وقف محمد وقد قارب وجهه المكلل بنظارة طبية سميكة على الالتصاق بالواجهة الزجاجية للوحة الاعلانات الضخمة المثبتة على سور سفارة الدولة "الأقوى" في العالم. امضى محمد بضع دقائق يجول بعينيه على الاوراق المثبتة، ثم سارع باخراج ورقة مهلهلة من جيبه وقلم وأخذ يدون معلومات. لكن محمد يبدو من هيأته وملامحه أنه مصري، واللوحة التي يقف امامها خاصة بطلب اعادة توطين لجنسيات بعينها. وهو ينفي عن نفسه صفة الجهل بسرعة، ويؤكد معرفته بأنه كمصري لا يندرج تحت هذه الفئة، لكنه يمعن النظر في بعض المعلومات عله يجد ثغرة ينفذ منها الى ارض الاحلام. صحيح ان لغته الانكليزية "معقولة" بحسب ما يقول، وهي في غالب الظن ضعيفة جداً، وصحيح أن "خبرته العملية والمهنية في بدايتها"، اي في الواقع معدومة لأنه تخرج في معهد الدراسات الفندقية قبل شهور ولم يفلح في العثور على عمل بعد، الا انه على يقين بأن المستقبل ينتظره فاتحاً ذراعيه في اميركا. وعلى رغم انه لا يحلم بالتفاصيل، لكن الاطر العريضة والاساسية لتحقيق حلمه معروفة. سيسافر الى الولاياتالمتحدة، ويقبل اي عمل حتى لو كان بسيطاً، "فالرواتب هناك بالدولار ومهما كان بسيطاً، فهو افضل من افضل شغلانة في مصر". وبعد أن يثبت قدميه، سينتقل محمد حتماً الى عمل افضل، ويتزوج إما جارته او ابنة خالته، "فكلتاهما من دينه، وعلى دراية بتقاليد مجتمعه، ويشتري لها شقة معقولة هناك". حلم محمد كبير كبر سور السفارة الشاهق، ومتمكن منه تمكن رجال الامن من المنطقة المحيطة بالسفارة، لكنه في الوقت نفسه مبهم ابهام الرؤية الاميركية لمستقبل محمد والملايين غيره من ابناء وبنات جيله. لكن الرؤية الاميركية ايضاً، وتحديداً الرؤية الهوليوودية نجحت في ما اخفقت فيه السياسة وهو خلق ملايين الاتباع لطريقة الحياة الاميركية، سيارات فارهة، وبيوت اشبه بالقصور، ونساء جميلات، واموال طائلة. وعلى رغم أن هوليود قدمت نماذج اخرى كثيرة للوجه الآخر من الحياة في اميركا من جرائم، وفقر، وامراض، وصراع طبقي، لكن لسبب او لآخر، لا يعلق في ذاكرة الشباب سوى النموذج الأول. شادي حسين 19 عاماً طالب جامعي في إحدى الكليات النظرية، المرة الاولى والوحيدة التي ترك فيها مصر كانت رحلة سياحية الى تركيا مع عائلته، لكنه يتكلم عن اميركا كأنها إحدى قرى الساحل الشمالي السياحية مثل مارينا ومراقيا. حتى أن أصدقاءه ينتقدونه لتبجيله الدائم للحياة في اميركا، على حساب المجتمع في مصر، ويقول احدهم: "لا تمر جملة من دون تعليق من شادي يسخر فيه من المصريين وتصرفاتهم، وفي كل موقف يقول لو كنا في اميركا لحدث هذا، ولو كان هذا اميركياً لقال ذاك، حتى اصبحنا نطلق عليه لقب مستشار بوش الفخري في مصر". لكن يبدو أن هذه الانتقادات لا تثني حسين عن التحدث بلسان العم سام. تامر فتحي 19 عاماً قلما يتحدث مع اصدقائه عن اميركا، لكن تصرفاته ومظهره يقولان إنها تسيطر على تفكيره. ومبدئياً، يرتدي بنطلون جينز يبدو للوهلة الاولى أنه سيسقط بين لحظة واخرى من على وسطه مسبباً له فضيحة مدوية، لكن بعد لحظات من التمحيص والتدقيق، نجد أن شيئاً ما أوقف تزحلق البنطلون الى اسفل، وإن كانت جيوبه الخلفية توشك أن تصل الى منتصف الساق. أما القميص أو ال"تي شيرت" أو الشيء الذي يرتديه اعلى البنطلون، فهو من قماش مطاطي يبرز تفاصيل جسمه، وقد ترك أكمامه الطويلة مفتوحة من دون ازرار. واختار فتحي لسيارته الصغيرة التي اشتراها له والده بعد نيله شهادة الثانوية العامة غطاء للمقاعد مطبوعاً بألوان العلم الاميركي، اما عن الموسيقى التي يسمعها فيقول: "اسمع كل ما ليس عربياً، لا سيما اغاني الهيب هوب، والريغي". وتقتصر السلامات بين اعضاء مجموعة حسين وفتحي على لمس كل منهم لقبضة الآخر على غرار الزنوج الاميركيين. سلام آخر كان يهز ارجاء شارع متفرع من شارع جامعة الدول العربية في ضاحية المهندسين في الجيزة، لكنه كان نابعاً من سيارة واقفة براكبيها أمام مطعم للوجبات الاميركية السريعة، كان المغني "حكيم" يصيح بكلمات اغنية "اس اس السلام عليكم". كان راكبا السيارة في انتظار صديقهما الثالث الذي دلف الى داخل المحل يشتري للجميع البرغر والبطاطا المحمرة. تخرج الاصدقاء الثلاثة من الجامعة قبل نحو خمس سنوات وتراوح اعمارهم بين 27 و28 عاماً، يعمل كل منهم في شركة من شركات القطاع الخاص، ويجمع الثلاثة على ان حياتهم في مصر، على رغم صعوبتها التي تصل الى حد القسوة احياناً، افضل بكثير من العيش كمواطن "درجة ثانية" في بلد اجنبي مهما كانت المغريات. ويقول احدهم: "كنت كغيري من الشباب اتوق الى السفر الى ارض الاحلام خلال دراستي الجامعية، كنت مبهوراً بما اراه في الافلام والمسلسلات، وكنت انظر الى ما يكتب عن الحريات والديموقراطية والانفتاح وأنا مشدوه. لكنني كبرت، وبدأت الحقيقة تنجلي امامي بشكل أكثر واقعي". ويجمع الاصدقاء الثلاثة على نمو حاجز نفسي في داخلهم تجاه اميركا في العامين الماضيين، لكنهم في الوقت نفسه على يقين بأن الحياة في اميركا افضل... لكن للاميركيين. وفي موقف مشابه، وإن كان لاسباب مختلفة، يرفض وليد الحلواني 30 عاماً بشدة فكرة الهجرة الى اميركا، ويقول: "اسافر الى الولاياتالمتحدة الاميركية بشكل شبه دوري، سواء لقضاء عطلات او لانجاز بعض الاعمال الخاصة بمكتب والدي الهندسي الذي اشرف عليه. الحياة هناك مريحة وسهلة، ويكفي ان المواطن العادي يحصل على حقوقه كاملة من دون حاجة الى وساطة من احد، ومن يعمل بجد سيحقق حتماً النتيجة المرجوة، وهو ما نفتقده في مصر". ويشير وليد الى انه على رغم ذلك، لا يجد ما يدعوه شخصياً الى التفكير في الهجرة فهو ميسور مادياً وحاصل على درجة الماجستير من جامعة بريطانية، ويشتري كل ما يحتاجه من ملابس وكتب وغيرها في سفرياته الكثيرة. ويقف احمد نصر السيد 23 عاماً على طرف النقيض الآخر، تخرج في كلية التربية الرياضية العام الماضي، لكنه يقوم بمجموعة متفرقة من الاعمال لا علاقة لها بدراسته. ومنذ تخرجه دأب السيد، على سحب استمارة طلب تأشيرة دخول كلما مر من امام سفارة اجنبية، يقول: "كل ما ابحث عنه فرصةَ عمل مناسبة، وظروف مادية جيدة، ومعاملة حسنة". ويصنف حلمه بأنه "متوسط"، فيقول: "اريد شقة صغيرة ودخلاً معقولاً، امامي مسؤوليات مالية اسرية، إضافة الى مسؤوليتي انا شخصياً". ويؤكد احمد نصر السيد انه على استعداد لقبول اي عمل حتى ولو كان دونياً في اميركا كخطوة اولى تؤهله لتثبيت قدميه هناك، على أن يجد عملاً مناسباً في تخصصه في ما بعد، لكنه غير مستعد على الاطلاق لقبول عمل دوني في بلده، "أنا خريج جامعة، فكيف أقبل وظيفة اقل مني في بلدي؟". ويضيف: "وللعلم فإن اصدقائي يرون في نمرٍ اسود جديد "النمر الاسود" فيلم قام ببطولته الفنان احمد زكي في الثمانينات وقام بدور عامل بسيط لكن موهوب سافر الى ألمانيا وحقق نجاحاً كبيراً واصبح مليونيراً. الغريب ان الفتيات والشابات يقلن في ما يشبه الاجماع ان فكرة السفر او الهجرة الى خارج مصر تقتصر على فرصة الحصول على منحة دراسية لاستكمال دراساتهن العليا، او لمصاحبة الزوج. إلا أن عدم الرغبة تلك لا تؤثر على نظرتهن شديدة الايجابية للحياة الاميركية. تقول حُسن 18 عاماً: "ذهلت حينما رأيت في فيلم الفنان محمد هنيدي نظافة الشوارع، وخلوها من الازدحام، وكثرة الحدائق والمتنزهات، والناس كمان شكلها حلو وشعرهم ناعم". وتتحدث منى جلال 23 عاماً بعمق أكبر، فتقول: "الحياة هناك كما تبدو في الافلام والمسلسلات مبهرة، لكن لا عاداتنا ولا تقاليدنا ستسمح لنا بالتأقلم في مثل تلك البلاد، حتى الفتيات المصريات حينما يقلدن الاميركيات في طريقة ارتداء الملابس يكن اشبه بالقطة التي تحاول جاهدة تغيير موائها الى نباح". "هذا المجتمع للفرجة فقط"، تقول ميرنا حسين 24 عاماً مؤيدة صديقتها، لكن حديثها يعكس نوعاً من التطلع وكثيراً من الاعجاب: "كل شيء هناك يبدو جميلاً، والناس رائعين، ولا هموم لديهم، ويكفي انهم لا يستيقظون من نومهم صباحاً وهم متخوفون من ازدحام المواصلات، وسخافة السائقين، هذه هي الحياة وإلا فلا، لكنها لا تناسبنا فكيف يكون شكلي أنا مثلاً لو سافرت هناك مع زوجي وأنا ارتدي هذا الخمار؟". المؤكد ان العلاقة التي تربط الكثير من شباب مصر بالدولة "الأكبر" في العالم هي ما يطلق عليه "علاقة حب - كراهية" فهم يحبونها لانها براقة، وتتمتع بعناصر الجذب الشبابي، وتدق حبها منا على أوتار مشاكل الشباب المصري المتراكمة، لكنها تبدو بعيدة المنال لاسباب اجرائية ونفسية ومجتمعية ودينية. حتى قصص النجاح التي كان يتناقلها الشباب في سبعينات وثمانينات وحتى تسعينات القرن ال20 تبخرت وحلت محلها قصص التنقيب في الجذور بحثاً عن حلم ضائع.