لا يفوت الناظرَ الى أرييل شارون ملاحظة التفاوت الضخم بين سرعة مشيه وتثاقُل جسمه السمين. أما المتمعّن في حياته ودوره فيلاحظ تفاوتاً أكبر وأهمّ، هو فصلٌ في تاريخ إسرائيل وما قبل تاريخها. ذاك أن بعض ما ورثه"البولدوزر"وعبّر عنه هو، بالتحديد، فارق الولادة بين"الصهيونيّة العمليّة"، في ثمانينات القرن التاسع عشر، و"الصهيونيّة السياسيّة"التي انبثقت من مؤتمر بال بازل في 1897. فإذ راح ينتاب الأخيرةَ شعورٌ بالفشل والإحباط مع وفاة مؤسسها ثيودور هرتزل عام 1905، كانت الأولى، غير العابئة بنضج الظروف واكتمالها، أو بالحصول على موافقة الدول المؤثّرة، تحرز نجاحات متتالية. "دونمٌ بعد دونم"، هذا ما كانه شعار"الصهيونيّة العمليّة"، أما السياسيّون والإيديولوجيّون فلتأكلْهم النار. وفعلاً كان"أحبّاء صهيون"، روّاد ذاك الضرب من الصهيونيّة، قد أحدثوا مبكراً تغييرات فعليّة على الأرض جسّدها التوسّع النسبيّ للهجرة وإقامة المستوطنات الزراعيّة ومؤسسات التعليم اليهوديّ، فضلاً عن بواكير المشاريع الصناعيّة. وحين بدا، في 1907، أن فكرة"الدولة اليهوديّة"التي حملها"الصهيونيّون السياسيّون"موشكة على الضمور، أسس"الصهيونيّون العمليّون"، في مدينة يافا،"مكتب فلسطين"منصّةً أولى لانطلاقهم. وهو جميعاً ما سبق ولادة أرييل شارون المولود في 1928 في فلسطين لأسرة استيطان زراعيّ حيث الأمّ تنام وتحت وسادتها بندقيّة. وبالمعنى هذا، كان"أريك"الصغير سليل بيئة تفاخر بأسبقيّتها على السياسيّين المُعوّلين على ظروف ملائمة، وعلى الإيديولوجيّين المبالغين في تفكير الأمور وتنظيرها بينما الواقع خامٌ مستسلم ينتظر من يصنعه. فيومَ كان الأوّلون يجسّون نبض العواصم العالميّة، والأخيرون يرسمون تصوّرات مُسبقة يُراد للخطى أن تلهث وراءها، كان"أريك"اليافع يعتدي على السكان المحليّين من عرب محيطين بقريته، كفر ملال، ويتمدّد على حسابهم وحساب أرضهم. وتبعاً لخلفيّته، نما شارون إراديّاً ومغامراً في وقت واحد، يخلق الوقائع بيد وبيد يدافع عنها، حتى لتغدو المغامرة الإراديّة كلّ سياسته وكنه إيديولوجيّته. فقد كان هدف حياته، كما كتب أحدهم،"أن يضمن الأمن الكامل لإسرائيل بشروطه هو". ولإنجاز هدف كهذا، صار شعارٌ ك"الأردن هو فلسطين"أحد ثوابته المديدة، لا يزحزحه عنه اكتراث بدول أو حساب لخرائط وحدود. وغيرَ هيّاب، توّج حياته بحصار ياسر عرفات في المقاطعة، فجافى كل ما درجت عليه السياسة وتواضعت المعايير. بيد أن مبدأه القائل بالإبقاء على الحد الأقصى من الأرض لم يمنعه من مغادرة غزّة وأربع مستوطنات في شمال الضفّة الغربيّة الصيف الماضي. ذاك أن شارون"العمليّ"يعرف أن فيض الأرض المصحوب بنقص الديموغرافيا يتحوّل، على ما اكتشف هو ووريثه إيهود أولمرت، عبئاً على الأمن والأرض نفسهما. وهو يعرف، كذلك، أن الانسحاب من طرف واحد، ومن غير تفاوض، لا يعطي الخصم إلا فوضاه. والأرض وأمنها ظلا لحياته مثل الظلّ لصاحبه. ولربما كان التشبّع بهما، والتكرّس لهما، ما أجاز نقص المبدئيّة في ميادين أخرى، فكان في بعض أطواره السياسية انتهازيّاً، وإن لم يتأكّد فساده هو، تأكّد فساد الأنجال الذين صدروا عن بيته وتربيته. وهو ما نقع على ما يوازيه في سِيَر كولونياليين بيض تمدّدوا في الغرب الأميركيّ، أو الجنوب الأفريقيّ، فاقترن عندهم التسامي والغيريّة حيال قضيّتهم بالسفالات في ما عداها. والراهن أن حياة شارون، وقد دارت حول الأمن وتركّزت حول الأرض، ارتسمت طريقها بوضوح لا يعتريه التباس: فقد دشّنها في منظمة"الهاغانا"العماليّة وتحت لوائها شارك في حرب 1948. وفي 1953 نفّذ، وكان ضابطاً صغيراً على رأس"فرقة الكومندوس 101"، عمليّة في قرية قبية الأردنيّة أسفرت عن مجزرة التهمت 69 مدنيّاً. وقُبيل قبية، كان لقاؤه الأول ببن غوريون الذي، حسب شارون، أعاد على مسامعه درساً ثميناً، وإن كان"إريك"الشاب في غنى عن الاستماع اليه. فقد قال له مؤسّس الدولة:"دعني أُخبرك، في البداية، شيئاً واحداً: لا يهمّ ماذا يقول العالم عن إسرائيل. لا يهمّ ماذا يقولون عنّا في أيّ مكان. الشيء الوحيد المهمّ هو أن نتمكّن من البقاء هنا على أرض أجدادنا. وما لم نُظهر للعرب أن ثمة ثمناً غالياً يتوجّب دفعه مقابل قتل اليهود، فإننا لن نبقى". ولم يعرف بن غوريون الا لاحقاً أنه إنما يبشّر مؤمناً متزمّتاً كان حريّاً التخفيف من غلواء إيمانه. فبعد عامين على قبية، وفي سياق المجابهات مع"الفدائيّين"المتسللين من الغرب، كانت لشارون عمليّة أخرى في القطاع أودت ب38 جندياً مصرياً. ثم تقدّم، في"حملة سيناء"عام 1956، نحو ممرّ متلا، متجاوزاً أوامر القيادة السياسيّة التي كان على رأسها ناصحه بن غوريون. وعام 1967، كان شارون أحد أبرز الضبّاط الميدانيين في حرب الأيّام الستة ومغانمها ثم، بعد ذاك، ورغم تقاعده من الجيش، استُدعي اليه فنفّذ العبور المضادّ في حرب 1973 وقلب، بالدفرسوار الذي أحدثه، معادلة النصر والهزيمة. وقد ذُكر، لاحقاً، أن نزعته المغامرة تسبّبت بموتٍ كثير كان يمكن تفاديه، أو، أقلّه، تفادي معظمه. على أن الجنرال المتقاعد لم يُبعده التقاعُد عن حقله الأثير. ففي أواسط السبعينات، عمل مستشاراً خاصّاً بالأمن لدى رئيس الحكومة يومها إسحق رابين. لكنه أعطى الاستيطان، بوصفه وزيراً للزراعة بين 1977 و1981، زخماً واندفاعاً غير مسبوقين. وكوزير دفاع في 1982، هندس حرب لبنان التي انتهت، بين ما انتهت، الى إخراج"منظّمة التحرير الفلسطينيّة"منه وحدوث مجزرة صبرا وشاتيلا. وكوزير إسكان، أوائل التسعينات، واكب الهجرة الروسية الى بلاده بإطلاق حركة تعمير كثيفة في مستوطنات الضفّة والقطاع. فحين وُقّع اتفاق أوسلو، عام 1993، دعا شارون، ردّاً عليه، الى تكثير الوحدات الاستيطانيّة الى"بضع مئات الآلاف". أما نُصُب عقيدته الأمنيّة فكان، ويبقى، بناءه الجدارَ الشهير إبّان تسلّمه رئاسة الحكومة. هكذا تتعدّد الطرق الى الأمن والأرض، بعضها بالعسكر وبعضها بالسياسة، فيما المحطة الأخيرة تبقى إيّاها. وفي سياق كهذا، قدّم تاريخ"المحارب"، حسب عنوان إحدى السِيَر التي تناولته، عشرات الأمثلة على احتقاره الرأي العام والديبلوماسيّة، وعلى ضعف اكتراثه بالأفكار والأحزاب حيث الأولويّة المطلقة للأمن. بيد أن التاريخ نفسه جعل بعض المعجبين به، والمقرّبين منه أو المقرّب هو منهم، لا يمحضونه ثقتهم. فأولويّته تلك تجبّ التعهّدات ولا تني تتمرّد على المعايير والأُطُر والأوامر. فقد سمّاه ديفيد بن غوريون، الذي سلّم بصفات كثيرة له رآها إيجابيّةً، كذّاباً. وهو وقد نجح في حرب 1967، لم يُسمَ رئيساً للأركان لاتهامه ب"عدم احترام الحياة الإنسانيّة في الحرب"، لا سيما في معركة أم قطيف. ولم تتعدّ استشارة رابين له السنةَ، فيما اصطدم مناحيم بيغن بكثيرين، بمن فيهم موشي دايان، حين اختاره وزيراً للدفاع عام 1981. ولئن تشارك الاثنان، قبل ذلك، في عمليّة السلام مع مصر وتفكيك مستعمرة ياميت، خُدع به بيغن في حرب 1982 والمدى المقرّر لها. وقد انتهى أمر شارون يومذاك بحكم قضائيّ ضدّه أخرجه من الحكومة وكاد أن ينهي حياته السياسيّة. وأوائلَ التسعينات، ضغطت الولاياتالمتحدة لعدم تسليمه وزارة الإسكان. لكن إسحق شامير الذي وزّره تعرّض لفجاجته وإهانته، حين تحدّاه في قيادة"ليكود"، ثم انتزع منه الميكروفون وهتف عالياً:"مَن الذي [منّا] يناهض الإرهاب؟". وفي وقت لاحق، ضغط أقصى اليمين فضمّه بنيامين نتانياهو، وقد فاز بالسلطة في 1996، الى حكومته. ويبدو، بموجب وجهة الأحداث كما بتنا نعرفها، أن زيارة شارون الشهيرة الى المسجد الأقصى-جبل الهيكل، عام 2000، كانت محاولة ناجحة لإغراق السياسة في الأمن، والقضاء تالياً على أوسلو. فهنا، لعب الجميع على أرضه، ووقعوا في فخّ تحوّل بموجبه من سياسيّ"غير صالح للانتخاب"الى رئيس حكومة شعبيّ ومُنقذ. وفي الغضون هذه، شارك، في 1973، في تأسيس"ليكود"خليطاً قوميّاً-ليبراليّاً يندر مثيله خارج إسرائيل. ثم، في 1976، حين لم يُضمّ الى لوائح حزبه لانتخابات العام التالي، أسّس حزب"شلومزيون"، أو"جبهة الأوفياء لأرض إسرائيل"، وحاول عبثاً أن يجذب اليه موشي دايان الذي جمعه به قدر من صوفيّة الأمن والأرض والبندقيّة. لكنه، على أيّة حال، جرّ الى حزبه يساريين بارزين، كالسياسيّ يوسف ساريد والكاتب أموس كينان، مُختاراً للحزب الوليد برنامجاً سلمياً ومُنفتحاً، ومُعزّزاً حجّة كارهيه من أرثوذكسيي"ليكود"الذين قالوا إنه"يشبه"العمل"أكثر مما يشبهنا". فعندما لم تمنّ نتائج الانتخابات عليه الا بمقعدين نيابيين، حلّ الحزب وعاد أدراجه الى"ليكود"مستفيداً من حاجة بيغن الى مقعديه كي يصير إئتلافه أكثريّاً. ومؤخّراً، حملته نظرته المركزيّة والعمليّة الى الأمن، على أثر تفكيك المستوطنات التي بنى هو نفسه معظمها، الى الانسحاب من"ليكود". هكذا أسس"البولدوزر"تشكيلاً سياسيّاً أعطاه إسماً يشبه الأوامر التي تُوجّه الى الجيش كي يهاجم:"كاديما"أو"قُدُماً"، وهو حزب يكون له، وفيه يكون السيّد المطلق. وقياساً بقادته ومُجايليه ورفاقه على السواء، يبقى شارون نسيج وحده. فهو لا يملك تصوّف بيغن المعتقديّ والتاريخيّ الذي دفعه، لسبب ولا سبب، إلى استحضار خوف اليهود الأوروبيين وذاكرة المحرقة. فشارون يتصرّف من دون عمق بسيكولوجي أو تأويل نظري، ومن دون معاناة للتاريخ أو المحرقة. لهذا، كنّ"أمير الخوف التاريخي والميثولوجي"، بيغن، إعجاباً ب"اليهوديّ المقاتل الأكثر إخافةً منذ المكابيين". فهو نيتشويّ طبيعي إذا جاز التعبير، لم يعرف تجربة قوميّة، نظاميّة وشبه فاشيّة، كمنظمة"بيتار"ذات المنشأ البولندي، ولا تتلمذ على تعاليم فلاديمير جابوتنسكي، أو تعاليم أيّ معلّم آخر. لكن الأوروبيين الهاربين من المحرقة وجدوا فيه السيف الذي يحميهم، والمزارع المحاط بقطعانه الذي يدغدغ فيهم صوراً توراتيّة مقيمة في لا وعي جمعي عريض. وهو، بدوره، لم يخلُ من تشاوُف"ذكري"على أؤلئك الأوروبيين المشوبين ب"تخنّث"دفعوا ثمنه غالياً. فهم عاشوا"هناك"، وتذاكوا وتحذلقوا بالأفكار والسياسات والعلاقات، كما بالرياضيّات والموسيقى والرسم والأدب، من دون أن يُبعدوا المذبحة عن أعناقهم. فلا من الثقافة جاء خلاصهم ولا من المهن الحرة محاماةً وإعلاماً، ولا من معرفة اللغات، أو حتى المال والنفوذ، بل جاء من"هنا"، من أرض يضجّ باطنها بعفويّة القوّة وقوّة العفويّ. ولئن صدر شامير عن"ليهي"الهامشيّة، ما أكسبه دونيّةً لم يبرأ من آثارها، انتسب شارون الى المتن الهاغانيّ الذي منه انبثق تأسيس الدولة. أما نتانياهو، فبقي شارون، الزراعيّ والمحليّ، غريباً عن"أميركيّته"غربته عن امتثاله للإعلام الذي لم يستخدمه الجنرال إلا تعطيلاً وتضليلاً لبيغن في حرب 1982. فحين يصل الأمر الى"إسرائيل الكبرى"، لا يكترث شارون، لا لأنه صائم عن الأرض، بل لاستحالة الأمر أحياناً. وهو موقف قد يعمل في اتجاهين لا يتيح العملَ بهما الا التفلّتُ من القيد الإيديولوجيّ. فالمؤكد أن"البولدوزر"لا يعارض قضم ما يتعدّى"إسرائيل الكبرى"فيما لو أتيح ذلك. فلماذا، إذاً، التورّط بهذا القيد الذي يرتّب، في الظروف السيّئة، التزاماً مُكلفاً؟ وكان يوم 11/9//2001 لشارون أحد أكثر أيّام حياته ضجيجاً بالسعادة. فقد نجح في ربط مواجهته"الانتفاضةَ الثانية"ب"الحرب على الإرهاب"، بحيث اعتبره جورج بوش، بعد أشهر على جريمة نيويورك،"رجل سلام". هكذا التقى التكتيك، وشارون من أسياده، بالاستراتيجية الجوهريّة التي لا تتغيّر، واكتسب الجنرال العتيق والمُزارع الكولونياليّ البائد شباباً بات العالم الغربي كلّه يطلبه ويستدعيه، تاركاً لبضعة حالمين أن يفكّروا بمحاكمته في بروكسيل. لقد أُودع شارون المستشفى حين كانت"عمليّته"، التي لا ضوابط عليها، تغدو"براغماتيّة"و"واقعيّة"يتضاءل المشكّكون بطبيعتها تلك. ذاك أن"الإرهاب"لا يُحارَب الا بالخفّة والسرعة اللتين تُبديهما حركته. وليمتْ، بعد هذا، جسده السمين المتثاقل الذي يناقض الحركة ويجافيها. * كاتب ومعلّق لبناني.