الحملة التي تعرّض لها رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة قبيل زيارته واشنطن وأثناءها، والتي قادها نواب ومسؤولون في"حزب الله"، تذكّر الى حد كبير بمفارقات سبق ان شهدها لبنان في حقب سابقة. فهدفا سفر السنيورة الى واشنطن، كما أعلنهما الرجل، يتمثلان اولاً في اقناع الإدارة الأميركية بالضغط على اسرائيل للانسحاب من مزارع شبعا، وثانياً في البحث بمشاركة الأميركيين في مؤتمر"بيروت واحد"واستدراج المساعدات الاقتصادية والمالية. لنتذكّر قليلاً ما جرى في لبنان عندما قررت اسرائيل الانسحاب من منطقة جزين في جنوبلبنان عام 1999 يومها شهد اللبنانيون ما لا يمكن تصديقه: جيش محتل يرغب بالانسحاب من جزء من المناطق التي يحتلها فيما الدولة المُحتلة غير راغبة في هذا الانسحاب وتسعى الى عرقلته، فتعلن تارةً أنها لن تتسلم الأمن في المناطق التي سينسحب منها المحتل، وتارةً تحاول ممارسة ضغوط دولية لمنع الانسحاب. المفارقة نفسها لطالما تكررت في الجانب الاقتصادي: فجهود رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق الراحل رفيق الحريري في مجال استدراج المساعدات وعقد المؤتمرات الاقتصادية الداعمة للبنان لطالما واجهتها ريبة المقاومة وسؤالها عن الأثمان المطلوب دفعها لقاء المساعدات. السنيورة اليوم يريد ان يأتي بالمساعدات ويريد الضغط على الاحتلال لكي ينسحب! يا لهول ما يريد! وقد يؤدي به طموحه الى السعي لكي نصرف حياتنا وعيشنا على نحو ما تصرفهما الأمم بعد إنجازها قضايا"التحرير"وغيرها من القضايا التي تتقدم العيش العادي. لم يسأل السنيورة نفسه ربما عمّا يبقى لنا لنفعله اذا انسحبت اسرائيل من مزارع شبعا وإذا استقام الوضع الاقتصادي؟ وهل يليق بنا ان نتفرّغ لأمور عيشنا الصغيرة؟ هل يليق بنا ان نمضي اوقاتاً في التفكير بمدارس أبنائنا، أو تنمية أريافنا أو...؟ لكن لماذا أعطى الرئيس الأميركي جورج بوش موعداً لرئيس الحكومة في اليوم الذي يصادف فيه ذكرى المجزرة التي ارتكبتها اسرائيل في بلدة قانا عام 1996؟ ألا يدعو هذا الى الريبة!؟ المشكلة أن جميع اللبنانيين يعلمون ان ذلك لا يدعو للريبة تماماً كما كانوا يعلمون ان الدولة اللبنانية و"حزب الله"لم يكونا راغبين في ان تنسحب اسرائيل من جزين. وهذا اليقين لم يُعق مشروعية هذا التوجه، فيما يقينهم اليوم من عدم ارتباط الزيارة بذكرى المجزرة الإسرائيلية لن يضعف هجوم نواب"حزب الله". لقد انتقل"اليقين اللبناني المقاوم"من مرحلة الحاجة الى ابقاء سلاح المقاومة حتى تحرير المزارع الى الحاجة اليه بانتظار تسوية الصراع العربي الإسرائيلي. والمنحازون الى سلاح المقاومة يفصحون عن هذه القناعة ليلاً ونهاراً، وهم بذلك يستبقون أي مسعى الى تحرير المزارع، كما أنهم يشعرون بأن أي مسعى الى تعزيز الوضع الاقتصادي إنما هو صادر عن وعي مختلف ليست"المقاومة"أولوية في مشاريعه. قبل الانسحاب السوري كانت"النيّات"عرضة للمحاسبة. نجاح مؤتمر باريس 2 مثلاً اعتبر اجتراح سياق لا يمت الى"المقاومة"بصلة وان كان لا يعيق اداءها. تمت محاسبة رفيق الحريري وفقاً لهذا المنطق. إنه رجل يشق طريقاً لا تفضي الى الصراع . أُجهضت نتائج المؤتمر وأعلن لبنان من دون أن يعلن ذلك رسمياً انه لا يحتاج الدعم الدولي. ومع الوقت حوّل السوريون تقنيّة التفكير هذه الى حساسية، على رجل السياسة في لبنان اكتسابها ليجد له مكاناً في الشأن العام. انها المناعة حيال اي تطلّب خارج سياق الصراع. المشكلة ان لبنان الضعيف والمتآكل والمتنازع لا يستقيم وفق معادلة الاستبداد هذه. ليس الأمر ضرباً من التمجيد، او شعوراً ساذجاً بالنفس. انه لبنان تركيبة أخرى أقل انسجاماً من تلك التي تحتاجها شعبويّة الصراع، والدليل الأوضح على ذلك ما انكشف لاحقاً من محاولات قام بها رفيق الحريري في سياق مقاومته الصامتة لهذه المعادلة، وهو ربما قتل في سياق مقاومته هذه. ففي الوقت الذي تنساق جماعة لبنانية الى منطق"الصراع"ستشعر جماعة ثانية أنها مستهدفة بهذا الصراع او على الأقل منساقة إليه رغماً عنها، وستحاول جماعة ثالثة الاستفادة من الخلاف بين الجماعتين لتعزيز نفوذها على صعيد آخر. مأزق لبنان هو مأزق"حزب الله"أيضاً، فهذا الأخير عاجز عن تأمين الانسجام حالة النعاس الاجتماعي الذي يفترضه الصراع. في السابق تولى السوريون تأمين انسجام قسري ساعد الحزب وعزز خطاب المواجهة، أما اليوم فمعضلة الحزب تكمن في غياب هذا الانسجام، وفي وقوع الصراع في مأزق الانقسام. تصريحات نواب"حزب الله"ومسؤوليه التي تناولت زيارة السنيورة واشنطن تنتمي الى أداء مضمر في السياسة السورية السابقة في لبنان، لكنها لا تمتلك فعاليتها. في السابق كانت إشارة سورية صغيرة كافية لتعطيل مؤتمر او زيارة خارجة عن سياق الصراع. أما اليوم فاستحضار تزامن ذكرى مجزرة قانا مع الزيارة لا يبدو فاعلاً او مؤثراً، ولن نقول مقنعاً اذا كنا اعتبرنا ان الإقناع لم يجد يوماً طريقه الى حلبة الرقص العربية في لبنان. قياديو"حزب الله"الذين دانوا زيارة السنيورة لم يكونوا قادة صفٍ أول. لهذا دلالة طبعاً، فهذه التصريحات يمكن ان تكون مناوشات هامشية لم يعد من الممكن للحزب ان يجعلها في متن قضاياه في ظل المعادلات الجديدة. وما يجب مراقبته من الآن وصاعداً هو مدى شعور الحزب بهامشه هذا، فهنا يُرصد أثر تصدع النفوذ الإقليمي في لبنان، او أثر تماسكه والتقاطه انفاسه. لا يعني هذا الكلام ان السنيورة سينجح في مهمته وستنسحب اسرائيل من المزارع وستتدفق المساعدات على لبنان. كما لا يعني ان"حزب الله"انخفضت قدراته الداخلية الى حدٍ يمنعه من التأثير في المعادلة الداخلية. لكنه يعني ان قدرة السنيورة زادت وان هامش خطاب"الصراع"تحدّد أكثر ولم يعد من السهل اعتباره معادلة الحياة الوحيدة. في السابق كان الحريري، وبعد ان تطأ قدماه الطائرة العائدة الى لبنان من جولة دولية، يبدأ وهو في الطائرة بإحصاء الخسائر وتوقّع الحملات. اليوم يعود السنيورة الى بيروت شاعراً على الأقل بأن نواب التكتل النيابي الذي سمّاه رئيساً لن يتولوا هم انفسهم مهمة الهجوم عليه، وأن"حزب الله"سيدفع بمسؤولين فيه من الصف الثاني الى مهاجمته تاركاً هامش"تسامح"واسع مع الزيارة. وأيضاً، لا يعني هذا ان الربيع مسرع باتجاهنا، لكن لا بأس بزهرة وسنونوة.