يشهد فن المراسلة الذي طالما ازدهر تاريخياً حالاً من الانحسار بعدما غزا البريد الالكتروني العالم ودخل المنازل والمكاتب والمقاهي. الرسالة التي كان المرء يدبجها بخط جميل ومقروء ثم يضعها في مغلف يزينه بالطوابع لم تعد رائجة في عصرنا الراهن، بل أصبحت من ذكريات الماضي، مثلها مثل ساعي البريد الذي بات أشبه بالشخصية الروائية أو السينمائية. احتل البريد الالكتروني "عالم" المراسلة وأصبح المرء قادراً على ارسال ما يشاء من رسائل عبر الشاشة الفضية الصغيرة وهي تصل الى الآخر عبر لحظات قليلة. الطابع الرومانسي الذي كان يسم الرسائل أصبح واقعياً وافتراضياً، فالكتابة الالكترونية لا تسمح كثيراً بالإفاضة العاطفية والمشاعر حتى ولو كانت الرسالة رسالة حبّ. فليس القلم هو الذي يخط الأسطر والكلمات بل الأزرار، وليس ثمة من رجفة يد أو تفنن في الكتابة! أصبح فن المراسلة وقفاً على قلة قليلة ما زالت تحافظ على طقوس الكتابة القديمة، فالجيل الجديد لم يعد يأبه للقلم والورقة والمغلف وطوابع البريد... يجلس الشاب، طالباً كان أم متخرجاً، أمام جهاز الكومبيوتر، يحرك أصابعه كاتباً رسالته ثم يضغط على زر فتذهب الرسالة أسرع من البرق. ومثلما يرسل مثل هذه الرسائل السريعة، يفتح بريده الالكتروني الخاص ويطلع على ما وصله من رسائل، يقرأها أو يرد عليها أو يرميها في "سلّة" المهملات وهي الكترونية من دون شك. إلا ان اللافت ان المراسلة الالكترونية لم تعد مجرد فن يمارسه من يهوى الكتابة أو تقتضيه الظروف والاحوال و"الأمزجة"، بل أصبحت عادة شبه يومية يقبل عليها الشبان والشابات قتلاً للوقت وسحقاً للضجر. إنها أشبه بالاتصالات الهاتفية ولكن بأجر زهيد جداً. وتحولت هذه المراسلة لدى بعضهم هاجساً ملحاً فتراهم على علاقة وطيدة بأجهزتهم، وفي حال من الانتظار والتوتر، يفتحون علب البريد الالكتروني باصرار واذا لم يجدوا رسائل يصابون ببعض الخيبة. انها "المراسلة" للتسلية والثرثرة وسرد الأخبار... وأحياناً تكون المراسلة للتعبير عن حب أو اعجاب و"ضرب" المواعيد والاتفاق على اللقاءات. وإذا استطاعت المراسلة الالكترونية ان تغزو حياة الكثر من الكتاب والأدباء والمثقفين متخطية المراسلة التقليدية، فهي لا تستطيع ان تشكل "وثائق" تحفظ للتاريخ مثل الرسائل العادية المكتوبة بخط اليد. فالرسائل الالكترونية لا يمكن ان تحفظ وأن تشكّل مرجعاً أدبياً ولا تملك ايضاً أي طابع جمالي فريد، فهي متشابهة في برودها وحيادها. لقد ولى زمن الرسائل القديمة وأصبح شخص ساعي البريد طيفاً من عالم الماضي بعدما حلّ زمن البريد الالكتروني وغزا حياتنا اليومية بواقعيته وقسوته. وليس من المستغرب ان يكون الجيل الجديد هو الأكثر حماسة لهذا البريد الالكتروني الذي أتاح للشبان والشابات ان يتواصلوا وكأنهم يتهامسون بعيداً من أسماع المتطفلين.