قد لا يحس مسلمو بروكسيل بالنعمة التي يعيشونها في هذه المدينة الكسموبوليتية المتعددة. فأجواء رمضان في العاصمة البلجيكية قد تعتبر الأقرب إلى أجواء الشهر الفضيل في بلاد الإسلام منها في كل عواصم الغرب، حتى أنك قد لا تكاد تفرق بين أجواء موعد الإفطار في بعض أحياء مولنبيك وسكاربيك وأندرليخت ذات الغالبية المسلمة وبين مثيلاتها في طنجة أو إسطنبول. فمسلمو بروكسيل لا يعانون من أي خصائص على مستوى السلع الاستهلاكية الرمضانية، إذ بمجرد التجوال في بعض الأحياء "الماروكسيلية"، حيث نسبة مهمة من السكان من أصل مغربي حتى تجد نفسك تتنزه بين أطباق الحلوى الشباكية والبقلاوة والقطايف والحلويات الرمضانية من مختلف اللّذات. فالأكلات الرمضانية صارت تضاهي البطاطس المقلية وتتفوق عليها في شكل واضح ساعة الإفطار. أما الشاي بالنعناع فيُكرع منه بعد الحريرة ما يجعل هذاالمشروب الوطني يغار من هذا المنافس الورع الآتي من جنوب المتوسط. وإذا كان رمضان شهراً للتضامن مذ جاء الإسلام فإنه يتجسد في بروكسيل في شكل لا غبار عليه. فإذا كان من العادي بالنسبة الى الصائم وهو يغذّ الخطى ساعة المغرب في عاصمة إسلامية أن يجد أكثر من متطوّع لإفطاره وإن على شق تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن. فإنه هنا لن يقبل بأقل من فطور كامل بتمره وحريرته وبحلوته الشباكية أيضاً. فعلاوة على المساجد التي كانت ولا تزال تقترح الإفطار على روادها، فإن المقاهي بدورها دخلت على الصف لاقتراح إفطار مجاني للصائمين. فإذا أدركك أذان المغرب في شارع موريس لومونيي مثلاً، فإنك ستحار في اختيار مكان إفطارك. فكل من مقاهي المنامة، أفينيدا، تطوان، باسادينا وغيرها من مقاهي الجوار تتنافس بينها لتقديم أجود إفطار. في "مقهى تطوان" سألنا صاحبه ومديره المغربي الشاب هشام الشرايح عن عملية الإفطار لهذا العام فأجاب: "نحن نستقبل قرابة تسعين صائماً يفطرون يومياً في المقهى". لكن ماذا عن وجبة الإفطار؟ "مثل وجبة السنة الماضية، يجيب هشام، حليب وحلوى شباكية وتمر وخبز وبيضة مسلوقة". لكن أين الحريرة يا هشام وهي عماد الإفطار عند المغاربة؟ يستدرك هشام بلهجة شبه مستنكرة: "طبعاً هذا بالإضافة إلى الحريرة. أنا أركز كثيراً على الحريرة وأصر دوماً على أن تكون متقنة ومتوافرة. فالمفطرون غالباً ما يطلبون المزيد". رواد ساعة الإفطار من الصائمين ليسوا كلهم طلبة أو معوزين. بل فيهم الموظف والتاجر. هناك عزاب يعيشون وحدهم لذا فهم عندما يقصدون المقهى يقصدونه طلباً لأجواء الإفطار الجماعي. خالد الرباطي هو أحد رواد "مقهى تطوان" وهو يفطر يومياً فيه لكن خالد ليس عازباً. بل متزوج وزوجته بلجيكية. لذا فهو يجعل من مقهى محطة يومية طوال شهر الصيام. "زوجتي لا تصوم. وأنا لا أجبرها على ذلك. فأنا أحترم قناعاتها كما تحترم هي قناعاتي. لذا ولكي أعيش طقس الإفطار جيداً أقصد المقهى مباشرة بعد العمل. وبعدها أرجع إلى البيت حيث تكون زوجتي قد أعدت العشاء". طبعاً في مقهى عارم ومليء عن آخره، يبدو من الصعب إطعام تسعين شخصاً دفعة واحدة دونما إشراك جيش من المتعاونين. هشام له رأي آخر: "يلزم التنظيم فقط. طبعاً إضافة إلى الطاقم الذي يشتغل في شكل دائم في المقهى يتطوع ثلاثة أشخاص للمساعدة في عملية الإطعام. تكون الطاولات معدّة سلفاً وقبيل موعد الإفطار نوزّع الحريرة. ويلزمنا متابعة عملية الإفطار وبعدها ترتيب الفضاء ليصير مناسباً لطلب القهوة أو الشاي أو مشروبات أخرى كما يجدر بمقهى". هشام بعد اطمئنانه الى سير الأمور يغادر للإفطار مع أسرته الصغيرة: "أصرّ على الإفطار بصحبة الأسرة. ولهذا أفطر متأخراً ساعة كل يوم". ربما عملية إفطار من هذا النوع قد تكون مستساغة إذا ما تعلق الأمر بمسجد أو جمعية مدنية أو خيرية، لكن حينما يتعلّق الأمر بمحل تجاري يبقى السؤال مشروعاً. إذ كيف تموّل عملية الإفطار المكلفة هذه؟ "برحمة الوالدين" يجيب هشام قبل أن يستطرد: "أنا أخصص ما يناهز مبلغ 3000 يورو لعملية الإفطار. وبالطبع فرمضان عادة ما يكون مدخوله ناقصاً. لكن من يريد الربح فالعام طويل.".