تعزز الجدل أخيراً حول طبيعة الدور الإقليمي لمصر، خصوصاً مع ما يلحظه البعض من تراجع وانحسار لهذا الدور، بشكل أفقده الكثير من زخمه وبريقه اللذين ميزاه طيلة العقود الأربعة الماضية. ومن دون الخوض في تفسير محددات تراجع هذا الدور ومسبباته، خصوصاً في ما يتعلق بالشق الخارجي منها، وما فرضته أحداث العقد الماضي من تغيرات في البيئتين الإقليمية والدولية، وما أضفته من مفردات جديدة دفعت الى إعادة التفكير في هذا الدور طوعاً أو إجباراً، نرى أن ثمة خيطاً رفيعاً يربط بين قضية الديموقراطية على المستوى الداخلي ودرجة فاعلية الدور الإقليمي. ويمكن القول إن تغير البيئة الإقليمية والدولية قد لا يكون مؤثراً في تقرير مفردات الدور ما لم تتوافر المحددات الداخلية اللازمة لبروزه. أي أن الزعم بضعف الدور الإقليمي لبلد ما بدعوى ما تفرضه تغيرات البيئتين الإقليمية والدولية لهذا البلد من تحديات ومتطلبات قد تحجم من هذا الدور، فإن هذا لا يقلل مطلقاً من وجود محددات داخلية تلعب دوراً مهماً ومؤثراً في وجود مثل هذا الدور أصلاً وبالتالي في مدى قوته أو ضعفه. وإذا كانت أدبيات العلاقات الدولية تؤكد على مدى الارتباط الوثيق بين المحددات الداخلية والخارجية في تشكيل السياسات الخارجية للدول، يمكننا الزعم بأن قضية الديموقراطية تشكل عنصراً داخلياً مؤثراً في توجهات السياسة الخارجية لأي بلد، وبالتالي في دوره الإقليمي، حيث تدفعه نحو مزيد من الظهور والفاعلية، أو نحو مزيد من التراجع والانحسار، بحسب درجة التمتع الداخلي بمفردات العملية الديموقراطية قولاً وممارسة. وفي معرض تناولنا الدور الذي يمكن أن تلعبه الديموقراطية في تقوية الدور الإقليمي للدولة وتدعيمه، تجدر الإشارة أولاً إلى ثلاث نقاط نعتقد بأنها على درجة من الأهمية لفهم طبيعة العلاقة الجدلية بين الديموقراطية والدور الإقليمي للدولة، الأولى هي أن الدور الإقليمي للدولة لا يعني بالضرورة أن تغتنم الدولة أي فرصة - إقليمية - للظهور وإبداء الرأي بقدر ما هو مرتبط بمدى قدرة هذه الدولة على التأثير في مجريات الأحداث في محيطها الإقليمي. بعبارة أخرى يصبح الدور الإقليمي للدولة محل اهتمام ونظر إذا ما ارتبط بقدرتها على التفاعل مع الأحداث المتسارعة - إقليمياً - ورسم دور محدد للدولة، حيث يصبح الرجوع إليه ضرورة ملحة، وبحيث يشكل حقيقة ثابتة في إدراك الفاعلين الآخرين له في المحيط نفسه. والنقطة الثانية هي أن العلاقة بين المتغيرين الديموقراطية والدور الإقليمي ليست حتمية وليست إيجابية على طول الخط، فهناك دول قد تنخفض فيها درجة الديموقراطية، في حين تلعب دوراً إقليمياً مؤثراً كوريا الشمالية مثالاً. وإن كان هذا الافتراض لا ينفي طبيعة العلاقة الموجبة بين المتغيرين كقاعدة عامة. أما النقطة الثالثة فهي التأكيد على عدم الوقوع في إشكالية العلاقة بين المصلحة الوطنية للدولة وعلاقتها بالديموقراطية في تحديد ماهية الدور الإقليمي للدولة، على غرار ما يفعل البعض. فبمزيد من التروي وعمق التحليل تتجلى بسهولة مدى العلاقة القوية بين مفردات الممارسة الديموقراطية وطبيعة المصلحة الوطنية ودورهما معاً في رسم الدور الإقليمي للدولة. وتكتسب الديموقراطية عموماً أهميتها في بلورة شكل قوي لأي دولة خارجياً من كونها تصب في اتجاه خلق سياسة خارجية فاعلة لهذه الدولة، في شكل ينعكس تلقائياً على دورها الإقليمي، والديموقراطية في التحليل الأخير تقوم على المكاشفة والمصارحة وتبادل الرأي أو ما يطلق عليه "Political Arena" في شكل يعكس الدعم الداخلي للمواقف الخارجية للدول ويعظم من فرص الدولة في اتخاذ قرارها الخارجي في شكل أكثر صواباً وتأثيراً. وعليه يصبح مدى اقتراب الدولة من ممارسة مفردات الديموقراطية أو ابتعادها عنها، معياراً مهماً في تحديد أبعاد دورها الإقليمي وقوته المفترضة، ولذا فليس غريباً أن تتميز الدول ذات الممارسات الديموقراطية الراقية بسياسة خارجية أقوى من غيرها وبالتالي بدور إقليمي أكثر حيوية من الدول ذات الرأي الواحد والانكفاء الداخلي، وأمثلة الأولى كثيرة، منها - إقليمياً - إيران وتركيا وحتى إسرائيل ذاتها، وعالمياً الولاياتالمتحدة وغيرها من الدول المتقدمة. وأمثلة الثانية أكثر، ومنها - إقليمياً - ليبيا وسورية ومصر بشكل نسبي، وعالمياً الصين وكوبا وحتى روسيا على رغم انفتاحها أخيراً وبشكل نسبي أيضاً. الأكثر من ذلك فقد يصبح للدور الإقليمي- على رغم اعتباره متغيراً تابعاً للديموقراطية - أهمية في توسيع المساحة الديموقراطية في الدولة، فهناك دول حين تواجه مأزقاً إقليمياً قد تضطر إلى الرجوع إلى محيطها الداخلي لمعرفة رد فعله على هذا المأزق حيث يصبح أي قرار لحل المأزق تعبيراً عن الرغبة الداخلية أو استجابة لإفرازاتها، ما قد يوفر لصانع القرار فرصة النأي بنفسه عن تحمل تبعات هذا القرار بمفرده، ما يؤكد أن العلاقة بين المتغيرين قد تصبح تبادلية صعوداً وهبوطاً. وبالتطبيق على مصر يمكن الزعم بأن قضية الديموقراطية، وإن لم تكن تمثل معياراً أساسياً في الحكم على مدى قوة دور مصر الإقليمي من عدمه خلال المراحل التاريخية السابقة، إلا أنها حالياً تمثل مطلباً ملحاً لعودة هذا الدور إلى سابق عهده. وذلك انطلاقاً من درجة الانفتاح السياسي التي عمت مختلف النظم السياسية العربية عموماً ومصر خصوصاً، وهو ما يتطلب ربط الدور الإقليمي للدولة بالممارسة الديموقراطية، انطلاقاً من التنبه لإفرازات التفاعل السياسي الداخلي بين مختلف القوى السياسية المصرية في ما يتعلق بالقضايا الإقليمية، ووقعها المفترض على تحديد مفردات الدور الإقليمي لمصر. وهناك حال التشابك والتقاطع التي باتت تميز العلاقة بين البيئتين الداخلية والإقليمية، ما يعني إجمالاً انعكاس أحداث البيئة الإقليمية على تفاعلات نظيرتها الداخلية - الشد والجذب الداخليان - وهو ما قد يصب في التحليل الأخير في المطالبة بدور إقليمي أكثر قوة يتناغم مع متطلبات البيئة الإقليمية. ومن قبيل البلاهة السياسية عدم الربط بين مفردات البيئة الداخلية وما تفرزه من مطالب وتوقعات قد تشكل في مجملها مدخلات للدور الإقليمي المصري، وتدفعه باتجاه الصعود بغرض إشباع الرغبة الداخلية الملحة لذلك، ومن دون الوقوع في جدلية أيهما أولى الديموقراطية أم المصلحة الوطنية كمحدد للدور الإقليمي. ومصر بعد أن كان ينظر إليها باعتبارها إحدى الديموقراطيات الواعدة في المنطقة، نجدها لم تعد تلقى النظرة نفسها، مقارنة بغيرها من التجارب الديموقراطية الناشئة في المنطقة. وغير خفي انعكاس هذا على الدور الإقليمي لمصر، فديموقراطيتها تعني - جزئياً - النظر إليها كمثل، ما قد يسهل قبول دورها الإقليمي بصورة نسبية، والعكس صحيح. من ناحية أخرى فإن ارتباط الديموقراطية بالدور الإقليمي لمصر وإن لم يظهر بشكل جلي، بل ولم يتم التطرق إليه من قبل، فليس مرد ذلك لضعف العلاقة بين كلا المتغيرين بقدر ما هو مرتبط بوجود عناصر أخرى كان يستعاض بها للعب دور إقليمي مؤثر أكثر من قضية الديموقراطية ذاتها. لذا فلم يتم الحديث عن علاقة الديموقراطية بدور مصر الإقليمي، إلا أخيراً وبعد انحسار - أو اختفاء - هذه العناصر الأخرى. وهو ما تبرزه بشكل قوي الخبرة التاريخية إبان فترة حكم الرئيس جمال عبدالناصر. فعلى رغم اختفاء مظاهر الممارسة الديموقراطية من الحياة السياسية المصرية آنذاك، إلا أن أزهى فترات الدور الإقليمي القوي لمصر ظهرت إبان تلك الحقبة، نظراً لوجود عناصر أخرى دعمت هذا الدور وأكسبته زخمه وحيويته ليس أقلها الطبيعة الكاريزمية لعبدالناصر، والطبيعة الأيديولوجية لنظامه، ناهيك عن طبيعة البيئة الخارجية وقتها. في المقابل انخفض دور مصر الإقليمي - في شكل نسبي - إبان فترة حكم الرئيس السابق أنور السادات وذلك نظراً لعدم توافر بعض من تلك العوامل الأخرى، خاصة في ما يتعلق بعامل الكاريزما، وهو ما حدا بالسادات إلى توسيع فكرة الممارسة الديموقراطية - ولو نظرياً وبالمقارنة بالرئيس عبدالناصر - ناهيك عن اعتماد السادات نهج المغامرة السياسية والتي صبت في بعض الأحيان في إبراز دور مصر الإقليمي بغض النظر عن سلبية هذا الدور أو إيجابيته، فعلى الأقل كان موجوداً. ولا جدال في أن فترة الرئيس حسني مبارك وإن شهدت في بدايتها بروزاً للدور الإقليمي لمصر خاصة في قضية الصراع العربي - الإسرائيلي وحرب الخليج الثانية، إلا أن مظاهر هذا الدور انحسرت - وبشكل ملحوظ - مقارنة بحقبتي عبدالناصر والسادات، وذلك من دون إسقاط مستجدات البيئتين الإقليمية والدولية. وإذا كانت المصلحة الوطنية لمصر اقتضت في وقت ما تقليص هذا الدور - طواعية - إلا أن هذا لا يعني أن يصبح التقليص أمراً معتاداًً، أي لا تصبح هذه المصلحة مبرراً لتقليص هذا الدور مستقبلاً. بل على العكس من ذلك فالمصلحة الوطنية لمصر حالياً تتطلب تقوية الدور الإقليمي عن ذي قبل، إن لم يكن بهدف إثبات الوجود، فعلى الأقل بهدف درء تبعات هذا الانحسار. * كاتب مصري.