قبل فشل اللجنة التحضيرية الفلسطينية - الاسرائيلية، برئاسة صائب عريقات ودوف فايسغلاس، في الاتفاق على جدول اعمال وزمان ومكان قمة شارون - عباس، شهدت الساحة الفلسطينية حوارات داخلية واسعة شاركت فيها قوى السلطة والمعارضة ومراكز الأبحاث، ونظمت وزارة الخارجية ندوة مغلقة. وتركز الحوار حول آفاق المرحلة بعد تنفيذ حكومة شارون"خطة الانفصال"والاخلاء و"الانسحاب"، من جانب واحد، في قطاع غزة وأربع مستوطنات شمال الضفة. وحاول المتحاورون بلورة رؤية فلسطينية واقعية للمرحلة الجديدة وتحديد مهماتها الأساسية في الحقل الداخلي وفي العلاقة مع اسرائيل وميدان السياسة الدولية. وأظهر النقاش ثلاثة آراء مركزية متباينة لكل واحد منها حيثياته وأنصاره: الأول، يعتقد أصحابه ان الحكومة الاسرائيلية الحالية ستنفذ خطوة"فصل"جديدة من جانب واحد في الضفة الغربية، قبل انتخابات الكنيست الاسرائيلي المقرر أواخر عام 2006، وخلق واقع جديد، يكمل به شارون مشروع"دولة غزة"يضم اليها الأراضي والمدن والقرى الفلسطينية الواقعة خلف الجدار المتلوي في عمق الضفة الغربية. ويرى أنصار هذا الرأي ان شارون نجح في تنفيذ"خطوة الانفصال"الاولى في قطاع غزة، وحقق مكاسب سياسية وحزبية مهمة في المجتمع الاسرائيلي وميدان العلاقات الخارجية. وعلى خلفية الخطوة ألحق الهزيمة بغريمه نتانياهو في اجتماع اللجنة المركزية لحزب"ليكود"وكرس زعامته للحزب... الخ، وهذه النتيجة تشجع شارون على المضي قدماً في تنفيذ خطوة ثانية من"خطة الانفصال"في الضفة. ويحذر ناس هذا الرأي من خطورة اقدام شارون على افتعال حقائق جديدة على الارض في الضفة والقدس تصعب ازالتها، أخطرها استكمال بناء الجدار ورسم حدود دولة اسرائيل مع جيرانها الفلسطينيين، وتنشيط حركة الاستيطان في محيط القدس ومنطقة الأغوار في الضفة، وتجميع المستوطنين في المدن الاستيطانية الكبيرة. ويؤيد هذا الرأي بصورة أو أخرى كتّاب ومحللون استراتيجيون اسرائيليون، يتفقون مع أنصاره الفلسطينيين على أن تنفيذ خطوة فصل في الضفة كفيل بتعزيز مكانة شارون أكثر عند الادارة الاميركية، ودول الاتحاد الأوروبي واللجنة الدولية الرباعية. ويعتقدون انه يقوي مواقع شارون في الشارع الاسرائيلي، ويكسبه دعم حزب"العمل"في مواجهة خصومه من اليمين المتطرف. ويعزز موقع صديقه بيريس في قيادة هذا الحزب، ويكرس استمرار حزب"العمل"في الشراكة في الحكومة حتى الانتخابات القادمة نهاية العام المقبل 2006. ويتبنى أنصار الرأي الثاني موقفاً أكثر تفاؤلاً، خلاصته: الظروف مهيأة لنجاح اللجنة الدولية الرباعية في جمع الطرفين من جديد حول مائدة المفاوضات وتحقيق تقدم على طريق تطبيق"خريطة الطريق"وتنفيذ رؤية الرئيس بوش والوصول الى حل الدولتين الذي ينادي به وما يزال يكرره من حين لآخر. ويبني أنصار الاحتمال الثاني موقفهم على ان الانسحاب من غزة وإخلاء أربع مستوطنات في شمال الضفة يؤكد ان شارون ابتعد عن فكر ليكود الجامد، وترك ايديولوجيته المتطرفة التي كانت تدفعه الى التمسك بكل أراضي الضفة الغربية باعتبارها"أرض الميعاد"التي وهبها الله لبني اسرائيل. وبات شارون مقتنعاً بأن، لا مناص من تثبيت حدود دائمة لدولة اسرائيل. ويعتقد أنصار هذا الرأي ان عهد الخطوات الجزئية والأحادية الجانب قد انتهى، وأن الارادة الاميركية والدولية قادرة على جمع الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي خلف طاولة مفاوضات واحدة، وإجبارهما على التعاون مع اللجنة الدولية الرباعية وإرساء مرتكزات حل نهائي للنزاع قبل انتهاء ولاية الرئيس بوش. ويختلف أنصار الرأي الثالث مع الرأيين الأولين، اذ يعتقدون أن لا أفق لتنفيذ أي خطوة فصل جديدة في الضفة الغربية، لا أحادية الجانب ولا بالتفاهم مع السلطة الفلسطينية، قبل انتهاء الانتخابات الإسرائيلية المقبلة نهاية عام 2006. شخصياً، كنت ولا أزال من أنصار الرأي الثالث. وأرى في فشل رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير ومستشار رئيس الحكومة الإسرائيلية في تحضير جدول أعمال لقاء عباس - شارون، برهاناً عملياً حسم الأمر لمصلحة الثالث، ويؤكد خطأ اعتماد الرأيين الأول والثاني في رسم السياسة الخارجية الفلسطينية. وأظن أن رئيس الحكومة الإسرائيلية ليس مجبراً على تنفيذ خطوة فصل جديدة في الضفة الغربية قبل حسم المعركة حول زعامة الحزب في الانتخابات الداخلية المقرر اجراؤها في حزيران يونيو المقبل. وشارون الذي لم ينفذ"تفاهمات"قمة شرم الشيخ، التي عقدت في شباط فبراير الماضي، قبل تنفيذ"خطة فك الارتباط"في قطاع غزة، لا أحد يتوقع منه تنفيذها بعد فشل لقائه بمحمود عباس، ولا مصلحة له في الإقدام على خطوة اشكالية تعمق الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي، وتجلب له متاعب حزبية أضافية داخل"ليكود"تزيد في اهتزاز وضعه، وترفع درجة توتر علاقته مع قوى اليمين المتطرف. وشارون يعرف أكثر من خصومه وأصدقائه وقبلهم أن الانسحاب وإخلاء مستوطنات في الضفة يثيران اشكالات كبيرة تختلف عن اشكالات"خطة الفصل"في قطاع غزة، ويستفزان فئات واسعة من قواعد"ليكود"وكوادره ويستنفرانها ضده، ويسهلان على خصمه نتانياهو تجنيدهم وتعزيز وضعه في الحزب وتحقيق أمنية الإطاحة به. الى ذلك، يستطيع شارون العيش"معززاً مكرماً"على أمجاد خطوة الانسحاب والاخلاء التي نفذها في قطاع غزة، وكان لها مفعول سحري عند الرئيس بوش، ووصفها هو وبعض زعماء الاتحاد الأوروبي بالخطوة"التاريخية الشجاعة"، ولم يتأخروا في ترجمة موقفهم في الاستقبال الحافل والمميز الذي حظي به شارون في الاجتماع الأخير للجمعية العامة للأمم المتحدة الذي عقد في نيويورك منتصف شهر أيلول سبتمبر الماضي. وإذا كانت الإدارة الأميركية لم تمارس ضغطها لتنفيذ"تفاهمات"شرم الشيخ قبل وخلال زيارة شارون نيويورك ولقاء الرئيس بوش، فلا أحد يمكنه الادعاء بأنها ستكرم محمود عباس وتغير موقفها خلال زيارته القريبة لواشنطن. لقد خطف شارون في قمة"شرم الشيخ"عودة سفيري مصر والأردن الى تل أبيب أمام بصر الإدارة الأميركية وسمع الاتحاد الأوروبي. ونقض وعوده للرئيس مبارك والملك عبدالله الثاني ولم يقدّر قيمة مبادرتهما بإعادة السفيرين، ولم ينفذ"تفاهمات شرم الشيخ"التي التزمها بحضورهما. وعلى رغم وفاء"أبو مازن"بالتزاماته ونجاحه في اقناع"القوى الوطنية والإسلامية"بأهمية التهدئة وعمل"هدنة"من جانب واحد، إلا أن شارون ظل على موقفه، ولم يتجاوب مع طلبات رئيس السلطة الفلسطينية المتواضعة. ولم يسمح بعودة مبعدي أحداث كنيسة المهد في بيت لحم الى بيوتهم وقراهم، ولم يطلق سراح دفعة جديدة من المعتقلين، ورفض التعهد بعدم التعرض لزعيم"الجبهة الشعبية"أحمد سعدات وزميله العميد فؤاد الشوبكي في حال اخلاء سبيلهما، ولم يخفف الحواجز على الطرق ولم يسهل حياة الناس، ولم يسحب جيشه من المدن الفلسطينية اريحا وطولكرم وقلقيلية ورام الله وبيت لحم، ويرفض تسليمها الى السلطة الفلسطينية. ولم يتوقف شارون عند هذا الحد من السلبية من محمود عباس وسلطته، وصعّد هجومه ضده واتهمه بالضعف والتراخي في محاربة الإرهاب وبكل التهم الأخرى التي ألصقها بعرفات. وواصل شارون الادعاء بغياب الشريك الفلسطيني واستمر في عمل ما يحلو له بشكل أحادي الجانب. استمر في بناء الجدار في عمق الضفة، ونشط حركة الاستياط في الأغوار ومحيط مدينة القدس. وتابع تنفيذ سياسة الاغتيالات والاعتقالات واعتقل خلال الاسبوعين الأخيرين مئات الكوادر الفلسطينية ضمنهم كوادر فتحاوية. وعندما"خرج"شارون من قطاع غزة أبقى جملة من المسائل الحيوية معلقة لابتزاز عباس واحراجه، منها تعطيل الحركة في معبر رفح على الحدود المصرية استكمال بناء الميناء، وتشغيل المطار، وفتح الممر الآمن بين الضفة والقطاع... الخ. واعتقد ان الرئيس الاميركي الذي لم يكترث لفشل الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي في عقد قمة ثنائية ألح هو على عقدها وكلف ملك الاردن بمتابعتها، ولم يزعجه فشل قمة شارون - عباس في شهر حزيران يونيو الماضي، ولم يدعم مطالب عباس المحقة والمتواضعة قبل زيارته الى واشنطن... الخ، لا يمكن لأكثر الفلسطينيين تفاؤلاً أن يتوقعوا منه تغيير موقفه في لقاء مع"أبو مازن"يستمر ساعة في البيت الابيض. وأن يتعهد مثلاً بإلزام شارون تنفيذ"تفاهمات"شرم الشيخ، واستكمال خطوة الانسحاب من قطاع غزة، واعادة فتح المؤسسات الفلسطينية في القدسالمحتلة، واستئناف المفاوضات حول قضايا الحل النهائي... الخ من القضايا العالقة بين الطرفين. ويمكن للمراقب أن يتوقع العكس، وان يتعرض أبو مازن، وليس شارون، الى ضغط أميركي يليه ضغط اوروبي، تحت شعار التحلي بالصبر في عام الانتخابات الاسرائيلية، وضرورة تقديم الدعم المعنوي الممكن لشارون في الفترة الحرجة والحساسة التي يمر بها، وعدم ازعاجه بطلبات جديدة ومساعدته على تجاوز فترة الانتخابات الحزبية والبرلمانية بسلام ونجاح. وأظن ان استمرار الرئيس بوش والاتحاد الاوروبي على موقفهم من شارون، واستمرار شارون في العمل وفق التوجه الأحادي الجانب ذاته يعيق الاتفاق على عقد قمة عباس - شارون قبل الانتخابات الاسرائيلية القادمة أواخر العام المقبل. صحيح ان اعلان عريقات - فايسغلاس المشترك عن تأجيل القمة تضمن الاشارة الى انها ستعقد بعد زيارة عباس الى واشنطن وحدد البيان موعدها التقريبي أواخر شهر تشرين الأول اكتوبر الجاري أو مطلع الشهر المقبل، واتفقا على تفعيل اللجان المشتركة... الخ، لكن لا صائب عريقات ولا أي قائد فلسطيني يضمن ان تعقد القمة الثالثة في الموعد الجديد، خصوصاً ان شارون لم يكن متحمساً لها قبل زيارة عباس الى واشنطن، ووافق على مبدأ اللقاء على مضض لإرضاء الرئيس بوش وملك الاردن عبدالله الثاني. ويمكن القول مسبقاً ان نتائج القمة الثالثة اذا عقدت لن تتوصل الى نتائج مهمة ونتائجها لن تكون أفضل من نتائج القمتين السابقتين. والأشياء التي رفض شارون تقديمها لمحمود عباس قبل سفره الثاني الى واشنطن ليس مضطراً لتقديمها بعد انتهاء الزيارة. وقد يعمد شارون الى اشغال الفلسطينيين والعالم في مناقشة مسألة الانتخابات الفلسطينية، وتنفيذ تفاهمات شرم الشيخ، وتوابع خطوته التي نفذها في القطاع. فهل يتحمل الوضع الفلسطيني استمرار المراوحة في المكان عاماً آخر، خصوصاً اذا نفذ شارون تهديده وعطل الانتخابات التشريعية الفلسطينية؟ * كاتب فلسطيني - رام الله.