في العام الذي ولد فيه معهد المخطوطات العربية 1946 فتحت صفحة جديدة من كتاب التراث العربي، وهي صفحة لا تزال مفتوحة، يضاف إليها كل يوم سطر جديد ولعل اهم ملامح هذه الصفحة هي فكرتها التي استشرفت المستقبل، وانطلقت من الإيمان بضرورة جمع التراث العربي المخطوط من كل مكان في العالم، والحفاظ عليه من طريق تصويره على ميكروفيلم، وكان في حينه طفرة في اوعية المعلومات ثم إتاحته للعلماء والباحثين. ومنذ ذلك العام وحتى العام الذي نحن فيه، 2004، يكون عمر المعهد بلغ 58 عاماً. وحصيلة هذا العمر تزيد على خمسين ألف مخطوطة، وتتميز بأمرين جملناهما في العنوان: غنى التنوّع، ونفاسة الاختيار. وقبل ان ندخل في التفاصيل نلفت مجدداً الى ان مجموعة المعهد كلها "مصورات ميكروفيلمية". وقد يجد بعضهم في ذلك ما يقلل من قيمتها، فهي ليست اصولاً، اصولها في مكتبات العالم، لكن في مثل هذه النظرة عجلة وقفزاً على بدهية علمية، مفادها ان المخطوط، اي مخطوط يستمد قيمته من امرين: ذاته بصفته اثراً مادياً، يرجع الى زمن ما، ويحتفظ بخصائص ذلك الزمن وملامحه، ويرتبط بمؤلفه او كاتبه، ويتميز بطريقة زخرفته وألوانه... الخ، ومحتواه العلمي، اي الفكر الذي يحمله، والفرع المعرفي الذي ينتمي إليه: لغة، او أدباً، او تاريخاً، او فلسفة، او ديناً او علماً، او خليطاً من اكثر من فرع. في الحال الأولى المخطوط مطلوب بذاته حيّاً ورقاً وجلداً وخطّاً ومداداً وألواناً. وفي الحال الثانية، يُتجاوز ذلك كله، ويركّز على مادته العلمية. وعندها لا يهم ان تطلع عليه في وعائه الأصلي الكتاب او تستعرض صفحاته على جهاز قارئ للميكروفيلم، او تضع قرصه المدمج CD في جهاز كومبيوتر، لتقرأ محتوياته على الشاشة، او ان تكتفي بصورة ورقية مأخوذة من الأصل مباشرة او من الميكروفيلم او من القرص. نعم ان المخطوط الأصلي مجال لدراسات عدة تتصل بعلم المخطوطات او ما يسمى الكوديكولوجيا، وعلم تاريخ النصوص، والبيبليوغرافيا، لكن ذلك كله - على اهميته - لا يقلل من اهمية دراسة النص نفسه، بل ربما كانت دراسة النص فيلولوجياً هي الغاية العليا التي كثيراً ما توظف كل الدراسات السابقة من اجلها. وعلى اي حال فإن لمجموعة "المعهد" اذا ما تجاوزنا ما قلنا آنفاً خصوصية، تضيف إليها قيمة او قيماً، ويمكن إجمال هذه القيم في النقاط التالية: 1- تنوع مصادرها فإذا كانت المجموعات الأخرى التي تحتفظ بها المكتبات الوطنية في البلاد العربية جمعت من دائرة جغرافية محدودة، هي دائرة البلد الدولة ولم تتجاوزها إلا نادراً، وفي حدود ضيقة، فإن مجموعة المعهد تقوم اساساً على "الجمع" من مصادر عدة ودوائر جغرافية متسعة، تشمل معظم ارجاء العالم، عربياً وإسلامياً وخارج هاتين الدائرتين. 2- شمولها مختلف العلوم العربية والإسلامية. فإذا كانت بعض المجموعات ولا اقول كلها يغلب عليها طابع معرفي ما، كأن تكون في علوم الدين مثلاً، أو الفقه، أو التصوف تحديداً أو اللغة أو الأدب، فإن مجموعة المعهد تشمل كل علوم التراث: اللغة والأدب والتاريخ والفلسفة والسياسة والتربية والفلك والرياضيات والجغرافيا والطب. 3- نموها المستمر، وحياتها المتجددة بالتزويد عقوداً ستة. إن بعثات المعهد جابت الأرض شرقاً وغرباً، ومكثت هنا وهناك ما مجموعه سنين. نعم مرت سنوات تعطلت فيها الحركة، لكن اي توقف لم يدم طويلاً. 4- ارتفاع قيمتها ونفاستها، نظراً لكونها مجموعة منتقاة على وفور اسس دقيقة ومعايير نفاسة، ترجع مرة الى التاريخ القدم وثانية الى الموضوع، وثالثة الى الندرة، ورابعة الى المؤلف وأصالته. 5- وأهم من ذلك ان بعض ما تضمه مما صورته البعثات مبكراً، فُقدت اصوله، إما بالتلف، نتيجة الإهمال والتقصير في المكتبات الرسمية العربية، وقلة الوعي وعدم الخبرة في الصيانة والترميم في المكتبات الخاصة. وإما بالاستيلاء كما في حال المكتبات الفلسطينية التي نهبت اسرائيل كثيراً من مخطوطاتها، وضمتها الى مكتبة الجامعة العبرية. 6- وأخيراً لا آخراً ذلك الغنى المستتر المتمثل في تلك المجموعات الصغيرة من المخطوطات التي يحملها الباحثون المترددون على المعهد من كل مكان ويهدونها الى خزانته إهداء، او في مقابل ما يصوره لهم ويقدمه إليهم من خدمات. إن الحديث عن "مجموعة المعهد" لا بد من ان تستدعي الى الذاكرة، اسماء اولئك الأعلام الذين جمعوها وانتقوها وبنوها من امثال: د.صلاح الدين المنجد ومحمد رشاد عبدالمطلب ود.عبدالفتاح محمد الحلو وعصام محمد الشنطي ود.محمود محمد الطناحي، وقبل هؤلاء د.يوسف العش اول مدير للمعهد. ولن ننسى محمد بن تاويت الطنجي. والعش هو الذي وضع نواة مجموعة المعهد، فقد جاء مديراً من المكتبة الظاهرية بدمشق، ومد نظره اولاً الى البلد المضيفة للمعهد مصر، والى البلد التي اتى هو منها سورية، فأوفد بعثة الى "الظاهرية"، و"الأحمدية" بحلب، وبعض المكتبات الخاصة في حلب ايضاً مكتبة الشيخ ناجي الكردي، والأستاذ زين العابدين، كما بدأ بتصوير مجموعات من مخطوطات دار الكتب المصرية والتيمورية وطلعت وحليم والجامع الأزهر. كان ذلك في العام التالي لعام إنشاء المعهد، 1947. وفي العام التالي توجهت بعثة الى الاسكندرية، انتقت من مخطوطات مكتبة البلدية وجامع ابراهيم باشا، وأخرى الى سوهاج صورت من مكتبة المجلس البلدي التي هي بقايا مكتبة رفاعة الطهطاوي، ومن مكتبة جمال الدين بدر ببلصفورة. وانداحت الدائرة، وكانت المحطة الثالثة، تركيا، واسطنبول تحديداً، وكان عام 1949 فتحاً، فقد صور المعهد نحو ثلاثة آلاف مخطوط، انتقاها من نحو خمسين مكتبة في اسطنبول، ومكتبتين في مدينة بورصة، هما مكتبة حسين جلبي، وخراجي زادة، وتعد هذه اكبر مجموعة من مكان واحد، تليها مجموعة اخرى صورها في عامي 1951 و1952 من الهند. وتوالت البعثات الى فلسطينالقدس تحديداً قبل النكبة 1953، ومنها الى بيروت، ثم في عام 1955 الى السعودية، ثم تونس 1956، ومرة اخرى انطلقت البعثات داخل مصر 1957. لتصور من الجامع الأحمدي بطنطا، والبلدية بالمنصورة، والمعهد الديني بدمياط. وشهد عام 1957 اول انطلاقة خارج الدائرة العربية والإسلامية، فقد توجه د.المنجد الى الأمبروزانا بميلانو ايطاليا، وصور مجموعة من مخطوطاتها النادرة. بعد ايطاليا جاءت اليمن الشمالي والمغرب الأقصى وإيران، ثم مرة اخرى تركيا، فإسبانيا، فالمغرب ثانية، فليبيا، فالسعودية ثانية، فإيران مجدداً، فاليمن الجنوبي ايضاً، ثم الاتحاد السوفياتي سابقاً، وتونس، واليمن الجنوبي مرة اخرى، ثم اليمن الشمالي، ثم سورية ثم يوغوسلافيا، ثم ايطاليا، وأخيراً موريتانيا، والمغرب ولبنان، في عامين متتالين. إن هذه الحركة الدائبة في اتجاهات عدة تعكس غنى ثروة المعهد من المخطوطات وتنوعها وقيمتها، ولن نستطيع ان نستعرض العناوين كما استعرضنا المصادر، لكن تنوع المصادر يشي بتنوع العلوم وامتدادها على مساحة التراث كله. ومن المفيد ان أشير الى بعض العناوين للتذكير: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي، والمغرب في حلى المغرب لأبي سعيد، وشرح فصيح ثعلب للجبّان، ودلائل الإعجاز للجرجاني، والمشوف المعلم في ترتيب اصلاح المنطق للعكبري، والرسالة الحاتمية، وحذف من نسب قريش لمؤرج السدوسي، والصناعتين للعسكري، والسماع لابن القيسراني، والسنن الكبير للبيهقي، وسير الغزاري، والسماء والعالم لابن ابان القرطبي. وعودة الى خصائص مجموعة المعهد لا زلت أذكر ان مسؤولاً عن احد اهم مراكز المخطوطات في القدس، زار القاهرة، وطلب من المعهد تصوير مجموعة المخطوطات التي صورها المعهد من فلسطين في وقت مبكر، وذلك لأنها غير موجودة الآن في المكتبات هناك. ومما يذكر ان مخطوطات المعهد تكونت عبر ثلاث مراحل زمنية: الأولى كان المعهد فيها في القاهرة ، وهذه استمرت منذ الإنشاء 1946 حتى عام 1979، العام الذي انتقل فيه المعهد الى تونس، والثانية من عام 1981 إذ انتقل المعهد الى الكويت، حتى عام 1990، والثالثة منذ بداية عام 1991 حيث عاد المعهد الى القاهرة حتى اليوم، وفي هذه المراحل جميعاً خرجت البعثات، وأضافت الى رصيد المعهد. ولم تكن البعثات وحدها هي الدم الذي يضخ في عروقه الحياة، فقد كان للعلاقات والتبادلات دور ايضاً. وفي هذا الإطار ضُمّت الى خزانة المعهد آلاف المخطوطات، من اميركا وإيران وفرنسا وهولندا وانكلترا وإسبانيا، وكذلك من السعودية وسورية والإمارات. هذه الثروة الكبيرة كان لها دور كبير في فتح اعين الباحثين على التراث، ودفعهم الى الاشتغال به، والانشغال به، على حد سواء، حتى ان كثيراً من كبار الباحثين اليوم الذين كانوا يقصدون المعهد في مرحلة الطلب يعترفون بأنهم ما عرفوا التراث وأحبوه إلا في رحابه. لقد اثار جمع هذه الثروة مبكراً، وإتاحتها لكل من اراد من الباحثين وطلبة الدراسات العليا، قضية التراث، ولفت إليه، وجعل منه "قضية" محورية. وأساساً لا بد من العودة إليه واستشارته وتوظيفه في مختلف القضايا والإشكالات التي شهدتها الساحة الثقافية في النصف الثاني من القرن الفائت. * منسق برامج معهد المخطوطات - القاهرة.