ارتفاع معدل البطالة في استراليا إلى 4.1% في شهر أبريل الماضي    أمطار متوسطة وأتربة مثارة على الشرقية ونجران وأجزاء من الرياض    النفط يرتفع بدعم من قوة الطلب وبيانات التضخم الأمريكية    إطلاق جامعة طيبة لمعرض "مكين" الهندسي    سمو محافظ الطائف يرعى حفل افتتاح المجمع القرآني التعليمي النسائي    الأهلي يتحدى الهلال والاتحاد يبحث عن «النصر»    الاتحاد في مأزق الخليج.. نقاط الأمان تشعل مواجهة الوحدة والرائد    أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    قمة عادية.. في ظرف استثنائي    صفُّ الواهمين    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    معاً لمستقبل عظيم !    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج من أسعد الليالي التي أحضرها لتخريج أبنائي وبناتي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    شتلات شارع الفن    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    خطوة جادة نحو رؤية وزارة الرياضة    القيادة تهنئ رئيس الباراغواي ورئيس وزراء سنغافورة    «حلبة النار»… النزال الأهم في تاريخ الملاكمة    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    السفير الإيراني يزور «الرياض»    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    أهمية الاختبارات الوطنية «نافس» !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة صعود وانهيار "العائلة" التي ورثت الاتحاد السوفياتي . بيريزوفسكي أطاح خليفة يلتسن عبر شريط خلاعي ... وحروب أصحاب البلايين الروس على تخوم الامبراطورية المنهارة 1 من2
نشر في الحياة يوم 24 - 04 - 2009

"انهيار الاتحاد السوفياتي كان اكبر كارثة شهدها العالم خلال القرن العشرين". هكذا وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تفكك الدولة العظمى في السابق متجاهلاً انتقادات عاصفة انطلقت في الغرب ضد عبارته. وعلى رغم ان الاصلاحات التي بدأها الرئيس الذي ظهر فجأة على المسرح السياسي الروسي في العام 1999، قوبلت باستياء واسع في الغرب ووصفها بعضهم بأنها تراجع عن مسار الديموقراطية، فإن اللافت ان معدلات تأييد بوتين داخلياً حافظت على مستويات قياسية طوال السنوات السابقة. وبالنسبة الى كثير من الروس فان سياسة اعادة هيكلة السلطات وتركيز الصلاحيات بيد الكرملين وملاحقة"حيتان المال"ومحاكمة بعضهم، وغيرها من السياسات التي أثارت حفيظة الغرب، شكلت تلبية لمطلب حيوي يجمع عليه كثيرون في روسيا رأوا في السياسات الحالية لبوتين على الصعيدين الداخلي والخارجي توجهاً لرد الاعتبار لروسيا والمحافظة على ثرواتها ومحاسبة المسؤولين عن نهب مقدراتها خلال مرحلة الانهيار.
والأكيد ان بداية التسعينات من القرن العشرين كانت عاصفة في روسيا، والاحداث المتسارعة بوتيرة غير معهودة تزامنت مع تداخل في التفاصيل القى بظلال معتمة على كثير من الاحداث والشخصيات التي لعبت دوراً محورياً في هذا الجزء من تاريخ روسيا المعاصر، فالانهيار الدراماتيكي للاتحاد السوفياتي والتداعيات المأسوية على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية تركت آثاراً عميقة ما برحت روسيا تعاني منها، وصنعت في الوقت نفسه هياكل سلطوية جديدة او بالأصح اشباه هياكل سلطوية كان ابرزها ما عرف وقتاً طويلاً باسم"العائلة"وهي بعبارة اخرى مجموعة من المسؤولين وأصحاب النفوذ والاثرياء الذين حكموا روسيا وتحكموا بثرواتها نحو عشر سنوات كانت حافلة بالاحداث... والمصائب.
"الحياة"تفتح صفحات مرحلة ظلت في كثير من جوانبها غامضة بالنسبة الى كثيرين، والأكيد ان سنوات طويلة اخرى ستمر قبل ان تتضح كل معالم الدور الذي لعبه افراد قلة في تحديد مصير البلاد.
في كانون الثاني يناير 1999 نشرت احدى الصحف الروسية مقالاً مثيراً حول نشاط شركة"اتول"التي تجسست على مدار سنوات بحسب المقال الذي أثار ضجة كبرى في حينه، على افراد عائلة الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسن. وشملت اعمال المراقبة والتنصت تحركات الرئيس نفسه، واللافت ان المقال الذي جاء على شكل رسالة مفتوحة الى النيابة العامة الروسية، طالب بفتح تحقيق عاجل واجراء تفتيش لارشيف الشركة المذكورة.
بعد ذلك بنحو شهر واحد اجرت النيابة العامة الروسية تفتيشاً دقيقاً في مقر شركة"سيب نفط"الروسية وهي واحدة من كبريات شركات النفط التي انتقلت من القطاع العام الى ايدي مجموعة محددة من المستثمرين.
في يوم التفتيش نفسه، وجه يلتسن رسالة الى مجلس الفيديرالية الشيوخ اقترح فيها اقالة النائب العام الروسي يوري سكوراتوف من منصبه.
هذه الاحداث الثلاثة تبدو متفرقة ولا يجمع بينها ظاهرياً الا مرور اسم النائب العام في كل منها، لكن كثيراً من التفاصيل التي عرفت لاحقاً أظهرت ان الواقع لم يكن بهذا القدر من البساطة!
فشركة"اتول"هي مؤسسة خاصة ظهرت في منتصف التسعينات وتخصصت في مجال اعمال الحراسة، ولم يكن نشاطها ليثير اهتمام احد لو لم تكتشف الصحيفة التي نشرت المقال ان صاحبها هو البليونير بوريس بيريزوفسكي، احد اركان"العائلة"والشخصية الاكثر نفوذاً في روسيا كلها. ولم يكن سراً، حتى في ذلك الوقت، ان علاقة وثيقة تربط بيريزوفسكي بالرئيس يلتسن، وان الاول كان يستخدم نفوذه لحل كثير من المشاكل التي تعترض كبار رجال المال من المقربين اليه حتى ان احدهم وصف الوضع قائلاً ان"حيتان المال"كانوا يقفون على ابواب بيريزوفسكي للحصول على مساعدة في تسوية كثير من المسائل المالية او، مثلاً، لوضع اليد على غنيمة ما من مصانع الدولة السوفياتية او المؤسسات التي وجدت طرقها مثل غيرها الى مقاصل التخصيص العشوائي.
اما"سيب نفط"فهي تعود بملكيتها لبوريس بيريزوفسكي نفسه مع شريكه رومان ابراموفيتش، وقصة ملكية هذه الشركة بسيطة وهي مماثلة لمئات القصص الاخرى: في عام 1997 اعلنت الدولة اجراء مسابقة لبيع 51 من اسهم الشركة النفطية، وبعد فتح المظاريف"فازت"شركة"الاتحاد الاقتصادي النفطي"التي يملكها بيريزوفسكي وشريكه في المسابقة، ودفعا مبلغ 110 ملايين دولار ثمناً للاسهم المذكورة تشير تقديرات الخبراء الى ان الثمن الفعلي للاسهم يصل الى بلايين عدة.
المهم في الموضوع ان اصحاب"سيب نفط"علموا بتحضيرات تقوم بها النيابة العامة في مطلع شباط فبراير 1999 لاجراء تفتيش موسع والتدقيق في نشاطات الشركة، ولم يكن الوقت كافيا لالغاء قرار التفتيش، على رغم السلطات الواسعة بيد"عراب العائلة".
وتشكلت على الفور صورة مثيرة، اذ ان المقال حول نشاط"اتول"التجسسي، وعملية تفتيش"سيب نفط"شكلا ضربة موجعة لبوريس بيريزوفسكي، وغدا من الواضح ان ثمة من يقوم بتحريك حملة منظمة ضد الرجل. والاكيد ان بيريزوفسكي الذي كان على دراية واسعة ب"المطبخ السياسي"في روسيا انذاك، ادرك ان المسألة لا تتعلق بالصراعات السياسية الدامية والمتواصلة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي بين المجموعات ومراكز النفوذ المتنافسة، وسرعان ما اكتشف ان شخصاً واحداً يقف وراء هذه التحركات، لهدف لم يكن معروفاً بعد، هذا الشخص هو يوري سكوراتوف، المدعي العام الروسي.
وليس خافياً، ان يلتسن الذي كان المرض اشتد عليه، وهبطت مستويات شعبيته الى ادنى درجاتها منذ سنوات، بدأ اواسط عام 1998 البحث عن خلف له يكون قادراً على تقديم ضمانات بعدم تعرض يلتسن وافراد عائلته وحاشيته الى ملاحقات قضائية بعد خروج الاخير من الكرملين. وعندما وقع الرئيس قرار تعيين سكوراتوف نائباً عاماً، سادت قناعة انذاك عند جزء كبير من النخبة الحاكمة، بأن نجاح سكوراتوف في ادارة منصبه الجديد سيؤهله لتسلم قيادة البلاد، لكن النائب العام نفسه اتخذ طريقاً آخر، اذ اعتبر ان قيامه بملاحقة"ملف خطير وساخن"سيضمن له طريقاً معبّداً الى رأس الهرم السلطوي في روسيا، وعندما امسك المدعي العام باطراف ملف"النشاط التجسسي"ضد الرئيس وافراد عائلته، كانت فكرته قد نضجت تماماً، خصوصاً ان رائحة الفساد المالي لأفراد"العائلة"كانت بدأت تزكم الانوف، واعتبر سكوراتوف ان مسألة التجسس والاختلاسات الجارية في"سيب نفط"كافية لتكون"الملف الساخن"الأساسي الذي يستحق اهتمام الرئيس ويفتح الطريق امامه الى الكرملين.
المشكلة كما يشير اليه بعضهم البعض في موسكو، ان سكوراتوف لم يقدّر جيداً قدرات"الحوت المالي"او لم يدرك ان يديه طويلتان بما يكفي للنيل من منافسيه وأعدائه، فأصدقاء بيريزوفسكي واعداؤه يجمعون على انه ليس ذلك الشخص الذي يمكن"المرور فوقه"للوصول الى السلطة، كما انه لا يمكن ان يترك هجوماً من هذا النوع من دون رد ساحق، والاحداث التي تسارعت بعد ذلك اظهرت ذلك بوضوح.
لم يكد يمضي بعض الوقت حتى اعلن المدعي العام فجأة ومن دون مقدمات انه مصاب بمرض خطير وان حاله الصحية في تدهور مستمر ما يستوجب تقديم استقالته للرئيس يلتسن، ولا داعي للاشارة الى ان قصة المرض المختلق ذابت بعد ذلك بسرعة ولم يعد احد يذكرها اذ ما زال سكوراتوف يتمتع بصحة جيدة حتى الآن وهو يدير مكتباً للخدمات القانونية في احد احياء موسكو الفاخرة، لكن الأهم، التداعيات التي جرت في ذلك الوقت، اذ بعد فترة قصيرة جداً، هزت فضيحة من نوع جديد النخبة الحاكمة في روسيا، بعدما سرب مجهولون شريط فيديو ظهر فيه سكوراتوف في وضع مشين مع عدد من بائعات الهوى، ووجه سكوراتوف اصابع الاتهام بتلفيق الشريط الى"جهات معينة"، واعتقد بعضهم انه يقصد بها اجهزة امنية تحركت بأوامر من دوائر الكرملين. وبحسب مصادر كانت قريبة من بيريزوفسكي في ذلك الوقت فان ما حدث كان كالآتي: تلقى المدعي العام اتصالاً هاتفياً من بيريزوفسكي ابلغه فيه بوجود الشريط في حوزته وحدثه عن"شيء آخر مثير للاهتمام"واقترح عليه ان يقدم استقالته فوراً و"بارادته".
والمؤكد ان المدعي العام حاول ان يرمي آخر سهامه، وجاء ذلك على شكل ضربة طائشة سعى الى تسديدها في ربع الساعة الأخير المتاح له، ففي آخر يوم له في وظيفته اصدر امراً بتفتيش شركة"سيب نفط"مجدداً، على امل ان يصادر النسخة الاصلية للشريط، لكن المفتشين الذين قلبوا مكاتب الشركة رأساً على عقب لم يجدوا شيئاً، واستقال الرجل محملاً بالخيبة والفضيحة، وأقفل ملف القصة الى الأبد.
طبعاً هذه قصة بوليسية من الطراز الأول، وهي في الوقت نفسه من الواقع الروسي في مرحلة جمعت فيها التطورات عناصر الاثارة والرعب واحياناً... الكوميديا.
وكثيرون في روسيا في الوقت الراهن يرفضون التعليق على مجريات الاحداث في تلك المرحلة لأسباب مختلفة، ويذهب بعضهم الى وصف تتابع الاحداث فيها بأنه وليد صدف متشابكة نسجت خيوط احداث غريبة بوقائعها ومدهشة بتسلسلها، لكن ما يجمع عليه كثيرون هو ان من الصعب ان تجد في روسيا شخصاً آخر كان قادراً على التلاعب بمصير الموظفيين القياديين"مثل بيادق على رقعة يعتقد انه مالكها"بحسب وصف احد البرلمانيين.
ولم يكن كثيرون يحبذون الاشارة الى دور بيريزوفسكي في السياسة الروسية قبل ان يصدر البليونير جورج سوروس كتابه"من اضاع روسيا"الذي حوى مقاطع تفصيلية عن الرجل، وكتب سوروس مثلاً:"... بيريزوفسكي وافراد عائلة الرئيس يلتسن بحثوا طويلاً عن وسائل لتأمين حصانة لهم وضمان امتيازات حصلوا عليها خلال فترة حكم يلتسن، ... الاكيد ان وضع بيريزوفسكي اصبح يائساً بعدما نشرت صحف اميركية تفاصيل فضيحة غسل الاموال ... لقد ادرك بيريزوفسكي تماماً انه لن يجد ملجأ في الدول الغربية يمكنه من المحافظة على امبراطوريته المالية في روسيا، وان الحل الامثل له ان يعمل على ايجاد خليفة موثوق ليلتسن يكون ضمانة اكيدة له".
كما انه اورد تفاصيل عن مسائل ما برحت تعد بالغة الحساسية بالنسبة الى روسيا اليوم، مثل علاقة بيريزوفسكي بالمقاتلين الشيشان ودوره في تأجيج الحرب في القوقاز وهو يقول في أحد فصول كتابه ان بيريزوفسكي"تفاخر عندما كنا على متن طائرتي متوجهين من منتجع سوتشي الى موسكو بعلاقاته الوثيقة مع المقاتلين وكيف انه اشتراهم".
بداية صعود "العائلة" ونشوء ظاهرة "الروس الجدد"
منذ ظهور بيريزوفسكي على مسرح السياسة الكبرى في روسيا وحتى فراره منها بعد سنوات، بسبب تورطه في قائمة طويلة من الجرائم الاقتصادية والسياسية، ارتبط اسمه باسم اناتولي تشوبايس رئيس مؤسسة الكهرباء الفيدرالية الروسية اغنى مؤسسات القطاع العام وأكثرها عرضة للفساد والسرقة.
في بداية التسعينات من القرن الماضي، وبينما كان يلتسن منهمكاً بتجميع فريق قوي حوله من الاثرياء وأصحاب النفوذ الذين ساعدوه في معركته مع الشيوعيين، ظهر تشوبايس كحليف قوي ليلتسن وكأبرز زعيم للحركة اليمينية الجديدة التي رفعت شعار إدارة الظهر للماضي بسلبياته وإيجابياته وإقامة علاقات تحالف وثيقة مع الغرب لم تلبث ان تحولت الى علاقات تبعية كاملة.
ويذكر المقربون من يلتسن في ذلك الوقت ان الرجل أعرب عن امتنانه اكثر من مرة لتشوبايس الذي وقف"بجانبي في مراحل صعبة للغاية"، ويعود لتشوبايس الفضل في تقديم بيريزوفسكي ليلتسن، ووقع التعارف بين الرجلين في أتحدى حفلات الكرملين الاجتماعية. وكبادرة حسن نية واعراباً عن وفائه، سارع بيريزوفسكي الى المساهمة بقوة في تمويل حزب"روسيا بيتنا"الذي شكلته مجموعة من الليبراليين الموالين للغرب لدعم مواقع الرئيس الروسي. وقال عن الحزب في مقابلات صحافية انه"افضل تعبير عن معتقداتي السياسية"التي لخصها بضرورة"القضاء على النفوذ الشيوعي وضرب الحركة القومية الوليدة".
واستمر الرجل الذي دخل ميدان السياسة الكبرى من بوابة الكرملين بضخ اموال طائلة لتعزيز سلطاته وصولاً الى قيامه بالدور الاساس في تمويل الحملة الانتخابية ليلتسن عام 1996، كما أنفق اموالاً طائلة في مشاريع عائدة لعائلة الرئيس مثل تمويله مجلة"اوغانيوك"التي كان مدير تحريرها الزوج المقبل لابنة يلتسن الصغرى فالنتين يوماشوف بعد مرور عامين على ذلك غدا يوماشوف رئيساً للتحرير وانتقلت ملكية المجلة الى بيريزوفسكي.
هذه بعض التفاصيل التي يتذكرها رئيس جهاز الامن والحرس الرئاسي آنذاك الكسندر كرجاكوف. وأورد الرجل بعد تقاعده كثيراً من المعلومات المثيرة في كتاب أصدره، وتعرض لانتقادات عنيفة وصلت الى درجة التهديد بالتصفية الجسدية. ويشير كرجاكوف الى ان علاقة بيريزوفسكي الذي فتح بعد دخوله الكرملين ابواب المؤسسات الحكومية والمجمعات الصناعية الكبرى لأتباعه وأعوانه والمقربين منه، كانت شديدة التعقيد مع الرئيس يلتسن، فالرجل ممول اساس للكثير من نشاطات"العائلة"وهو اغدق من دون حساب على تقديم"الهدايا المختلفة"لأفراد عائلة الرئيس. وفي احد مقاطع مذكراته يشير كراجكوف الذي كان احد القلائل القريبين جداً من الرئيس من خارج العائلة، الى حادث وقع في الكرملين:"كان يلتسن يحلم بان يمتلك يوماً حساباً شخصياً يزيد رصيده عن المليون دولار، وهو اشتكى اكثر من مرة بأن هذين"السافلين"يجمعان اموالاً طائلة بسبب التسهيلات التي يقدمها لهما بيريزوفسكي ويوماشوف وفي احد الايام كان غاضباً وأطلق سيل شتائم وصل بعضها الى الرجلين، وادرك بيريزوفسكي على الفور أن عليه القيام بعمل ما، فضح مع يوماشوف اموالاً في الحساب الشخصي ليلتسن في بنك"باركليز"البريطاني، تحت غطاء ان هذه عائدات كتاب كان يلتسن أصدره سابقاً. وحتى نهاية عام 1994 كان رصيد يلتسن بلغ اكثر من ثلاثة ملايين دولار، وتبجح بيريزوفسكي اكثر من مرة لاحقاً بأنه قام بذلك".
ظهر اسم بيريزوفسكي للمرة الاولى في نهاية العهد السوفياتي عندما أسس في عام 1989 شركة"لوغوفار"مع شريك له غدا ايضاً من كبار حيتان المال الروس هو ساماتوف جابويف، واستغل بيريزوفسكي علاقات عهد الانفتاح واستفاد من شبكة واسعة من المعارف لدفع عمل الشركة الجديدة التي غدت واحدة من أكبر شركات الخدمات في الاتحاد السوفياتي خلال اربع سنوات لاحقة، لتزيد موازنتها عام 1993 عن 250 مليون دولار. قبل ذلك كان"الحوت المقبل"عمل لمدة 18 عاماً موظفاً عادياً في ادارة علمية تابعة لاكاديمية العلوم الروسية، وشكلت الاربع سنوات الاخيرة النقلة الاساسية التي ادخلته عالم المال والسياسة في روسيا الحديثة.
في أواسط عام 1994 أسس المليونير والسياسي الصاعد بقوة"اتحاد عموم روسيا لصناعة السيارات"وأطلق مشروعاً طموحاً حمل اسم"السيارة الشعبية"التي لم تر النور لكنها حققت للرجل أول بليون وأطلقت عجلة مضاعفة الأموال بسرعة البرق بعدما وعد الكرملين بپ"نسبة من الأرباح"بحسب تأكيدات أحد المقربين من يلتسن في ذلك الوقت.
في مطلع عام 2005 قرر بيريزوفسكي تأسيس امبراطورية إعلامية خاصة لدفع مشاريعه الكثيرة ومواجهة خصومه، وبعد شرائه عدداً من الدوريات قام بخبطته الكبرى عبر تأسيس محطة"او ار تي"التلفزيونية على أنقاض القناة الأولى السوفياتية، ودخل كعضو في مجلس ادارتها، لكنه اصطدم بمعارضة جزء من المساهمين لخططه التجارية في المحطة. وفي تلك الفترة لقي الصحافي الروسي البارز فلاديسلاف ليتسيف مصرعه، وهو أحد ابرز مقدمي البرامج في المحطة وأحد كبار مساهميها كذلك. وقالت مصادر قريبة من إدارة القناة ان ليتسيف عارض بقوة خطط المشروعات الإعلانية التي عرضت عليه من جانب بيريزوفسكي ومساهم بارز آخر هو سيرغي ليسوفسكي. وعلى رغم ان ملف التحقيق في مقتل الصحافي اغلق من دون التوصل الى الجناة، فإن الأكيد ان بيريزوفسكي خرج منتصراً بعد إزاحة ليتسيف وغدا خلال شهور قليلة مالك 51 في المئة من أسهم المحطة العملاقة التي عادت البرامج الدعائية اليها بكثافة.
وفي هذه المرحلة نُقل الجزء الأعظم من المؤسسات السوفياتية العملاقة الى ايدي عدد محدود من"الروس الجدد"كما اصطلحت وسائل الإعلام على تسميتهم آنذاك، وكان لبيريزوفسكي والمقربين منه نصيب الأسد في الكعكة التي قسمت في شكل عشوائي وارتجالي في كثير من الاحيان. وذكر الوزير الروسي السابق بوريس ميرونوف ان تقريراً صدر عن هيئة الرقابة قدر خسائر الدولة الناجمة عن الصفقات غير المشروعة وعمليات التخصيص العشوائية بأكثر من 18 ترليون روبل خلال عام 1996 وحده، وهو العام الذي تمكن فيه بيريزوفسكي من السيطرة على 51 في المئة من اسهم شركة"ايرفلوت"كبرى شركات الطيران الروسية وهي الاسهم التي كانت مملوكة للحكومة الروسية، ما مكّنه من فرض سيطرة مطلقة على مجلس ادارتها وتعيين مقربين منه في المراكز الحساسة فيها. وبحسب المسؤول الروسي فان القيمة التي دفعت لخزينة الدولة مقابل هذه الأسهم تقل بنحو 170 مرة عن قيمتها الأصلية.
واللافت ان بيريزوفسكي نقل خلال الاشهر اللاحقة ملكية المؤسسات التابعة ل"ايرفلوت"خارج روسيا الى شركة"اندافا"المسجلة في سويسرا وهو مالكها، كما حول خلال بضعة شهور كل الأموال السائلة لشركة الطيران الى خارج الأراضي الروسية، ما لفت انتباه أجهزة مكافحة الفساد في الولايات المتحدة وبعض الدول الاوروبية التي وجهت اتهامات للرجل بالقيام بعمليات غسيل أموال في مصارف غربية.
وعلى رغم كل ذلك واصل بيريزوفسكي تعزيز سلطاته داخل روسيا وأعلن مباشرة بعد تعيينه في مجلس الأمن القومي انه مستعد لتجميد كل نشاطاته المالية وأكد كونه مواطناً"مطيعاً للقوانين".
بعد هذه المعركة بأقل من عام وجه الجنرال الكسندر ليبيد سكرتير مجلس الامن القومي الروسي آنذاك وأحد أبرز السياسيين الروس، اتهاماً مباشراً لكل من بيريزوفسكي ومنافسه الأبرز في سوق المال امبراطور الإعلام الروسي فلاديمير غوسينسكسي بأنهما وضعا لوائح بأسماء شخصيات تشكل خطراً على نفوذهما وأعطيا تعليمات بتصفيتها جسدياً، ويبدو من الصعب التأكد من صحة اتهامات ليبيد الذي قتل بعد ذلك بسنوات في حادث تحطم مروحية كانت تقله، لكن رئيس الحرس الرئاسي ليلتسن كراجكوف صرح آنذاك للصحافة بأن بيريزوفسكي حاول اقناعه شخصياً بپ"ازاحة"شخصيات مثل غوسينسكي وعمدة موسكو يوري لوجكوف وأحد كبار المتمولين يوسف كوبزون وغيرهم.
طبعاً كراجكوف عزل من منصبه مباشرة بعد التصريح-القنبلة، وبعد اشهر قليلة تم تعيين بيريزوفسكي بمرسوم رئاسي نائباً اول لسكرتير مجلس الأمن القومي الروسي كان ليبيد قد اقيل في هذا الوقت.
تعليقات السياسيين الروس في تلك الفترة عزت قرار التعيين المفاجئ لتدخل من جانب اناتولي تشوبايس الذي كان عين قبل ذلك مديراً لادارة الديوان الرئاسي الروسي. واعتبر كثيرون ان"العائلة"أحكمت نفوذها في شكل مطلق على مقدرات روسيا بهذا التعيين، اضافة الى وجود بيريزوفسكي وتشوبايس، هناك يرماشوف وابنة يلتسن الصغرى تاتيانا التي بدأت في هذا الوقت تلعب دوراً نشطاً، وهناك الكسندر فولوشين الرئيس المقبل للديوان الرئاسي، وميخائيل كاسيانوف رئيس الوزراء المقبل، وبوريس نيمتسوف الزعيم الليبرالي الشاب الذي حافظ على مسافة محددة مع يلتسن وبيريزوفسكي، ثم مع القيادة الروسية الجديدة في ما بعد، وهناك أيضاً آخرون لم تكن صورهم معروفة بالنسبة الى الغالبية الساحقة من الروس.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.