استقبلت "غاليري لوموند" أواخر العام الفائت معرضاً للمعلم شفيق عبود، وهو معرض مثير لأنه يقتصر على القياسات اللونية الصغيرة التي ترسم مسيرته التطورية من عام 1960 وحتى العام 2000. يقدم المعرض فرصة للتعرّف على خصائصه العاطفية عبر محطات متباعدة. والسياحة في وحدة تناغم حساسيته بمعزل عن التصنيف الأسلوبي وخارج ركام المدائح النقدية التي بذلت للمعلم اللبناني. تبدو لويحات المعرض ألصق بروحه الشفافة، ترسخ مواصفات البساطة وتلقائية التعبير اللوني، ثم التواضع والبراءة الثقافية. تثبت عموم تجربته أن "اللون قدر التصوير"، ثم كما يقول هو نفسه: "يهمني الضوء أكثر من الشكل"، فالضوء لديه يمثّل مادة الذاكرة المكانية المتناسخة عن حبور المتوسط وحزن السين الناعس. إذا كان تيار "التجريد الغنائي" - الذي يعتبر فناننا عموداً بارزاً في دعائمه - قد طُويت تقاليده المألوفة منذ بداية الستينات، فقد امتد في نيويورك فأصبح "التعبيرية التجريدية"، ثم رفعت استعادة نهضته ثورة الطلاب عام 1967 فكان على قياس جماعة "الخامة والسطح Support Surface، تتوشح تجربة عبود بنتائج هذين الامتدادين، نحسّ بتسرب الحركية الى سلوك فرشاته، فتزداد عربدة في السنوات الأخيرة. كما يتبنّى عقيدة "المفردة التشكيلية" كما هي لدى فيالا وفان فيلد، وهكذا حتى يشارف بعضاً من اتجاهات "ما بعد الحداثة" في السنوات الأخيرة، هي النزعة التي ترفع الجدار بين التجريد والدلالة الواقعية أو الاشارة السحرية، يتظاهر تقدمه المخاطر في هذه المغامرات الشجاعة من خلال زيادة احتدام عجائنه وزيادة كثافاتها وفروقها الحادة مع السطوح الشفافة، فاللون يملك صوته الصباغي الأقصى محصوراً ضمن درجات من المشتقات الرمادية. هو الذي يذكر بخروج تياره من رحم تجارب بونار و"الديمومة التطورية" التي جسدتها فلسفة هنري برغسون. من الطبيعي أن ينتمي تجريد عبود الى هذه الفترة، هو من مواليد "بكفيا" لبنان لعام 1926، واستقر في باريس منذ عام 1947، يكمل دراسته للهندسة المعمارية التي كان ابتدأها في "الألبا" بيروت، ثم يمسّه سحر اللوحة التصويرية فيتحول الى سعيرها وأنغامها، يمنّي نفسه كل عام - خلال نصف قرن - بالعودة الى بيروت، من دون القدرة على الانخلاع من أُنس محترفه في حي "منسوري" باريس. تقع أهمية عبود خارج التصنيف النقدي باعتباره من التجريد الغنائي، تقع هذه الأهمية في قدرته على تطوير تراث هذه المدرسة بحيث لم يقع أي من معارضه الكثيفة السنوية في أدنى أسلبة أو تكرار أسلوبي. تتكشّف هذه الحيوية من خلال رعايته الى جانب نالار واكسوح لصالون "الواقعيات الجديدة"، هو الذي تأسس منذ عام 1945 على عقيدة التبشير بواقعية تجريدية أشد حقيقية من الدلالة الواقعية. يستعيد المعرض نجاحاته اللونية ما بين صالة "بروتي" ثم شحادة وبخاصة "غاليري فارس" الذي عرضه في مهرجان الفياك لمواسم عدة، ثم أخيراً ما بين صالتي ربيز ولوموند. فأصالة بحثه ترتبط بقدرته على التحول من مخاض الى آخر حتى لتبدو كل لوحة وكأنها منعطف جديد يندرج ضمن قوة توحده الأسلوبية. يغذي قلقه الوجودي مجاهداته للخروج من إسار الطمأنينة الأسلوبية. هي الطمأنينة التي نمّطها الكثير من التجريديين الشباب. يسعى مقلدوه في لبنان الى توصيف خرائطه التجريدية ضمن وصفة جاهزة اتباعية، تقنع بظاهر اغراءات تبرجاته الصباغية حتى نشأ تيار "فرانكوفوني" يغرف مداده من سهولة استهلاكية عوالم عبّود. يتطور المعرض باتجاه الصراع الثنوي الغريزي في الأداء، ومحاولة الحفاظ على بكارة الفعل الحدسي الأول، تتناسخ ذاكرة الضوء في تعددية الأمكنة، ما يعكس شمولية التجربة، هي تتراوح بين الذاكرة والنسيان، ينطبق هذا على انتسابه النخبوي الى رواد مختبر التجريد الغنائي سواد ممن سبقوه أو الذين عاصروه: بازين - بيسيير - مونيسييه - ميساجيه - سانجييه - استيف - فان فيلد، وبصورة خاصة الوجودي نيكولا دو ستائيل آخر العقد. يصل في هذا التواصل أخيراً حتى "مونوكرومية" ايف كلين، من ناحية سيطرة المقام اللوني الواحد، في المعرض لوحة ذات مشتقات زرقاء وأخرى حمراء وثالثة صفراء، كما أن جرأة مصادفاته المخبرية أو انفلات فرشاته ضمن سلوك عاصف مأزوم يرجع الى تأثيرات المدرسة النيويوركية. تغلّف شتى هذه الأوشحة التوليفية سمة حاسمة تنتسب الى "مدرسة باريس" وخصوصية ذوقية غنائيتها. تتظاهر هذه الخصائص منذ بدايته، وحتى أولى بشائر امتحانه لعكس الأطروحة الغنائية، لدرجة اننا نلحظ تباشير الدلالة الواقعية الخجولة من الشبحية الانسانية الى هيئة الغرفة والنوافذ الى المائدة الصريحة التي تحفل بما لذ وطاب من العجائن اللونية الشهية، هي الحسية الصباغية المنقولة بصورة غريزية في حقائب سفره من ذائقته اللبنانية - المتوسطية يخرج من هاجس التناغم الى المنازعات البصرية الجادة بين البارد والحار، العجيني والشفاف لدرجة يبدو السطح فيها منحوتاً بأنسجة متباعدة، يجمعها لون بارد حيادي، يجعل من اللون المشع مرصعات من الزمرد والياقوت، العقيق والمرجان المعلقة في الفراغ. لعله من أرهف الملونين العرب اليوم. هو الوريث الشرعي للمنظر البخاري والسديمي الانطباعي. مصرحاً في أكثر من مناسبة ان الخصائص الثقافية ليست من عمل المصوّر وذهنه وقراره المسبق وإنما من صنع مختبره الداخلي ومن دون قصد تراثي. تبدو أعمال المعرض صغيرة القياس، عملاقة التأثير والعاطفة، تتفوّق قوة ديناميكيتها على قياسها، تشير في حلتها القشيبة الى الربيع المتجدد الذي يملكه المعلم عبود، فخريف العمر لم يبلغ روحه الشابة أبداً.