظيف السياسي للدين واستخدامه في تبرير تسلط الأنظمة الديكتاتورية، وذلك قبل قيام الثورة الفرنسية عام 1789. حرص"الآباء المؤسسون"على امتداد الزمن اللاحق وحتى القرن العشرين، على الحفاظ على علمانية الدولة بصفتها ضمانة الوحدة الأميركية في ظل تركيبة قائمة على الاختلاط المتنوع والمعقد للطوائف والمذاهب والاثنيات والأعراق والأجناس التي تشكل منها النسيج الاجتماعي الأميركي. لم يشكل الدين حاضنة أساسية للهوية الثقافية الأميركية في الماضي، بل كانت تغلب على هذه الهوية التعددية الثقافية والاعتراف بالآخر ومحاربة الطغيان. رأت إحدى العقائد الأساسية للفلسفة الإنسانية العلمانية الأميركية أن دور الحكومة يجب أن يتركز على تأمين الإطار اللازم والمناخ الملائم للتعايش الديني وحرية اختيار هذا العيش من قبل المواطن، بما فيها حريته في اختيار الديانة التي يرغب وممارسة طقوسها من دون الزام بمذهب ديني أو نظام ايماني محدد. مثل انهيار المعسكر الشيوعي مطلع التسعينات من القرن الماضي أول مظاهر الخلل للعلمانية الأميركية، إذ وجدت الولاياتالمتحدة نفسها أمام فقدان"العدو". وبدا الأمر وكأنه منظومات متعددة قام عليها النظام الأميركي، وايديولوجيته ستشهد خللاً. تندرج في هذا السياق السياسة الأميركية التوسعية، حماية أنظمة حليفة، حاجات المجتمع الصناعي الحربي والشركات الأميركية التي كانت حجة محاربة الشيوعية أحد مصادر عملها وانتاجها وأرباحها. لم يتأخر ملء الفراغ كثيراً. وكان لا بد من استحضار عدو يقوم مقام الشيوعية في تأمين لحمة للمجتمع الأميركي ولمؤسساته الفاعلة. كانت البداية في إعلان جورج بوش الاب عن ولادة"النظام العالمي الجديد"الذي سيقع على عاتقه نشر الديموقراطية في العالم واحلال حقوق الإنسان، حتى لو استدعى الأمر تدخلاً أميركياً. في المقابل، ستقدم نظرية هانتنغتون في"صراع الحضارات"لتلهم الفكر السياسي الأميركي الجديد. قالت نظرية هانتنغتون للأميركيين إن الصراع المقبل سيكون بين الحضارة الغربية التي تمثلها الولاياتالمتحدة والحضارات الشرقية، وعلى الاخص منها الحضارة الإسلامية. كانت هذه النظريات قد تغذت من كتابات برنارد لويس حول الإسلام والشرق الأوسط، واعتبارها أن الدين الإسلامي يشكل عائقاً أمام تطور المجتمعات العربية ويمنع تحولها الى الديموقراطية، ويدعو الى العنف في العلاقة مع الأديان الأخرى. لقد شكلت نظرية هانتنغتون وكتابات لويس لاحقاً القاعدة النظرية والفكرية ل"المحافظين الجدد"الصاعدين الى مواقع السلطة، كما مثلت في الوقت نفسه تحولاً رئيسياً عن العلمانية السائدة نحو تدخل أوسع للدين في السياسة. اكتمل عقد هذا الصعود المناقض للعلمانية مع هجمات أيلول عام 2001. كان"المحافظون الجدد"بحاجة ماسة الى هذه الهجمات لترجمة توجههم في توظيف الدين في السياسة الأميركية الداخلية، وفي تنفيذ الخطط الأميركية في الخارج. بدا الأمر وكأن أفكار برنارد لويس وجدت تحققها في الاصولية الإسلامية بزعامة أسامة بن لادن. استُخدم عنصرا"الخوف والتخويف"من هذه الاصولية كسلاح فعال لاستنفار المشاعر الدينية خارج مبادئها وجوهرها الروحي. امتلأت خطابات الرئيس بوش بالايحاءات الدينية من القول بالحروب الصليبية وصولاً الى الإعلان عن وحي الهي دفعه الى الهجوم على أفغانستان واحتلال العراق. هكذا أدخلت السياسة الأميركية في حمى خطاب ديني رداً على إرهاب الحركات الإسلامية الاصولية. وبات العالم أمام"جهادين"أميركي وأصولي إسلامي، وجرى تصوير الموضوع على أنه صراع اديان وحضارات. نجم عن هذا الاستنفار الأميركي تعزيز للاصولية المسيحية، مستندة هذه المرة الى خطاب أميركي رسمي، ومسبغة شرعية متجددة على معركتها، شكلت إعادة انتخاب الرئيس بوش لولاية ثانية أبرز تعبيراتها. يبدو العالم اليوم محكوماً بصراع اصوليين. في الجانب الأول، تندفع حركات اصولية إسلامية متطرفة، تخوض عنفاً أعمى في مواطن متعددة من العالم، تستخدم الدين في صراعها ضد الغرب. إنها اصولية تقوم وظيفتها على تدمير المجتمعات العربية والإسلامية، مع انعدام الافق السياسي لمشروعها المزعوم في محاربة الامبريالية والاستعمار. وفي الجانب الآخر، نحن أمام اصولية أميركية صاعدة لا تقل خطراً في أهدافها وسلوكها عن الاصولية الإسلامية، ويكمن خطرها في استنادها إلى أعظم قوة في العالم، تمارس إرهاب الدولة وتوظفه في التوسع الامبريالي والسعي الى السيطرة على العالم. تحمل كل اصولية في داخلها أخطاراً. ترفض الآخر وتعتبر نفسها مالكة الحقيقة. تتساوى الاصوليات في آثارها السلبية، سواء كانت علمية أم إلحادية أم دينية. يقف العالم اليوم أمام مشهد اصولية مزدوجة تشترك في توظيف واستخدام الدين من أجل أهدافها السياسية، وتتقاسم ممارسة إرهاب متعدد الأشكال. إنهما الاصوليتان الأميركية والإسلامية المتقاطعتان في"انتاج"الأخطار التي تهدد الإنسانية. * كاتب لبناني.