يوحي سلوك العماليين الإسرائيليين، وزعيمهم شمعون بيريز، على نحو بليغ مع أنه ضمني، بما يشبه الإقرار بأنهم قد سلموا، إلى أجل غير مسمى، بأن لا أمل لهم في العودة إلى تحمل المسؤولية، وفي المساهمة في تسيير شؤون الدولة العبرية ورسم سياساتها والتأثير في مستقبلها ومستقبل جوارها، إلا من خلال الحكومات الإئتلافية وفي إطارها. مسارعة شمعون بيريز إلى استجابة طلب خصمه السياسي وصديقه الشخصي أرييل شارون بشأن السعي إلى تشكيل حكومة إئتلافية تجمع قطبيْ الحياة السياسية الإسرائيلية، ويحتل فيها على الأرجح منصب وزير الخارجية، ومبادرته إلى إقناع رجالات حزبه بصواب تلك الخطوة مع أن عملية الإقناع تلك لا يبدو أنها كانت بالأمر الشاق قد لا تجدان تفسيرهما إلا في ذلك التسليم العمالي بأن لا سبيل إلى مزاولة الحكم، أقله في هذا الطور الراهن والذي لا يعلم أحد مداه، إلا اتكاءً على شارون. صحيح أن بعض ما ينشده رئيس الحكومة العبرية، خصوصا الانفصال عن غزة وتفكيك مستوطناتها والانسحاب منها، هو مما يمثل لبّ مطالب عمالية أو يسارية إسرائيلية تقليدية، وأن في ذلك ما من شأنه أن يشكل نقطة التقاء برنامجي بين القوتين، وما قد يستوي، في نظر العماليين، مبررا للإئتلاف، لكن يبقى مع ذلك أن هناك استراتيجية أخرى محتملة، وإن نظريا، كان من الممكن للعماليين توخيها ولكنهم استبعدوها وأحجموا عنها إحجاما تاما، ولا ريب في أن للاستبعاد وللإحجام ذينك دلالة كبيرة. أما الاستراتيجية تلك فهي المتمثلة في لعب ورقة الانتخابات المبكرة أو السابقة لأوانها. شارون لوح بها وهدد خلال الآونة الأخيرة، في مواجهة من تمردوا على خياراته، ولا سيما الانسحاب من غزة، داخل تحالفه الحكومي حيث ما عاد يستند إلا إلى 59 نائبا في الكنيست من أصل مئة وعشرين أو داخل حزبه الليكود. كان بوسع العماليين أن يقنعوا بموقع المتفرج على أزمات حكومة شارون، أو أن يغذوا هشاشتها، مساعدين على تهيئة الظروف لجعل الانتخابات المبكرة مخرجا لا مهرب منه، ولكنهم فعلوا العكس، وهبّوا إلى إنقاذ شارون وإلى إبداء استعدادهم للتعاون معه، علما بأن الرجل لم يتوقف، في أثناء ذلك، عن البحث عن أغلبية تستثنيهم، على ما دلت اتصالاته، في الأيام القليلة الماضية، مع حزبين يمينيين لليهود السيرفاديم الشرقيين. وإذا كان العماليون قد فضلوا استراتيجية الإئتلاف الحكومي، أو استراتيجية حكومة الوحدة الوطنية، ونبذوا خيار القطيعة، فإن ذلك لا يعود إلى ما يُتهم به القادة العماليون عادة، خصوصا زعيمهم بيريز، من جشع إلى الحقائب الوزارية، يريدونها فورا وبأقل قدر من المشقة، بل إلى كونهم لا يأنسون في أنفسهم القدرة على خوض غمار الانتخابات، ناهيك عن الفوز فيها. وفي ذلك ما قد يشكل مستجدا حاسما بالغ الأهمية مفاده أن الحزب ذاك، ربما كان أكثر نفوذا كقوة مُكملة للأغلبيات، تتيحها إذ تلتحق بها وتدعمها، منه كقطب في الحياة السياسية قادر على اجتراح أغلبيات بديلة.. فهل يعني ذلك أن الثنائية الحزبية، أو توزع الحياة السياسية بين قطبين أساسيين، تقوم من حول كل منهما، تباعا وتداولا، الأغلبيات البرلمانية والحكومية، كما هي الحال في سائر الديموقراطيات أو أغلبها، أمر قد آل إلى نهايته في إسرائيل، إن افترضنا أنه كان قائما في يوم من الأيام على نحو فعلي؟ ذلك سؤال يطول الخوض فيه. أما ما يهمنا ملاحظته هنا، فأمران أساسيان. أولهما أن الحزب العمالي، ذلك الحامل تاريخيا وتقليديا لفكرة التسوية مع الفلسطينيين وإن على أساس من الإجحاف بالغ لمواصفات فيه تعود إلى ثقافته السياسية وإرثه الإيديولوجي وربما إلى تكوينه الإثني، قد تراجع وانكفأ، وما عاد صاحب مقاربة مميزة يتمتع بالقدرة على إنفاذها، أو على الأقل بقدرة السعي إلى ذلك، ما قد يعني أن من يكابد حاليا مشكلة انعدام "الشريك" في أي مسار سلمي يصار إلى إعادة إطلاقه إنما هم الفلسطينيون لا الإسرائيليون، على الرغم من أن دعاية شارون قد أفلحت في "إثبات" العكس. أما الأمر الثاني، فيتمثل في ذلك الوضع المفارق الذي يبدو أن شارون قد آل إليه: فالرجل يلوح ضعيفا داخل حزبه، وأسرته الإيديولوجية و"الفكرية" اليمينية التقليدية، ولكنه قوي داخل إسرائيل، إذ لا يبدو بأن إخفاقه في إحلال الأمن قد أثر في نظرة الرأي العام الإسرائيلي وفي حكمه عليه، كما أن عزمه الانسحاب من غزة يحظى بدعم الأغلبية على ما دلت استقصاءات الرأي، وهو على أية حال في وارد التهديد بالانتخابات المبكرة بلهجة الواثق من الانتصار فيها، في حين أنه يستند، على الصعيد الخارجي، إلى تحالف وثيق، من طبيعة عضوية أو تكاد، مع القوة العظمى الوحيدة في العالم، وإدارتها البوشية الحالية، وربما تلك الديموقراطية المحتملة المقبلة، على ما دل أكثر من تصريح على لسان المرشح جون كيري، ذلك الذي تبنى ما يُعرف ب"وعد بوش" بحذافيره ودون تحفظ، وأعلن عزمه الاستمرار، في صورة فوزه، على سياسة خصمه، في ما يتعلق بالإمعان في مقاطعة ياسر عرفات، وفي الإقامة على إقصائه، ورفضه محاورا أو شريكا. لكل هذه العوامل، يسعنا الجزم بأن حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية، إن قامت، ستكون حكومة شارونية، أو تنفذ برنامجا شارونيا. إذ ليس للعماليين من برنامج، ولو وجد، أو توسموا فيه حسن قبول من الناخبين، لما توجسوا خوض غمار الاقتراعات المبكرة. صحيح أن الانسحاب من غزة من مطالبهم الأثيرة والتقليدية، وأنه لديهم أصيل ولدى شارون طارئ، بحيث يمكنهم الإدعاء بأن رئيس الحكومة الليكودي هو الذي التحق بمواقعهم وليس العكس، لكن الادعاء ذاك إن قُيّض له من مفعول، فلن يكون أكثر من خطابي. وذلك لسبب بسيط: أن شارون يُدرج الانسحاب من غزة، ومن مستوطنات قليلة في الضفة الغربية، في غير ما درجوا هم على إدراجه فيه. هم يرونه لبنة في عملية تسوية، يتفاوضون بشأنها مع الفلسطينيين، وإن بطريقة لا تتسم بسخاء ولا بأريحية، وهو يراها إجراء أحادي الجانب، يستبعد فكرة التسوية استبعادا مبرما، وخطوة أساسية في ما أسماه ذات مرة "استكمال حرب التحرير الإسرائيلية"، قوامه الحؤول دون قيام كيان سياسي فلسطيني، والاستحواذ على الضفة الغربية، أو أكبر قدر منها، وتحويل ما تبقى إلى بونتوستانات على هذا القدر أو ذاك من الضخامة. هم يرون إلى المسألة الفلسطينية بوصفها مشكلة سياسية، وهو لا يعتبرها أكثر من إشكال من طبيعة ديموغرافية صرف، على إسرائيل أن تذلله بالوسائل الأمنية والعسكرية حصرا. ولا شك في أن نظرة شارون هي التي ستكون الراجحة، وإن ادعى بيريز قدرة على التأثير في تلك النظرة من داخل حكومة الوحدة الوطنية، وهو ما يدحضه واقع الحال وميزان القوة، كما تدحضه تجربة سابقة كانت لبيريز في هذا الصدد... حيث أبدى امتثالا كاملا لسياسة شارون وتولى، وزيرا للخارجية، وظيفة الترويج لها في المحافل الدولية. هي إذاً انتكاسة خطيرة لفكرة التسوية، خصوصا وأن ما كان يبدو لدى العماليين أزمة ظرفية، بات يلوح قصورا مديدا أو عاهة من طبيعة بنيوية.