ظاهر الأمر ان لقاء جنيف اليوم، الأرفع مستوى منذ عقود، بين إيران والقوى الكبرى ممثلة بالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا، وفي حضور الشاهد خافيير سولانا، هو أقرب الى حوار الطرشان... كما عوّدت طهران الغرب، ليتهمها بالتسويف في الملف النووي. وإذا كان اكيداً أن اللقاء ليس مثيلاً لاجتماع جنيف (9 كانون الثاني – يناير 1991) الذي وجّه الوزير جيمس بيكر خلاله الإنذار الأخير لطارق عزيز كي يسحب صدام حسين القوات العراقية من الكويت، يبدو شبه أكيد أن إدارة الرئيس باراك أوباما تطمح الى تدشين سلسلة اجتماعات مع الإيرانيين، ولا تستبعد البحث في الاعتراف بنفوذ إقليمي لهم. وإذ يقترب من النكتة ان ترد طهران على وصف الوزيرة هيلاري كلينتون لقاء اليوم، باختبار للطرف الذي صَدَم الغرب حين كشف منشأة اليورانيوم المحمية بالصواريخ قرب قم، فتشدد على الذهاب الى جنيف ب «نيات طيبة»، لتصبح مهمة سكرتير مجلس الأمن القومي الإيراني سعيد جليلي اختبار نيات الدول الكبرى، فالحال ان المرشد علي خامنئي يدرك دنو ساعة «الصفقة»، وأن الجزرة الأميركية بديل واقعي للعصا الإسرائيلية. ولهذه العصا حسابات الرد الموجع بالطبع، كما لا يمكن إيران ان تستبعد فرض التهديدات الإسرائيلية بالخيار العسكري، خيار العقوبات الدولية الصارمة. وإن لم يخفِ البنتاغون فتوره إزاء أي ضربة، فاطمئنان إيران الى «التعقل» الأميركي، يوازيه حتماً قلق جدي من ارتفاع أرصدة العقوبات، في وقت تواجه في الداخل أزمة لم تخمد نارها مع المعارضة. والحال ان كشف قم «النووية» سيعزز الطروحات الأوروبية المشككة في كل ما تعلنه طهران، على قاعدة ترجيح الكذب بقول ربع الحقيقة أو نصفها. صحيح ان موسكو تتقلب بين التشبث بمصالحها في ايران، ونفوذها في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى عموماً، حيث أهداها أوباما تمزيق مشروع جورج بوش للدرع الصاروخية، لكن المعادلة لا تستقيم ولو نظرياً، كما لا يمكن الكرملين السقوط في وهم الإغراء بالسعي الى امتلاك كل الأوراق في سلة واحدة، أي الرهان على تقهقر أميركي شامل. واضح ان وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون حاولت خلال لقائها في نيويورك وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ووزراء مصر والعراق والأردن، طمأنة الجميع الى تمسك البيت الأبيض بالحل السياسي مع طهران، رغم عدم استبعاد أوباما خيار الضربة العسكرية، وهو خيار لا تريده المنطقة في كل الأحوال، لأن أكبر الأثمان سيكون من نصيبها. في المقابل أجاد وزير خارجية البحرين الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة في حديثه الى «الحياة»، حين عبّر عن حال العرب الآن، وهم بين سندان «ثمن الضربة» وثمن أي اتفاق ليسوا جزءاً منه. لا يخطر في البال ان كلينتون وعدت الوزراء بإشراك العرب في «الصفقة»، أو توزيع خرائط النفوذ الإقليمي حصصاً، على أمل مباركة دولهم ان تمنح مما تملك مَن لا يملك حق المطالبة بتقرير شؤون سيادية للغير. ويكفي «برنامج العمل» الإيراني للمحادثات مع الدول الكبرى، كي يرسخ مزيداً من المخاوف في المنطقة، والخشية من ان تكون المبارزة الكلامية بين الجمهورية الإسلامية في ايران و «العدو السرطاني» إسرائيل، زوبعة كلام لخداع العرب فيما يقترب سريعاً الفصل الأول من تفاهمات صفقة سمّته واشنطن «آلية». لا يبدّل في واقع تلك المعادلة، الحملة الإسرائيلية على «النظام المجنون» في طهران، ولا جنون وزير الخارجية الإسرائيلي افيغدور ليبرمان النادم الذي لم يخفِ حسرة: «أهدرنا فرصة عام 2001 لمعالجة المسألة الإيرانية على غرار العراق»، فلم تكمل القوات الأميركية حملتها الى طهران بعد بغداد. الثابت ان أحداً من العرب لا يتمنى حرباً على إيران في منطقة ما زالت تكتوي بنتائج حرب اكتسبت «شرعية» مزيفة من كذبة كبيرة. لكن الأكيد ايضاً، ان استضعاف العرب تجاوز القعر منذ غزو العراق، وأن أي خطأ في الحسابات، في «الصفقة» أو شد العضلات سيرغم إيران ايضاً على دفع ثمن استعادة عنتريات صدام، وتوهم القدرة على تركيع الغرب بصدمة قم «النووية». لا أوروبا ولا أميركا تتحسر على مصالح العرب، لكن الأكيد ايضاً انهما لن تستسلما أمام وعيد محمود أحمدي نجاد، فتتركان لإيران القدرة على التفكير بامتلاك القنبلة النووية، والهيمنة على الخليج والشرق الأوسط.