لماذا لم يعد الأدباء يتراسلون في الحقبة الراهنة مثلما كانوا يتراسلون في الأيام الغابرة عندما كانت كتابة الرسائل فناً من الفنون الأدبية؟ هل قضت الثورة التقنية الحديثة على فنّ المراسلة الذي كان يصنعه في آن الكاتب الذي يدبّج الرسالة والآخر أياً كان الذي ينتظرها ليفتحها ويقرأها بشوق أو حزن أو فرح؟ أم لعلّ الوسائل الجديدة التي باتت تجمع بين الناس حيثما كانوا ألغت ذلك الفن القديم وجعلت من ساعي البريد الشخصية الجميلة والغامضة مجرّد طيف قديم ومن الرسالة المكتوبة جزءاً من تراث يكاد يندثر نهائياً؟ كم أصاب الشاعر البرتغالي فرناندو بيسّوا حين وصف فن المراسلة في كونه دليلاً على الانفصال. على ان غاية الرسالة إلغاء هذا الانفصال ولو عبر لحظات هي لحظات الكتابة أولاً ثم لحظات القراءة ثانياً. ولعل هذه العلاقة الغريبة بين كاتب يكتب للآخر وبين قارئ تصبح كتابة الآخر ملكاً له علاقة غامضة وعلى قدر من الالتباس. فعندما يكتب الكاتب رسالة يكون وحده عادة لكن الآخر يحتلّ وجدانه والمخيلة. وعندما يقرأ الآخر الرسالة سرعان ما يستحضر الكاتب في مخيلته وفي وجدانه كذلك. على أن الرسالة المكتوبة تصبح ملك مَن يقرأها وليس مَن كتبها حتى وإن حملت توقيعه. الرسالة إذاً لقاء سعيد وربما غير سعيد، بل لقاء عابر، أو محادثة عابرة بين شخصين منفصلين أو بعيدين واحدهما عن الآخر. لقاء فيه من البوح والاعتراف ما فيه من الوقائع والأخبار. لقاء بين الأنا والآخر على صفحة هي أشبه بالمرآة التي يرى فيها الكاتب وجه القارئ البعيد والقارئ وجه الكاتب البعيد أيضاً. يكاد أدب الرسائل يندثر في عصرنا الراهن، عصر الانترنت والساتيلايت والإعلام المرئي والمسموع. يشعر الكتّاب أن هذا الفن بات من تراث الماضي، بل أصبح فناً قديماً ورومانطيقياً وربما"متخلّفاً". تسأل أحد الكتّاب أن يكتب رسالة فيحار أو يفاجأ لكنه سرعان ما يقول: لم يبق من أصدقاء كي أكتب لهم! وإذ تسأل آخر أن يكتب رسالة الى كاتب حيّ يكتشف أن مراسلة الموتى أفضل وأصدق. لم يقض العصر الحديث على المراسلة كفن تواصل أو كفن أدبي فحسب، بل قضى أيضاً على المشاعر والأحاسيس التي كانت حافزاً على المراسلة. يكفي الكاتب الآن أن يتصل هاتفياً بمن يريد "التواصل" معه أو أن يفتح الانترنت ويكتب رسالته باقتضاب وجفاف أي خلواً من أي عواطف! الثورة لم تنعكس سلباً على وسائل التواصل بل على عواطف الأشخاص أنفسهم سواء أولئك الذين يكتبون أم الذين يتلقون الرسائل ويقرأونها. كم من رسائل باتت تنام اليوم في الأدراج من غير أن يقرأها أصحابها الذين تلقوها. ويؤثر البعض أن يقرأوا الرسائل التي تردهم بسرعة غير آبهين إن تجاوزوا أسطراً أو كلمات... وإن ما زالت بعض الكتب تصدر في العالم وفي عالمنا العربي حاوية بعض المراسلات الأدبية أو الشخصية بين الأدباء فإن الظاهرة تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى تكاد المراسلة تكون فناً منقرضاً. ولعل تلك المراسلات قد تكون آخر المراسلات الحقيقية التي تذكّر بالعصر الذهبي للمراسلة الأدبية. لو طلب اليوم من كاتب أو روائي أو شاعر أن يكتبوا رسائل الى زملاء لهم في "المهنة"، ماذا تراهم يكتبون؟ وأي رسائل تكون تلك الرسائل التي سيكتبونها؟ إحياءً لما يسمى فن المراسلة الأدبية يعمد هنا خمسة كتّاب الى "تدبيج" رسائل كتبوها الى زملاء حقيقيين وضمّنوها ما يبغون أن يقولوه لهم. والرسائل التي كتبت وفق طلب خاصّ تحاول أن ترسم صورة عن واقع فن المراسلة في هذا العصر الحديث. رسالة واحدة وجهها صاحبها الى شاعر راحل لأنّه لم يجد ربما صديقاً حيّاً يراسله. ولعلّ هذا الأمر هو من الأسباب التي ساهمت في اندثار فن المراسلة.