ليس مجرد مصادفة ان يتزامن اعتراف الرئيس جورج بوش بعدم تحقيق اميركا انتصاراً في العراق، وما يشبه النداء الذي أطلقه رئيس الوزراء البريطاني توني بلير لتشكيل "تحالف المعتدلين" في مواجهة "قوى التطرف في إيران وغيرها"، مع سعي روسيا الى "اصطياد" أوراق جديدة في المنطقة لتطوي مرحلة انكفاء لدورها، تكرست خصوصاً مع غزو العراق. وليس لغزاً ان تبادر موسكو الى مزيد من التصلب، لانتزاع مخالب المشروع الأوروبي لفرض عقوبات على طهران، ثمناً لتحديها مطلب وقف برنامجها النووي. فاللحظة الراهنة تقهقر لمشاريع بوش وإيديولوجيته التي صنّفت حلفاء للكرملين، مثل ايران وسورية، على لائحة"الدول المارقة". إنها لحظة"الردة"على استئصال النفوذ الروسي في الشرق الأوسط والخليج العراق، تستغل بيسر تخبط البيت الأبيض في مستنقع الدماء العراقية، فيما حلفاء موسكو ينقضون أو يظنون انهم ينقضون على ما سمي المشروع الأميركي للديموقراطية في المنطقة، ويبتهجون ب"كسبهم"الرهان على الوقت، بعدما بلغ بوش نصف ولايته الثانية. والكسب مسألة فيها نظر، اولاً لأن الديموقراطيين العائدين الى دوائر القرار في الولاياتالمتحدة لن يلهثوا وراء فتح حوار مع"الدول المارقة"، لمجرد عدم رضاهم عما جلبته استراتيجية الجمهوريين من كبوات وفضائح… وثانياً لأن لا ضمان بوجود قوة إقليمية قادرة على كبح الأصوليات غير"المبرمجة"التي ما ان تنكفئ القوى العظمى في العالم عن مسرح المنطقة وزلازلها، ستنقض على الشرعيات، بما فيها تلك التي تلاعبت بورقة التطرف، لتعرض خدمات وتقطف أثماناً. الأكيد ان الكثير في مرحلة الزلازل الإقليمية، يغري موسكو بالعودة، من بوابة السلاح والمصالح الاقتصادية والسياسة وعرض الخدمات"النووية"المدنية. إنما البديهي ايضاً ألا يتوهم الكرملين بحصد ثمار سهلة، ما ان تبدأ واشنطن الانسحاب من العراق - وهي لن تفعل ذلك بعد شهور قليلة - أو يتوهم بالقدرة على دفع الغرب الى التخلي عن معاقبة ايران، على رغم مقاومته الضارية المشروع الأوروبي للعقاب. حين يعلن بوش ان"الأعداء"لن يرغموا اميركا على الخروج من المنطقة، انما يعني ان معركة إخراجها بدأت بالفعل، على ايدي"المتطرفين"الذين أطلق حليفه بلير حملة لحشد"تحالف"يصدهم، بدءاً من ايران الى العراق مروراً بلبنان الى فلسطين، مع التذكير بأن الهدف ليس ايران الشيعية. ومرة أخرى، يجدر طرح السؤال هل هو مجرد مصادفة تهديد الرجل الثاني في تنظيم"القاعدة"أيمن الظواهري بضرب أميركا والغرب مجدداً في القلب؟ ومَنْ ينافس التنظيم حين يعلن انه القوة التي ينبغي التفاوض معها؟ على حافة الزلازل، لم ينسَ أحد بعد دعوة ايران الى إلحاق هزيمة بالولاياتالمتحدة في لبنان. انقلب الأمر سريعاً الى محاصرة الحكومة اللبنانية. تشجعت طهران بورطة بوش العراقية وتعثّر طموحاته في"الشرق الأوسط الجديد". طوّر الرئيس محمود أحمدي نجاد الأهداف، فلم يعد يكتفي برؤية"زوال"إسرائيل، تسلّح برؤية"دينية"ليضيف أميركا وبريطانيا متوقعاً لهما مصير الفراعنة، بموجب"وعد إلهي". ولا أحد سيسأل نجاد بالطبع عن هذا الوعد، فيما هو يخاطب شعبه بلا سياسة، ويمنح الغرب ذريعة جديدة ل"تعبئة"ضد التطرف، تكتسب شرعية شعبية بالاستنفار في مواجهة الخطر الآتي من الجمهورية الإسلامية ل"محو"حضارات. من دون الغوص في شرعية الوعود، يبدو المأزق الكبير في المنطقة تحت سقف الصراع الأميركي - الإيراني، ان كل رهان على احتمالات صفقة بين واشنطنوطهران، تحاصر الزلازل او تضبط ارتداداتها، يتهاوى امام إصرار الجمهورية الإسلامية على اللاعودة عن البرنامج النووي، وكذلك توهم إرغام البيت الأبيض على توجيه استغاثة لطهران، لعلها تنقذه من عثرات بوش في المنطقة! وبين وعد يراه نجاد"إلهياً"، وآخر يطمئن المرشد علي خامنئي شعبه الى"ثوريته"، تنغلق كل أبواب السياسة والتفاوض، ولا يبقى سوى التصعيد والوعيد، بساحات بعيدة عن ايران وأميركا… فيها يحصي أهل المنطقة قتلاهم ونكباتهم، بانتظار مزيد من الوعود، وحلول لا تأتي. بين الوعيد والوعود، لا سياسة… بين قوة عظمى تدفّع الشرق الأوسط ثمن غطرسة القوة الأميركية، وجمهورية تحلم بامبراطورية ل"الثورة"، ظن الجميع ان رياحها غابت مع رحيل الخميني. مع هذه الجمهورية يُحشر العرب الآن بين أسود وأبيض، فإما ان يكونوا حلفاء لها بامتياز، وإما أعداء… بالفطرة.