"انقلابيةً" تبدو تلك المبادرة التي أقدم عليها رئيس حكومة الدولة العبرية أرييل شارون، بأن أعلن عزمه، أحادياً ودون تفاوض، إزالة المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة، وتسليم زمام أمر "السيادة" عليها إلى الفلسطينيين، مع احتمال طالما أن خطة شارون لم تُعرض رسميا وفي شكلها الناجز أن تتسع نية الانسحاب تلك لتشمل مستوطنات في الضفة الغربية، عشوائية أو نائية يعسر الدفاع عنها، مع مبادلة المستوطنات الأخرى بمناطق في أراضي 1948، ذات كثافة سكانية عربية عالية. "انقلابيةً" تبدو تلك المبادرة لأنها لا تلوح، للوهلة الأولى، نتاجا "طبيعياً" أو منطقيا لمعطيات النزاع كما نراها ماثلة حاليا. فإسرائيل، بالرغم من أن الانتفاضة الثانية، خصوصا في شقها الانتحاري، قد نالت منها وأضرت بها اقتصاديا وأمنيا، لم تندحر عسكريا، ولم تُمنَ بالهزيمة، على ما تسرع بعضنا مستنتجا، ليس على أية حال إلى درجة دفعها إلى "التنازل" عما فشلت عقود طويلة من النضال، بشتى أوجهه، ومن الضغوط الدولية، في إلزامها به. كما أن هاجس تسوية نزاع الشرق الأوسط، ذلك الذي بات عمليّا إسرائيليا-فلسطينيا حصرا، لا يبدو غالبا على مزاج العالم وأولوياته في هذه الفترة، هذا إن فترضنا أن إسرائيل، خصوصا عندما يكون على رأسها رجل مثل شارون، تكترث بالإرادة الدولية وتحسب حسابها. ولعل ذلك ما يفسر ذلك التخبط الذي يتسم به تفسير وتعليل خطوة شارون تلك، بين قائل إنها ترمي إلى كسب ود الأميركان، مع أنه لا علم لنا بأن إدارة بوش لا سيما في هذه السنة الانتخابية قد سلطت على الحليف شارون ما لا قبل له بتحمله أو بمقاومته ولا طاقة. وبين ذاهب إلى أن الرجل إنما أراد صرف الأنظار عما يواجهه من تهم الفساد، كأنما الشرطة والقضاء في إسرائيل يضطلعان بمهامهما اعتبارا لما يحتل، أو لا يحتل، صدارة وسائل الإعلام. هذا ناهيك عن المتشككين القائلين إن المبادرة تلك لا يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وانها ليست أكثر من فقاعة، كالكثير سواها دأب زعيم ليكود على إطلاقها، قبل أن يسارع إلى تناسيها وإلى نبذها مستهتراً غير مُكترث. ولكن هل يُعقل أن يخاطر شارون، حتى شارون، بمراجعة أقنوم إيديولوجي تأسيسي لدى اليمين الإسرائيلي، كذلك المتمثل في "أرض إسرائيل الكبرى"، وأن يقامر بنسف أغلبيته البرلمانية، وببقاء حكومته تاليا، فقط لمجرد الاستجابة إلى رغبات أميركية مفترضة إلى أبعد حدود الافتراض، أو غير قائمة أصلا، وفقط من أجل التفلّت من ملاحقة قضائية يعلم أن لا فكاك له منها إن تأكدت وقائعَ وكانت تحت طائلة القانون؟ وهل من الممكن أن يقدم رئيس الحكومة الإسرائيلية على مجازفات كتلك، ولا غاية له في ذلك سوى إطلاق إحدى فقاعاته أو تجريب مناورة سياسية ما؟ بل الأرجح أن شارون جادّ في مبادرته تلك وأن هذه الأخيرة ربما مثلت أبرز تحول في مقاربة إسرائيل، سواء في ذلك يمينها الليكودي أقل تياراته تكلساً من الناحية الإيديولوجية أو يسارها العمالي، وإن كان يبدو أن هذا الأخير اكتفى بمواكبة مبادرة شارون، والمصادقة عليها، مع عبارات التحفظ أو الإدانة الشكلية التي يتطلب موقعُه في المعارضة التفوّه بها. وقد كانت لافتةً مسارعة شمعون بيريز، ذلك الذي أعيد انتخابه لتوه على رأس العماليين لفترة سنتين مقبلتين، إلى إعلان استعداد حزبه لتوفير "شبكة أمان" لحكومة شارون، يقيها غائلة إسقاطها من قبل أعضائها اليمينين، إن أقام رئيس الوزراء على مبادرته وباشر تنفيذها. كون "حكومة الوحدة الوطنية" مما يستهوي العماليين أمر بديهي ومعلوم، إنْ لولع قادتهم بالحقائب الوزارية أو لأي اعتبار آخر أكثر "نبلاً". وهم قد سبق لهم أن انضمّوا إلى شارون في عهده الأول، بدعوى أن وجودهم في الحكومة من شأنه أن يكون عامل اعتدال، وأن يلجم تطرف "بولدوزر" ليكود. فما بالك الآن، حيث يبدو أن مبادرة تفكيك مستوطنات غزة، تمدهم بمسوّغات أكثر صلابة، تتعلق بالخيارات السياسية والإيديولوجية الأساسية. وقد كان شمعون بيريز سباقا إلى التذكير بأنه كان أول من طرح فكرة الانسحاب من القطاع، في معرض الإيحاء ربما بأن زعيم ليكود هو الذي عاد إلى الأخذ بمواقف العماليين وإلى تبنيها. قد لا يعدو هذا الكلام أن يكون تبريرا استباقيا للدخول في حكومة وحدة وطنية، لكنه، من وجه آخر، لا يخلو من صحة. إذ أن مبادرة شارون الأخيرة، تفيد التخلي عن فكرة "إسرائيل الكبرى"، وتفيد استطرادا الإصرار على "يهودية الدولة"، أي على "نقائها" السكاني، إن لم نقل العرقي، وهو ما يعني التسليم بمبدئين أساسيين في الفكر اليساري الإسرائيلي، والعمالي على نحو خاص، كانا في أصل انطلاق عملية التسوية برمتها، اتفاقية أوسلو وما تلاها حتى الانتفاضة الثانية. وهكذا، قد يكون صحيحا القول بأن شارون التحق فعلا بمواقع اليسار في ذلك الصدد، إلى درجة المخاطرة بالقطيعة مع بعض تيارات عائلته اليمينية التقليدية. غير أن القول بذلك لا يعني إلا نصف الحقيقة، أما نصفها الثاني فيتمثل في أن اليسار، بدوره ومن ناحيته، قد التحق بمواقع اليمين، في ما يتعلق بإبداء أقصى درجات التشدد حيال الفلسطينيين، واستبعاد التسوية معهم، بذريعة انعدام "الشريك" أو بأيه ذريعة أخرى، بحيث لم يبق وفياً لتلك المقاربة سوى أطراف يسارية هامشية ومحدودة التأثير، شأن الموقعين على وثيقة جنيف يوسي بيلين ومن ماثله وبعض دعاة السلام من المجتمع المدني. وهنا تكمن أهم دلالات مبادرة شارون الأخيرة. فهي تبدو بمثابة المقدمة لصياغة أو لسبك إجماع إسرائيلي جديد حول النظرة إلى المسألة الفلسطينية، يقوم على أمرين أساسيين: استدخال اليمين للهاجس الديموغرافي أي التهديد السكاني العربي، ذلك الذي كان عنه ذاهلا، أو يُحلّه مرتبة دنيا وثانوية قياسا إلى هاجس الأرض والتوسع الترابي هذا مع التنويه بأن غزة لا تندرج أصلا في أرض إسرائيل التوراتية، مقابل استدخال اليسار الإسرائيلي لهاجس التشدد حيال الفلسطينيين واستبعاد التسوية معهم، حتى وإن تحقق ذلك من خلال القضاء على كل شريك محتمل، والشكوى من غيابه بعد ذلك. وهذا، بالمناسبة، ما قد يفسر قلة اكتراث شارون بأن تتحول غزة، وقد نال السلطة الفلسطينية ما نالها من انهيار صنعه شارون إياه، إلى "حماس-ستان"، على ما تخوّف الكثيرون، ما دامت الحركات الأصولية الفلسطينية، مهما بلغت من البأس والقوة، لا يمكنها أن تضطلع بدور "الشريك" في أية تسوية، حتى إن أرادت، إذ دون التفاوض مع "الإرهابيين" ممنوعات كثيرة، داخلية ودولية. وهذا الاجماع الإسرائيلي المُستحدث أو المستجد، قد لا يبشر بخير حتى وإن لبس لبوس تفكيك المستوطنات وتذرع به. إذ هو يتخذ هيئة التقاء التيارين الأساسيين في السياسة الإسرائيلية عند أكثر المواقع تطرفا، أو أبعدها عن التوصل إلى تسوية عادلة، تتيح للفلسطينيين حقوقهم الوطنية. ففي نهاية المطاف، لن يكون التخلي عن "أرض إسرائيل الكبرى" بالتضحية الفادحة، إن أفضى إلى سجن الفلسطينيين داخل "معازل" ليست لهم عليها من سلطات غير تلك الإدارية، ولا نبذ فكرة التسوية بالأمر الفاضح، إن تم التوصل إلى الفصل السكاني، والحفاظ على يهودية الدولة، بوسائل أخرى. وإذا كان مطلب شارون التوصل إلى "حل" للمشكلة الفلسطينية دون تسوية، فمبادرة الأيام الماضية آخر فصول تلك الاستراتيجية، بعد تدمير السلطة الفلسطينية، قوام الوجود السياسي للشعب الفلسطيني، وبعد الجدار الفاصل، وهو أداة ضم للأرض وعزل للسكان في الآن نفسه.